اقتربت لحظة بدء استكمال الاستحقاق الثالث، وإتمام خريطة المستقبل، لحظة تقرير المصير، لحظة انتخاب نواب الشعب للبرلمان، أنتم أيها الناخبون والناخبات -دون سواكم- أصحاب القول الفصل، أنتم أهل القرار، أنتم أصحاب الشأن. وفى أيديكم -دون غيركم- حق الفرز والاختيار، تفرزون الصالح من الطالح، تشهدون على الجميع، ولا تكتمون الشهادة، ترفعون إلى مجلس النواب من ترونه جديرًا بتمثيلكم والتعبير عن طموحاتكم وآمالكم، تختارون من يعيش مشكلاتكم ولا يتاجر بها، تصطفُّون حول من يتطوع للخدمة العامة وليس من يسعى لخدمة أغراض خاصة . لن تتقدم مصر والبعضُ من أبنائها يتنازل عن حقه فى الاختيار والقرار، ولن يتقدم هذا الوطن والبعضُ من أبنائه يلجأ إلى السلبية واعتزال الشأن العام. لن يرقى هذا الشعب الكريم فى مدارج الحرية والديمقراطية بينما البعض من أبنائه يدعون إلى مقاطعة انتخابات مجلس النواب، هؤلاء يحرمون أنفسهم من المشاركة فى السباق، ويحرمون الوطن من جهدهم وحضورهم، هؤلاء لا نعتبرهم منعدمي الضرر إنما نعتبرهم منعدمي الفائدة. مع احترامنا الكامل لحق كل مصري فى الاختيار، نحن مع الرأي القائل بحتمية المشاركة في السباق الانتخابي مهما كانت صعوباته وتحدياته، ونرى في المقاطعة والتكاسل نوعًا من التسرع فى الحكم على تجربة ديمقراطية وليدة وعلى خبرة حزبية ناشئة، تقطع الطريق على المستقبل الذى لن يكون إلا ثمرة لكفاحنا الدؤوب في سبيله، حتى نُورِّث لأبنائنا دولة مدنية ديمقراطية معاصرة، ينعمون تحت ظلالها بأمان لا خوف معه، وباقتصاد لا فقر فيه، وبحرية لا استبداد فيها، وبنظام لا تسيُّب معه، وبكرامة لا تعرف الإهانة، وبطهارة لا ينازعها الفساد، وبعدالة لا ترهقها المظالم، وباستقرار لا تفسده الاضطرابات التى تكاد تعصف بالدول والشعوب من حولنا. وهنا نحب أن نصارح كل ناخب وناخبة، بعدد من الحقائق التى نراها تفرض علينا ذكرها بمناسبة هذا الحدث الوطنى الهام: أولاً: الديمقراطية الحقيقية يصنعها كفاح الشعوب من أجلها، ويصنعها إيمان المواطن بها، انطلاقًا من قناعته بأنه، كمواطن، هو مالك هذا البلد، وهو صاحب القرار فيه، فهو ليس طارئًا عليه وليس عابر سبيل، بل هو مصدر السيادة، ويمثل السلطة الآمرة العليا، هو مصدر الشرعية، وهو صاحب المصلحة المشروعة فى مجلس نواب يمثل الشعب، ويرعى مصالحه، ويحفظ العقد الاجتماعى، ويؤكد سلطة المواطن لتتوازن مع سلطة الحاكم . ثانيًا: الديمقراطية ليست منحة من الحاكم ولن تكون، وليست هبةً تنزل علينا من السماء، ولكنها أسلوب حياة، علينا أن نمارسه ونحميه حتى نرى عوائدها وثمراتها تنبت ثم تنمو ثم تزهر ثم تثمر فى بلادنا. والناخب المصري عليه فى هذه اللحظة التاريخية الحاسمة أن يتقدم ليصنع تجربة رائدة تكون قدوة فى الإقليم كله، لن تتمكن مصر من القيادة الإقليمية دون أن تقدم قدوة ديمقراطية، وبيد الناخب المصري تقديم هذه القدوة، فيدفع بنفسه وببلده إلى مصافِّ الاحترام الجدير بالاحتذاء والاقتداء. ثالثًا: من أكتوبر 1866م حيث تأسس مجلس شورى النواب كأول تجربة برلمانية فى المنطقة، وحتى أكتوبر 2014م، حيث أول مجلس نواب فى ظل دستور 2014م الأكثر ديمقراطيةً فى تاريخ الدساتير المصرية، بين هذين التاريخين كافح المصريون، ولا يزالون يكافحون، نجحوا أحيانًا، وأخفقوا فى أحيان أخري، فى سبيل الحكم الدستوري الذى يمنع هيمنة الحاكم الفرد والسلطة الأبوية على مقدرات الشعب، فى سبيل الحكم النيابي الذى يترجم المقولة الشهيرة «الديمقراطية هى حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب»، النكوص عن المشاركة الفعالة هو أقصر الطرق لحكم الأقلية لصالح الأقلية وتغييب الوعي. رابعًا: مجلس النواب الجديد -رغم كل التحفظات- هو فرصتنا جميعًا لتأسيس حياة سياسية مدنية، لن تبدأ مثالية، ولن تولد مكتملة، ولن يُكتب لها النضوج من أول يوم، ولكنه خطوة هامة على الطريق، فهذا أول برلمان يتمتع بصلاحيات تتوازن مع صلاحيات رئيس الدولة، وهو أول برلمان بعد عقود طويلة جاءت فيها البرلمانات بالتزوير وبسلطة المال معًا، فلم تفلح فى التعبير عن إرادة الأمة المصرية، ولم تفلح فى أن تكون لَبِنَاتٍ فى صرح ديمقراطى قادر على البقاء والتطور. خامسًا: نحن نقدّر ونتفهّم مخاوف البعض، فلدينا تراث ضخم من الشك وعدم الثقة بالعملية السياسية، وبصفة خاصة فى الجانب البرلمانى منها، فكثيرًا ما كانت البرلمانات مجرد ديكور جميل فى صرح استبدادى قبيح، وكثيرًا ما كانت البرلمانات لُقمة سائغةً فى أيدى أهل السلطة وأصحاب المال ومحترفى التزوير ومتوارثى المقاعد تحت عصا النفوذ العائلى والتعصب القبلى، ولكن -مع تسليمنا بكل هذا- إلا أننا نؤمن أن هذا كان من الماضى، وعلينا أن ندفنه تحت ترابه، واجبنا أن نكافح حتى لا تنتقل هذه المثالب والعورات إلى مجلس النواب الجديد. نريد أن نجعل من هذه الانتخابات نافذةً إلى حياة سياسية نظيفة، ونريد من مجلس النواب الجديد أن يكون فاتحة الكتاب فى سجل برلمانى خالٍ من أوبئة الفساد العتيق وأمراض الاستبداد القديم، نريد له أن يؤسس للتقاليد البرلمانية الصالحة لتصبح ماضيًا عريقًا لمستقبل مشرق، بإذن الله. أخيرًا وليس آخرًا: لن نحصد أكثر مما نزرع، ولن يثمر الزرع إلا بقدر ما نتعهده بالرعاية الديمقراطية -فى كل العالم المتقدم- التي نضجت بعد كفاح طويل وجهاد متواصل.. وهذه هى رسالتى لكل ناخب ولكل ناخبة ولعموم الشعب المصري العظيم . والله من وراء قصد السبيل.