د. أشرف الصباغ يكتب: الثورة المصرية والمشروع الأوروأطلسي الكبير للمنطقة د.اشرف الصباغ لا يمكن فهم ما يجري الآن في مصر، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلا بوضع مصر داخل إطار المشروع الأورو – أطلسي الكبير للمنطقة ككل. فكما تحدثنا في السابق عن "أفغنة ليبيا" واحتياج المشروع إلى نموذج أقرب لنموذج الحكم الباكستاني، تتضح بعض مقدمات هذا المشروع مع تعجل الولاياتالمتحدة للتدخل العسكري المباشر في ليبيا تحت مسميات عديدة شبيهة تماما بما حدث في أفغانستان هذا بعد نجحت القوى الغربية في تجهيز وإعداد ليبيا وتحويلها إلى ما يشبه المستنقع الأفغاني. وكذلك الصراع بين فرنسا وألمانيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي على النفط الليبي وسوق السلاح، والصراع أيضا بينها وبين الولاياتالمتحدة، وهو ما يمكن أن يسفر عن تفاهمات مشتركة بين هذه القوى لتقسيم تلك الكعكة. لكن المشروع الأمريكي الجديد أوسع من المشروع الأفغاني. فهو يسير على عدة محاور أساسية. الأول هو تشكيل محور سني ضد إيران بمباركة وتمويل ودعم خليجية واستعداد من الأنظمة الجديدة (تيار الإسلام السياسي المتحالف إما مع العسكر أو بقايا الأنظمة أو كلاهما) التي تتعاون في الأصل مع الولاياتالمتحدة أو على استعداد للقيام بالأعمال القذرة على غرار ما كانت امتداداتها السابقة تقوم به. والمحور الثاني، هو تقليص مساحة الوجود الصيني الاقتصادي والأمني والعسكري في تلك المنطقة. وإزاحة روسيا تماما عن سوق السلاح وأي أسواق أخرى محتملة. والمحور الثالث، التمكن الكامل والتام من ثروات المنطقة بعد ظهور أهمية "الغاز" واستخدام روسيا له كسلاح اقتصادي ضد أوروبا. إضافة إلى تزايد أهمية المنطقة جيوسياسيا واقتصاديا في ظل التمدد الصيني والمخاطر الإيرانية والأزمة الاقتصادية العالمية وإحساس روسيا بالخطر من جراء تقلص وجودها على كل المستويات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وبالتالي، فالتدخل الغربي المباشر أمر واقع لا مفر منه، لأنه إذا كانت أهداف الولاياتالمتحدة والعديد من الدول الغربية تتلاقى الآن مع أهداف الأنظمة (العسكرية – الإسلامية) التي تتشكل الآن في المنطقة، فواشنطن، والغرب عموما، يعرفان جيدا أن هذه الأنظمة توافق على أي شئ للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها مقابل الاستخدام وتنفيذ الأعمال القذرة كخطوة أولى، من وجهة نظر هذه الأنظمة، للاستقلال وإقامة دولة الخلافة ومن ثم الدخول في مواجهة مع الغرب والولاياتالمتحدة عندما ترى في نفسها القدرة على ذلك. وهو ما حدث في أفغانستان منذ نهاية السبعينات وحتى الشقاق بين طالبان وواشنطن ثم ظهور القاعدة. في ضوء هذه المعادلة يمكن أن نرى مقدمات وملامح النظام المقبل في مصر. فلن يتم وضع دستور واضح لمصر. وسيتم تلفيق انتخابات رئاسية تحافظ على الوضع القائم وتكرس للنظام المقبل الذي لن يختلف كثيرا عن نظام مبارك أو النظام الحالي غير المستقر. أي ببساطة سيتم وضع دستور شكلي تماما ومفرغ من كل المضامين وإجراء انتخابات رئاسية، ثم أخرى نيابية من أجل استقرار النظام الحالي الذي تشكل خلال عام 2011 والنصف الأول من عام 2012. والمعركة الحقيقية الآن على "رئيس توافقي" شبهه بعض الأدباء والنقاد بشخصية "محجوب عبد الدايم" في رواية "القاهرةالجديدة" لنجيب محفوظ، والتي جسدها الفنان حمدي أحمد في فيلم "القاهرة 30". غير أن ما يمكنه أن يفسد كل هذه المعادلة هو التغيرات الحقيقية التي جرت خلال عام 2011 في المجتمع المصري. ففي الوقت الذي رأى فيه المجلس العسكري أن الثورة نجحت بتنحي مبارك وأسرته عن السلطة، ورأى الإخوان المسلمون والسلفيون أن الثورة وصلت إلى قمة نجاحها بدخولهم على حصان أبيض إلى مجلس الشعب، يرى الشعب نفسه أن الثورة لم تحقق له ولو حتى الحصول على عمل وكسرة خبز وحياة آمنة. وبالتالي يتم وضع الشعب أمام خيار ساذج وكلاسيكي: "الأمن والاستقرار أم الحرية والديمقراطية؟". لكن الخيار الأخطر هو: "إما نحن أو الحرب الأهلية!"، وهو قريب من الخيار الذي طرحه حسني مبارك قبيل تنحيه: "أنا أو الفوضى". كل ذلك أثر على حياة المصريين ووعيهم وغيرهما بشكل تاريخي غير مسبوق. هنا تحديدا يمكن أن يتطرق الحديث إلى التيارات الليبرالية واليسارية والوطنية رغم خلافاتها مع بعضها البعض، وخلافاتها الداخلية سياسيا وتنظيميا. ولكن جبهة الشباب – إذا جاز التعبير – لها موقفها الواضح الذي يمكنه أن يغير الكثير من المعادلات. فهناك مبدأ واحد لا يتجزأ من قسمين: "ثورة سلمية ولا تدخل أجنبي"، وهو ما يضع الجميع، وبالذات النظام العسكري – الديني في مأزق شديد داخليا وخارجيا. لا شك أن القوى الوطنية والليبرالية واليسارية تكاد تكون غائبة عن الشارع. ولكنها في العام الأخير بدأت تظهر بوضوح رغم كم الانتهازية الواضح والأدوات الكلاسيكية والشبهات التي تدور حولها في علاقاتها بنظام مبارك أو انتظار نصيبها من الكعكة. ولكن "رمانة الميزان" التي يمثلها الشباب تفسد للجميع طبخاتهم. ويبدو أن الشرط الضمني لهذه الجبهة هو أنها ستكون مع من يلتزم بمطالب الثورة، وعلى رأسها العدالة الاجتماعية والمجتمع المدني والدولة اللادينية واللاعسكرية. وهذا تحديدا ما يجعل الغرب يتعامل بحذر مع كل القوى عدا العسكر وتيار الإسلام السياسي. لأن مطالب الثورة تعمل بالفعل على إعاقة المشروع الأمريكي أو الأورو – أطلسي، وتقلص مستقبل وجود العسكر والإخوان في السلطة. من هنا أيضا يجري التعتيم الكامل على وجود القوى الوطنية والليبرالية واليسارية إلى جانب التعتيم الكامل على حجم تأثير ونفوذ جبهة الشباب وتصوير الأمور على أنها مجرد "فورة شباب" أو "بلطجة" أو "مطالب فئوية" أو "احتجاجات عفوية" أو "عمالة لدول أجنبية". ولكن الأشهر القليلة المقبلة ستكشف الكثير من أهمية الثورة المصرية ليس فقط داخليا وإقليميا، بل ودوليا أيضا. والأمر بالفعل يتوقف على شباب الثورة تحديدا، واستمرارها في مواجهة النظام العسكري – الديني من جهة، والتكتل الإقليمي الرجعي الذي يرعى تنفيذ المشروع الأورو – أطلسي من جهة ثانية، بل والمشروع الأورو – أطلسي نفسه من جهة ثالثة. فمطالب مثل العدالة الاجتماعية والمجتمع المدني ودولة المواطنة، تمثل مشروع تحديث تاريخي لمصر، الأمر الذي يهدد بشكل مباشر المصالح الاقتصادية والمالية والمشاريع الطائفية والعنصرية لا في الداخل المصري فقط، بل وفي المحيط الإقليمي الذي أصبح ناضجا للعمل ضمن المشروع الأورو – أطلسي.