لم تتوان أفشل وزيرة خارجية أمريكية عن ترك «روشتتها» العرجاء للمنطقة قبل غروب الشمس عنها. فقد أعربت عن أملها فى أن لا يؤدى ما يحدث فى مصر إلى تفككها وانهيارها، محذرة من أن ذلك سيؤدى إلى فوضى وعنف على نطاق مدمر لها وللمنطقة! وأكدت أن الرئيس محمد مرسى لديه كثير من «النوايا الصحيحة»، وأنه هو وفريقه يحاولان التعامل مع قضايا الاقتصاد والاستثمار والتجارة والسياحة والإصلاحات السياسية الضرورية. وشددت على أن أولويات الولاياتالمتحدة تشمل وقف التطرف فى مصر، ووقف الأسلحة القادمة عبر حدودها، واستعادة الأمن والنظام فى سيناء. وتهريب الأسلحة إلى قطاع غزة، والأسلحة التى يتم تمريرها عبر الحدود مع السودان. لقد تحدثنا منذ عامين عن رغبة واشنطن فى فرض سيناريو متحرك ومرِن للمنطقة قوامه المجىء بتيارات الإسلام السياسى إلى الحكم. وأن ذلك من شأنه وضع المنطقة على طريق الأفغنة لأسباب كثيرة ذكرناها فى وقتها وفى مقالات ودراسات عديدة، أهمها أن الولاياتالمتحدة والمحور الأوروأطلسى سوف يجدان الذرائع للتدخل فى شؤون المنطقة بشكل عسكرى مباشر وبقوة السلاح. وها هى الأمور تتوالى تباعا تحت حجة مكافحة الإرهاب، أو وجود مخاطر على شعوب المنطقة، أو الإضرار بالمصالح الأمريكية والأوروبية والاعتداء على مواطنيها. لقد قالت كلينتون أيضا: «إن العنف والتطرف فى شمال إفريقيا أصبحا يشكلان تهديدا لشعوب المنطقة». إن مشاركة الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية فى نقل الإرهابيين من أفغانستان والعراق وكوسوفو إلى دول شمال إفريقيا، ودعمهم بالسلاح وفى المحافل الدولية سوف يؤسس للوضع القائم حاليا. وحذرنا من أن دعم واشنطن وعواصم أوروبا العتيقة لأنظمة يمينية دينية متطرفة سيجر المنطقة إلى حروب أهلية وطائفية وعمليات قتل على الهوية وسيسفر عن دول فاشلة بكل المعايير مهما أجريت من انتخابات شكلية «حرة» تتميز «بالشفافية والديمقراطية». إن دول النسق الأفغانى يمكن أن نطلق عليها أيضا «الدول الفاشلة» بصرف النظر عما إذا كانت تمتلك أسلحة نووية (مثل باكستان) أو نفط وغاز (مثل العراق وليبيا). فالفشل هنا متعلق بالدرجة الأولى بمنظومة الحريات (وليس إطلاقا شفافية الانتخابات ونزاهاتها وديمقراطيتها) ومنظومة العلاقات الاجتماعية بمعناها العلمى الواسع. الآن وبعد مقتل السفير الأمريكى ومرافقيه فى بنغازى، والإضرار بالمصالح الفرنسية فى مالى، وظهور مخاطر حقيقية على المصالح الاقتصادية الغربية فى المنطقة، اكتشف الأمريكيون والأوروبيون أن التيارات اليمينية الدينية المتطرفة لم تكن على هذا القدر من القوة التى تمكنها من الدفاع عن مصالح الحلفاء الذين جاؤوا بها إلى السلطة. لكن المارد قد خرج من القمقم ولا أحد يستطيع إعادته مرة أخرى. ولأن الأمريكيين والأوروبيين براجماتيون، والحرب ليست على أراضيهم، فهم مطالبون الآن بإكمال الطريق حتى ولو قُتل نصف سكان المنطقة. فهل دول شمال إفريقيا والمنطقة العربية أفضل من أفغانستانوباكستان؟ هل التدخلات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية والأوروأطلسية فى باكستانوأفغانستان وكوسوفو دفعت بهذه الدول إلى الأمام ووضعتها على طريق المدنية والتحضر والحداثة؟ وماذا حدث فى العراق وليبيا والصومال والسودان واليمن؟ وماذا يمكن أن يحدث فى سوريا ومصر وتونس والجزائر؟ هذا الكلام لا يعنى إطلاقا أن تتخلى الشعوب عن تقرير مصيرها والحصول على حرياتها وحقوقها الطبيعية، وأن تقوم باحتجاجاتها وثوراتها ضد الاستبداد والرجعية والتخلف والإطاحة بأى نظام لا يلبى لها حاجاتها الإنسانية والاجتماعية ويعرض البلاد للمخاطر والأضرار اقتصاديا وأمنيا وجيوسياسيا. لكن تدخل الولاياتالمتحدة والمحور الأوروأطلسى فى حركة التاريخ وفى جوهر عمليات التحولات التاريخية فى شمال إفريقيا والمنطقة العربية أفسد بل ودمر العديد من جوانب وأوجه هذا التحول. وأصبحت تلك التحولات التى قامت بها الشعوب مجرد إجراءات شكلية سقطت فى أيدى التيارات اليمينية الدينية الفاشية بمساعدة ودعم مباشرين من جانب بعض القوى الإقليمية المتخلفة، والقوى الدولية التى تتعامل مع المنطقة كمتغير صغير فى معادلاتها السياسية والاقتصادية والجيوسياسية والجيواقتصادية الكبرى. الآن، تحولت المنطقة إلى جيوب للإرهاب! وأصبحت تشكل خطرا على حياة المواطنين الأمريكيين والأوروبيين، وتهديدا للمصالح الاقتصادية والسياسية والمالية الدولية الكبرى العابرة للقارات! وهذا تحديدا ما حذرنا منه منذ عامين. ولكن كل ما يدور فى المنطقة من قتل وإحراق وتدمير وحروب أهلية وطائفية وإراقة دماء لا يهم لا الولاياتالمتحدة ولا أوروبا إلا بقدر تحقيق مصالحها المباشرة وغير المباشرة. لا شك أن الأمريكيين والأوروبيين يفسرون حركة شعوب المنطقة الآن بأنها ضد مصالحهم ومصالح حلفائهم الإسلاميين. وبالتالى قد نفاجأ بسيناريوهات جديدة وأشكال أخرى من الأنساق لا لتعديل الأوضاع، بل لإكمال الطريق وترك هذه الدول فى ما بعد على نفس الوضع الذى توجد عليه أفغانستانوباكستان وكوسوفو.. وها نحن نرى العراق وليبيا واليمن ومالى والصومال. وقد تكون سوريا ومصر على الطريق! هنا يمكن أن نعيد ونكرر أن مصطلح «الربيع العربى» سيئ السمعة والصيت فى آن واحد، ليس السبب فى وضع المنطق على برميل من بارود الحروب الأهلية والطائفية وتحويل دول المنطقة إلى دول فاشلة. إن الهبات والاحتجاجات والثورات الشعبية التى قامت فى المنطقة، قامت لأسباب موضوعية وتاريخية مهمة. لكن ارتباط الأنظمة السابقة بالمحاور والتحالفات الأمريكية والأوروأطلسية أسهم فى تشويهها. وكذلك ارتباط الأنظمة اليمينية الدينية المتطرفة التى جاءت إلى السلطة بمساعدة الأمريكيين والأوروبيين يسهم أيضا فى إفساد هذه التحولات التاريخية المهمة.