ربما يكون وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى قد رأى وفهم ما يدور فى مصر. وربما يسحب قريبا كل تصريحاته «الخرقاء» والدبلوماسية التى أطلقها طوال ما يقرب من 48 ساعة كان فى القاهرة خلالها، التى كانت تعكس كل ما يدور من عصيانات مدنية ومواجهات عنيفة بين قوات الأمن التابعة للإخوان المسلمين وبين المصريين المنتفضين ضد حكم الإخوان فى كل مدن ومحافظات مصر. هذا الأمر يخص واشنطن: تسحب دعمها أو تسحب الوعود بالأموال، أو تماطل فى دفعها إلى أن تتضح الأمور، لا يهم. لكن الأهم هو أن حرص الولاياتالمتحدة على دعم الإخوان يمثل خطا استراتيجيا للإدارة الأمريكية الحالية، ينبع من وجود 3 ملفات هامة. الملف الأول، هو ملف الأمن الإسرائيلى. ولا شك أن الإخوان يوفرون كل الضمانات اللازمة لأمن إسرائيل، حتى ولو كانت هذه الضمانات على حساب الملف الأمنى المصرى على المديين المتوسط والبعيد. فمعادلة (قطر - حماس - الإخوان) تتحقق تدريجيا على خلفية السيناريو العام لأسلمة المنطقة، وطبعها بطابع دينى يوفر لإسرائيل ليس فقط الأمن، بل وأيضا يهوديتها الكاملة. الملف الثانى، هو ملف سوريا. إذ تدرك الولاياتالمتحدة جيدا، وتناضل من أجل ذلك أيضا، أن دمشق يجب أن تخضع لحكم (إسلام ديمقراطى جديد)! تماشيا مع الموجة السائدة فى المنطقة. وبالتالى، فسقوط حكم الإخوان فى مصر، يقلل من فرص تحقيق هذا الأمر فى سوريا، ويعطى دفعة للشعب السورى فى تحقيق نموذج حكم حديث لا استبدادى ولا دينى أو طائفى، وإنما نموذج قائم على وحدة الدولة والتحديث وتفعيل المجتمع المدنى وتدشين منظومة الحريات. ومن الواضح أن الملفين المصرى والسورى مرتبطان ارتباطا عضويا من وجهة نظر الولاياتالمتحدة والمحور الأوروأطلسى وقطر والسعودية. الملف الثالث، وهو ملف إيران الذى يعد أحد أهم الملفات الإقليمية - الدولية. وهذا الملف ضمن معادلة معقدة تتألف متغيراتها الإقليمية من (قطر والسعودية وتركيا وإسرائيل ومصر) إضافة إلى روسيا والصين من جهة، وأوروبا من جهة أخرى. هذا الملف المعقد يلقى بظلاله على المنطقة. ومن الصعب على واشنطن بمفردها أو إسرائيل بمفردها أو كلاهما التصرف فى هذا الملف دون مساعدة تركيا من جهة، ودول الخليج العربى من جهة أخرى. إذن، فملف إيران له أطراف عديدة ذات مصلحة مباشرة أو غير مباشرة. وبالتالى فدور مصر هنا محورى للغاية، لأن الإخوان المسلمين أعلنوا مسؤوليتهم عن ملف أمن الخليج. ودول الخليج أصلا لا تدخل فى حروب أو مواجهات مباشرة! أما تركيا فهى أكبر من أن تدخل فى مواجهة مع إيران لأسباب كثيرة داخلية ودولية. إضافة إلى أن تركيا تضطلع بملفات أكبر وأوسع نظرا إلى عضويتها فى حلف الناتو وثقلها الإقليمى والدولى. وعليه، فالمسؤولية تقع على عاتق نظام الإخوان فى مصر وعلى إسرائيل فى آن واحد. هذه الملفات الثلاثة تضع واشنطن فى مأزق حقيقى فى حال انهيار حكم الإخوان المسلمين فى مصر. ما سيسفر بطبيعة الحال عن انهيار السيناريو العام الذى تم اعتماده للمنطقة. وقد تكون الولاياتالمتحدة فى هذه الحالة مضطرة إلى اعتماد سيناريو إحراق المنطقة، أو غض البصر عن احتراقها، أو اعتماد خطة وسطية بالإسهام فى إشعال المنطقة بشكل غير مباشر، وخلط جميع الأوراق على أن تتعامل مع من سيخرج سالما من الانهيار الكارثى لكل دول المنطقة تقريبا. من الصعب أن نكون مثَاليين، ونطالب واشنطن بتغيير سياساتها. فهى لن تغيرها وستظل مستمرة فى دعم القوى اليمينية الدينية المتطرفة، وإذا ساءت الأمور، ستقوم بدعم القوى الجهادية كما حدث فى أفغانستان والعراق وليبيا. ولكن إلى الآن، يعتبر الإخوان هم الحليف المثالى المناسب لكل السيناريوهات الأمريكية والأوروأطلسية المتحركة. والمثير، أنه منذ بدء الانتفاضات فى شمال إفريقيا والشرق الأوسط، لم نعد نسمع عن تهديدات إرهابية لأمريكا وأوروبا. ولم تعد تُنَفَّذ هناك عمليات من تلك التى كنا نشهدها فى السنوات السابقة على عام 2011. فالمواجهات والعمليات انتقلت إلى حيث أُريد لها! الجديد هنا، أن القوى السياسية المعارضة الأكبر نفوذا وتأثيرا فى مصر أرسلت إلى الولاياتالمتحدة، خلال زيارة كيرى للقاهرة، رسالة واضحة ومفهومة ولا تحتمل التأويل. وأكد هذه الرسالة، المصريون أنفسهم من جميع محافظات ومدن مصر بفاعليات تاريخية. لقد أصبحت الأمور واضحة، وبات اللعب على المكشوف. وفى الحقيقة، لا يهمنا هنا أن نحذر واشنطن أو نهددها. كل ما فى الأمر أن المصريين قرروا مواصلة ثورتهم إلى أن تحقق أهدافها. وأصبحوا يدركون جيدا أن صناديق الانتخابات ليست أبدا هى الديمقراطية، وأن الدساتير تصاغ للشعوب، وليس من أجل المجموعات الدينية المتطرفة، وأن التحديث والتطور هو سنة التاريخ والحياة، وأن الفقراء وأطفال الشوارع والمهمشين أولا فى وطن يصل فيه تعداد هؤلاء إلى أكثر من 80 مليون نسمة من إجمالى تعداد المصريين الذى وصل إلى 92 مليون نسمة.