قمنا فى المقالين السابقين بتقييم أولى لأداء العلوم السياسية والاجتماعية الغربية، فى ما يتعلق بوصف مجتمعاتها، وهو أداء كاشف لأزمة تلك العلوم، أزمة تفسر بالطابع الأيديولوجى للأبحاث وبسوء تنظيم الدراسة والبحث العلمى، وأوجزنا رغم الحاجة إلى التفصيل. وقصدنا من ذلك العرض التنبيه، إن أردنا بناء معارف عربية عن المجتمعات الغربية أن علينا القيام بفرز دقيق لما تنتجه الجماعات العلمية الغربية، فرز قائم على نقد صارم، ينطلق من مقولات عدة، متعلقة بكشف التحيزات الأيديولوجية لتلك الجماعات التى لا تعكس ولا تفهم مزاج رأى عام تلك الدول، ولا تتعاطف مع آليات عملها، القاسم المشترك الوحيد بين تلك الجماعات ومجتمعاتها هو الإيمان الشديد بمركزية الغرب وخصوصية تجربته. وعلينا أيضا البحث عن مصادر أخرى لبناء معرفتنا، تعتمد على إرسال طلبة ومبعوثين وباحثين يقومون بدراسة تلك المجتمعات «الوضع الحالى هو أن الباحث العربى يتناول موضوعا متعلقا بالقضايا الشرق أوسطية أو العربية أو الإسلامية ويسهم فى المعرفة الغربية عنا» وعلى قراءة ما أنتجه الغرب فى مختلف المجالات، الثقافية والأدبية والعلمية، ويبدو لى أن السلطات والجامعات المصرية تستطيع أن تتفاوض مع الجامعات الأوروبية والأمريكية لإعادة توجيه نشاطات نسبة معينة من المبعوثين، لأن الغرب له، وإن لم يدرك هذا، مصلحة فى وجود معرفة عربية قوية عن المجتمعات والنظم الغربية. أدرك طبعا حجم الصعوبات، سواء فى ما يتعلق بإتقان اللغات أو بعملية اكتشاف مجتمعات وحكومات مختلفة مغايرة، ولكن علينا مغالبتها لحيوية القضية. وعلينا أن لا ننسى النقد الرئيسى الذى وجه إلى الاستشراق، وهو أن الخطاب الغربى عن الشرق هو فى الواقع خطاب عن الذات الغربية، هذا الخطاب قد يمجد نفسه برسم صورة للشرق تمثل كل العيوب التى يفترض أنها لا توجد فى الغرب، وقد يكره نفسه فيبنى شرقا وهميا له كل الصفات التى اختفت فى المجتمعات الغربية، وقد يختار طريقا ثالثا هو التركيز على القواسم المشتركة بين المجتمعات مع التقليل من أهمية أوجه الاختلاف أو حتى إنكارها، والخيارات كلها تسهم فى تعزيز المركزية الغربية ونرجسيتها. يبدو لى أن تلك النرجسية سمة إنسانية لا يمكن التخلص منها، الخطاب عن الغير هو حتما خطاب عن الذات، بدرجة قد تتعاظم وقد تتضاءل، ولكنها لا تختفى أبدا، والإقرار بهذا لا يمنع من محاولة ترويض النفس وضبط الخطاب. يبدو لى أن الخطابات العربية عن الغرب هى أيضا خطابات عن الذات العربية، الخطاب الليبرالى أو العلمانى أو اليسارى أو المعجب بالغرب هو خطاب يرى فى الغير نموذجا يحتذى، ومسارا واجب الاتباع، فالخطاب عن عظمة الغرب هو خطاب عن تخلفنا نحن ومظاهره وعن كيفية النهوض، ويميل هذا الخطاب إلى تجاهل المشكلات العديدة التى تواجه المجتمعات الغربية وتهدد تماسكها، ويقلل من أهمية تراجع الغرب وأزمته العميقة -وإن انتقد الغرب فينتقده لأن ممارساته لا تعكس قيمه، بل مصالحه وأنانيته وعدوانيته وفى أحوال غير قليلة عنصريته، ويميل هذا الخطاب إلى اعتبار الغرب كتلة واحدة لها مسار تاريخى واحد وخصائص ثابتة لا تتغير، ولا يميز بين الحقبات التاريخية المتعاقبة، وإن ميز بينها اعتبر كل حقبة امتدادا طبيعيا وحتميا لما سبقها، وبالطبع لا يعنى هذا ضرورة رفض تلك الخطابات وتفنيدها، ما نقصده أن تطويرها واجب، وأن على مَن يتبناها أن ينسى أو يتناسى أو يتجاهل السؤال الضمنى الذى يوجهها، هل الغرب نموذج يحتذى؟ هل يمكننا أخذ ما يناسبنا ورفض ما ينفرنا؟ عليه بناء خطاب لا يحاول الإجابة عن تلك الأسئلة وأن يضع سياسات الغرب الخارجية فى إطارها الصحيح، فلا يقلل ولا يعظم من أهميتها، وعليه أن يحاول أن ينسى ولو فى مراحل أولية ما فعله الغرب بنا. وللحديث بقية.