نواصل حديثنا عن نقد الاستشراق عند إدوارد سعيد، بعد أن أشرنا بسرعة إلى تأثيره العظيم على الدراسات الجامعية الغربية عن الآخر، فأصبحت كتبه مرجعا مفروضا على الطلبة فى مختلف التخصصات، تقرأ فى بداية مشوارهم العلمى، ونذكر هنا قبل تناول قضية نقد الاستشراق أن أى تقييم منصف لإدوارد سعيد يجب أن يقف إجلالا أمام دوره فى تعريف الغرب بالقضية الفلسطينية وبمأساة شعبها وفى الدفاع عنها وفى تحطيم الأفكار النمطية التى ترى فى كل فلسطينى إرهابيا أو مشروعًا إرهابيا. ومن الواضح أن فرقا بالكامل خلطت عمدا بين المسألتين، قضية فلسطين ونقد الاستشراق، فبعض من استاء من دفاعه عن فلسطين حاول أن يفند ويهد مقولاته عن الاستشراق لينزع عنه أى مصداقية علمية، وهناك من رفض أى تناول نقدى لمقولات سعيد لعدم الإضرار بالقضية الفلسطينية، ونرى أن هذا الخلط لا يجوز، وإن دل على شىء فإنما يدل على أدلجة الخطاب الأكاديمى الغربى، ولا نعفى سعيدا وعدوه اللدود برنارد لويس من المسؤولية لدورهما فى وصول الأمر إلى هذا الحد المريع. أعترف أننى لا أحب خطاب سعيد عن الاستشراق، مع ميلى إلى الاتفاق معه على القصور البنيوى فى الخطاب الغربى، وعلى كون هذا الخطاب يتحدث عن ذاته الغربية، ويفرض اهتماماته وتصوراته ونرجسيته على واقع عصى عليها، إلا أن لدى تحفظات على عديد من النقاط بعضها جوهرى، المشكلة مع سعيد أن بيان قصور تحليله يقتضى فى أحوال كثيرة التوقف عند كل جملة كتبها ومناقشة منطقها وبنيتها الداخلية لنوضح أنها مزيج من التحليل الثاقب والهراء، وأن الأول الجميل يسمح بتمرير الثانى القبيح، ولنقول إنه بارع فى الإيحاء بوجوب استخلاص نتيجة معينة، ثم التنصل منها بقوله إنه لم يقصدها أبدا، وفى أحوال أخرى نراه يقول الشىء ونقيضه دون محاولة الوصول إلى صيغة توفيقية أو إلى مقولة واضحة نستطيع قبولها أو مناقشتها. ومن ناحية أخرى، ركز من هاجم سعيدا على الأخطاء التاريخية العديدة التى وقع فيها، وعلى كونه صب اهتمامه على فرنسا وبريطانيا العظمى دون الانتباه إلى أهمية الاستشراق الألمانى، وعلى استعمال مبهم لمصطلح الاستشراق مما سمح له بالجمع -فى مفهوم واحد وتحت راية واحدة-مجموعات ثقافية وسياسية وخطابات مختلفة ومتباينة مما أثر بالسلب على دقة التحليل، وأميل شخصيا إلى التقليل من أهمية الأخطاء الصغيرة وإن تعددت، لأنه من المستحيل تجنبها فى عمل يغطى قرونا من الزمن إن لم يعاون الكاتب فريق من الطلبة الموثوق فيهم، لكن المشكلة تكمن فى كون تلك الأخطاء المتكررة خادمة دوما لمشروع سعيد، أما عن إهماله للاستشراق الألمانى فهو لا يؤثر سلبا على حديثه عن الخطابات الفرنسية والبريطانية والأمريكية، ولكنه يضعف جدا مقولاته عن خطاباته عن العجز الغربى العام على فهم الغير وسنعود لاحقا إلى تلك القضية. نؤجل إلى حين المواجهة التفصيلية لنبدأ بالقول إن سعيدا كتب على سبيل المثال أن الصفوات العربية المتعاونة مع الغرب المهيمن تبنت مقولات وتصورات المستشرقين عن العرب وأنها انطلقت من تلك التصورات لحكم البلاد بتسلط مريع واحتقار كبير لشعوبها ولخدمة وتثبيت السيطرة الغربية، وفى مواضع آخرى ندد بالعلاقة بين الخطاب الاستشراقى والسلطات السياسية الغربية ومشروعاتها الاستعمارية والإمبريالية، تأملوا الجملة الأولى على سبيل المثال، التى أصبحت لازمة عند المتأسلمين، ترى كيف تمكن مناقشتها واختبارها؟ يمكن تفسيرها على أنها تتحدث عمن دخل مدارس غربية أيام عجز الدولة العربية عن مراقبة أداء تلك المدارس، وحتى فى هذه الحالة تفترض المقولة أن التلميذ المتلقى سوف يتقبل ويقبل خطابا يحقر منه ويتعالى عليه دون مقاومة ولا ننكر أنه يستطيع الاستشهاد بأمثلة عديدة، لكننا نستطيع أيضا أن نذكر أمثلة تبرهن عكس ذلك، وأمثلة أخرى لا يمكن تصنيفها بتلك البساطة. وللحديث بقية.