قلنا فى المقالات السابقة إن العلوم الاجتماعية والسياسية الغربية لم تعد قادرة على إنتاج معرفة عن مجتمعاتها، وطالبنا بالتركيز على بناء معرفة علمية عن الغرب. وكتبنا أن نقد الاستشراق بيّن أن الخطاب الغربى عن الشرق كان فى أحوال غير قليلة خطابا عن الذات الغربية، يمجدها أو يذمها أو يحاول إثبات أنها تشارك الحضارات والثقافات الأخرى فى ملامح كثيرة، مما يؤكد مركزيتها، وحذرنا من الوقوع فى نفس الخطأ، وقلنا إن الخطاب الليبرالى أو اليسارى العربى عن الغرب هو خطاب عن تخلفنا وعن سبل النهوض يتجاهل المشكلات الجسيمة التى تضعف من كيان المجتمعات الغربية. ونضيف أن الخطابات القومية أو الأصولية أو المتوجسة من العلمانية الغربية تحاول باستماتة إثبات تفوقنا فى مجال ما، فتقول إن الغرب أسس حضارته على العلوم والفلسفة العربية، أو أنه غنى ماديا وفاشل فى الحياة الروحية، أو أن تخلفنا يرجع أولا وقبل كل شىء إلى التآمر والسياسات العدوانية الغربية، وتركز تلك الخطابات تركيزا شديدا على أزمات تلك المجتمعات وتبالغ فى تقدير جسامتها وتحاول إرجاعها إلى غياب كنز احتفظنا نحن به (الدين أو الأخلاق أو العائلات المترابطة أو روح الجماعة)، أو إلى أفول الإمبراطوريات الغربية بعد نجاح حركات التحرر الوطنى فى تحقيق الاستقلال والدول المنتجة للنفط فى كسر شوكة الشركات العملاقة الغربية. بالطبع لا نساوى بين كل تلك الخطابات، بعضها أحسن من الآخر، لأنها تستند إلى وقائع ثابتة لا إلى تصورات لا علاقة لها بالتاريخ أو بالعلم أو بالثقافة، ولكنها تشترك كلها فى تضخيمها المبالغ فيه لدور التاريخ المشترك بيننا وبينهم، فى تحديد مسارهم هم ومسارنا نحن، وبعضها يحاول إثبات تفوقنا عليهم فى بعض أو كل الجوانب الحيوية. لا بأس من إعادة قراءة التاريخ وإلقاء الضوء على وقائع ينساها أو يتناساها الغرب، منها دور السلاح والعدوان فى نشر قيمهم وأنظمتهم، ومن واجبنا تثمين النقد الصارم للروايات الكبرى التى ينتجها الغرب والدفاع عن وجهات نظرنا ودورنا فى التاريخ المشترك، ولكن هذا شىء والمقولات التى ترد على شطحات غربية بشطحات مضادة تنافسها فى الغباء شىء آخر، ودراسة الغرب من منظور لا يرى سوى التاريخ المشترك ويعتبره كاشفا للجوهر البشع للذات الغربية، ومفسرا لحضارتها، ويختزل هذا التاريخ فى سلسلة من الجرائم كنا ضحاياها شىء ثالث، وأكرر أن كلامى هذا لا ينكر فداحة وبجاحة تصرفاتهم معنا، أقول فقط إن جرائمهم المريعة فى حقنا وفى حق الشعوب والجماعات التى استعمرت وفى حق اليهود مكون هام من هويتهم ومن تاريخهم، ولكنه ليس الوحيد ولا الحاسم. أقول إن نقد الاستشراق نجح فى طرح قضية ضرورة تقييم الخطاب الغربى عن الشرق لا سيما العالم العربى، وله الفضل فى كشف عيوب بنيوية فى معظم إنتاجه الفكرى المتناول لمنطقتنا، ولن أتطرق هنا إلى نقد نقد الاستشراق الذى ادعى أن كتب الراحل إدوارد سعيد تنتج أيديولوجية تجيد الاختفاء فى ثياب العلمية، والذى حاول الرد على بعض الاتهامات وإنكار البعض الآخر جملة وتفصيلا، فعلى سبيل المثال ميز نقد النقد بين العلماء الذين خدموا خطط دولهم الاستعمارية وبين من كان يعمل فقط للعلم مهما كان رأينا فى أعماله. ولكننا سنقبل مع كثير من التحفظات الرأى القائل بأن الاستشراق لم يبنِ معرفة حقيقية عن الشرق، بل خطاب مجد الذات الغربية وخدم المصالح الإمبراطورية والإمبريالية، ثم ندلى بدلونا بمقولة صادمة ننهى بها مقالتنا، الخطاب الاستشراقى ونقده لا يصلحان لبناء معرفة عن الغرب. نعم، الخطاب الغربى عن الشرق هو أيضا، وربما قبل كل شىء، خطاب عن الذات الغربية، ولكن اعتباره مدخلا لدراسة تلك الذات يعرضنا لأخطاء علمية كثيرة وجوهرية.. وللحديث بقية.