يتفق من ارخوا لحياة قاسم امين ( 1863-1908 ) ، علي ان شخصيته وحياته الوجدانية والفكرية كانت نتاجا لتأثره بخير ما تمثله من بيئته ووسطه المصري وخصائصه الطبيعية والاجتماعية والثقافية ، وكذلك بالبيئة والوسط الفرنسي الذي عاش فيه لمدة اربعة اعوام 1881-1885 ، وانه حاول ان يوفق بشكل خلاق وموضوعي بين البيئتين وانه في هذا كان مسلما قوي الايمان ، ومثقفا قوي الثقافة وانه كان مصري الوجدان ولكنه اوروبي التفكير كذلك. فقد نشأ قاسم امين وتربي ومصر وان كانت تعاني اثار هزيمتها السياسية علي يد الاحتلال البريطاني عام 1882 ، الا انها ايضا كانت تعيش مخاض نهضة معنوية وحركات تجديد دينية وسياسية وثقافية روادها هم جمال الدين الافغاني ، ومحمد عبده ، وسعد زغلول . فقد كان قاسم امين طالبا بكلية الحقوق حين اقترب من حلقة جمال الدين الافغاني ومدرسته الفكرية التي ازدهرت بمصر .والتفت حول مشروعه الاصلاحي الحديث وشعاره « الاسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل «، وشعار « مصر للمصرين « وكان بذلك الاب الروحي الحزب الوطني المصري ، كذلك كان قاسم امين قد التقي بمحمد عبده واصبح مترجمه الخاص حين نفي الي باريس، وكان محمد عبده قد ارتبط اسمه بالإصلاح الاجتماعي وتجديد الفكر الديني وتنبيهه لأهمية تأويل النص الديني وربط مبادئ الدين بقضايا العصر فكانت دعوته في اساسها دعوة للتجديد والمتابعة لمتطلبات العصر ومقتضياته . وهكذا توجه قاسم امين الي اوروبا وهو متأثر بهذه البنية الفكرية المصرية ورموزها ودعوتها الاصلاحية الاجتماعية والدينية ، وهو ما قوي فيه الامل ، رغم كل احباطات الواقعين السياسي والاجتماعي ، في اصلاح امته ، وكان لديه اعتقاد متين بأن البذرة الطيبة اذا ما القيت في ارض خصبة نبتت وازدهرت ، وهو الاقتناع الذي كان وراء جدله القوي مع الدوق الفرنسي والصورة المتدنية التي سيقدمها للواقع المصري وقيمه وعقيدته كما سنري ..كذلك كان من العناصر الايجابية في تأثره بالحركة الاصلاحية في مصر هو تمثله لها بشكل متوازن فهي وان كانت تدرك مواطن الضعف في البناء السياسي والاجتماعي لمصر والشرق وللمسلمين ، الا انها كانت تؤمن بثوابت اصولها الدينية والثقافية وصلاحيتها لمواكبة العصر وان كانت تربط ذلك بضرورة الاخذ بأسباب التقدم وعناصر القوة التي يمثلها الغرب ومدنيته ، وهو الفهم الذي عبر عنه قاسم امين بقوله « لا سبيل للنجاة من الاضمحلال والفناء الا بالاستعداد لهذا القتال ، وان نستجمع من القوة ما يساوي القوة التي نهاجمها خصوصا قوي العقل والعلم التي هي اساس كل قوة سواها ». وهو ما يوحي بان قاسم امين قد استوعب عناصر القوة الاوروبية واساليبها . وفي فرنسا حيث السنوات الاربع التي قضاها فيها دارسا للقانون كان لابد لقاسم امين ان يتأثر بفكر ثورتها الكبرى ، وكذلك بثورات 1830-1848-1870. ومبادئها وخاصة مبدا الحرية الذي التقي مع ما جبلت عليه طبيعة قاسم امين من تقديس للحرية والدفاع عنها . كما قد قرا في هذه السنوات لمفكري اوروبا الكبار ومن بينهم نيتشه ، وداروين ، وماركس ، وروسو ، لامارتين ، وفولتير ، وجولي سيمون وغيرهم من القدامى والمحدثين . وعلي مستوي الافكار كانت من الافكار الرئيسية التى تأثر بها قاسم امين فكرة التقدم وان كانت قد استولت بشكل كامل علي فكر العديد من المفكرين الغربيين مع اواخر القرن 19 وكان بذرتها في ظهور نظرية داروين في اصل الانواع ، وهذه الفكرة اصبحت تطبع تفكير الادباء والمؤرخين ورجال الاجتماع والسياسة بحيث تحولت عندهم الي دين جديد يري الحياة الانسانية وهي تتدرج نحو الكمال والتقدم . وقد راي قاسم امين في هذه الفكرة دعما للأمل الذي تملكه في اصلاح وتقدم امته ، فاذا كان خط تطور البشرية نحو التقدم واكمال فلماذا لا ينطبق هذا علي امته ، وهو المنطق الذي سيستخدمه في جدله مع الدوق الفرنسي ، بل انه حاول ان يجد لهذه الفكرة اساسا في الدين الاسلامي الذي يحض علي التقدم ، وفي مبدا الخلود ، وان كان سيربط هذا التقدم بالعمل والتغيير الاجتماعي مستخدما في ذلك ايضا الشرط الديني بان « الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم». كذلك يبدو في العديد من فقرات « تحرير المرأة « النموذج الغري مؤثرا في فكر قاسم امين ،فهو يقول « طرقت ديارنا حوادث وادخلنا ضربا من الاختلاط مع امم كثيرة من الغربيين وحدت علائق بيننا وبينهم وعلمتنا انهم ارقي منا واشد قوة ». ولكن المهم بالنسبة لقضية المرأة هو ربطه» التمدن « الغربي بتقدم اوضاع النساء فيه « .. ان ارتقاء الامم يحتاج الي عوامل مختلفة متنوعة اهمها ارتقاء المرأة ، وانحطاط المرأة ، فهذا الانحطاط في مرتبة المرأة عندنا هو اهم مانع يقف في سبيلنا ليصدنا عن التقدم الي ما فيه صلاحنا ». ويعيد تأكيد الارتباط بين التقدم الغربي وتقدم المرأة بقوله «ان ما اقامه التمدن الحديث من البناء الشامخ ، انما شيد عل حجر اساسي واحد هو المرأة ». وعلي مستوي المجتمع الفرنسي لابد ان قاسم امين قد اتاحت له معايشته له مراقبة سلوكياته وقيمة وعلاقاته الاجتماعية ومؤسساته وان كان من ارخوا لحياة قاسم امين قد توقفوا عند ما اعتبروه احد خصائص تكوينه وشخصيته وهو حياؤه وخجله ، وهو الطابع الذي جعل بعضهم يذهبون الي ان هذه الطبيعة ربما قد حالت بينه وبين الاندماج في المجتمع الفرنسي والدخول في علاقات وثيقة معه واستيعاب نمط حياته وسلوكه وعاداته ، الامر الذي جعله اكثر تحفظا في تقييم ظواهر وعلاقات وعادات هذا المجتمع ، حتي من شخصية مثل رفاعة الطهطاوي الذي سبقه الي المتجمع الفرنسي بخمسة وخمسين عاما ، ونشا في بيئة ازهرية ومع هذا كان اكثر تقبلا لعادات الفرنسيين وقيمهم ، وهو ما يفسر النقد والنقد الحاد في بعض المواضع الذي وجهه قاسم امين لسلوكيات المجتمع الفرنسي وقيمه واعلائه لقيم المجتمع الاسلامي والعلاقات بين افراداه وثبات مؤسساته الاجتماعية مثل الاسرة ، وذلك حين كتب كتابه « المصريون « الذي وضعه خلال اقامته في باريس عام 1894 وكتبه بحميه ودوافع وطنية ودينية ردا علي كتاب وضعه نبيل فرنسي هو الدوق دراكور عن « مصر والمصريون « ، وما تضمنه من رؤي متدنية عن المجتمع المصري وعلاقاته وعن الاسلام كعقيدة توجه سلوكياته . والمتأمل في الروح التي كتب بها قاسم امين رده ودفاعه عن المصريين ودينهم الاسلامي يدلل من ناحية علي ما تميزت به شخصية قاسم امين من حساسية وعاطفة قوية ، ويدلل من ناحية اخري علي عمق تأثره ببيئته المصرية ووجدانه كمسلم قوي الايمان . غير ان دفاع قاسم امين عن مجتمعه لم يكن يعني انه كان غافلا عن مواطن الضعف في بنائه الاجتماعي والسياسي وهو الادراك الذي سيتطور ويتبلور عندما سيكتب كتابه الذي سيرتبط باسمه كمفكر ومصلح اجتماعي وهو كتاب « تحرير المرأة « عام 1899 اي بعد خمس سنوات من كتابه « المصريون « . والواقع انه اذا كانت ريادة قاسم امين الفكرية والاجتماعية قد ارتبطت بكتابه « تحرير المرأة « والذي سيتعرض بسببه للنقد والهجوم من عدة مستويات ومن عدة جبهات ، وان هذا الكتاب سوف يسجل تطورا فكريا عن المرحلة التي كتب فيها « المصريون « ذلك ان « تحرير المرأة « جاء تفنيدا ونقدا لما تضمنه كتاب « المصريون « من اراء ومواقف حول المرأة وقضاياها الاساسية : الحجاب ، والمجتمع، الانفصال، والطلاق ، وتعدد الزوجات ، فضلا عن رؤيته للمجتمع الفرنسي وقيمه عاداته وللحضارة والتمدن العربي بوجه عام: • ففي « المصريون « لم ير قاسم امين في المجتمع المصري وقتئذ اي تمييز بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالاختلاط ،فما دام محظورا علي الرجال الاختلاط في مجتمع السيدات ، فان من الطبيعي ان ينطبق هذا الحظر علي النساء. كما يدافع عن مبادئ « الفضيلة الزاهرة « ويعلي من مبادئ واسس الحياة الزوجية في المجتمع الشرقي في مقابل تفكك الحياة الاسرية والزوجية الأوروبية :» ان الزواج عندنا يعتبر بداية بعكس الحال عندهم فانه يكاد يكون دائما نهاية ، ان خيبة الامل التي تحس بها الفتاة الاوروبية المسكينة بعد الزواج تكتشف ان زوجها ليس عنده استعداد للاستقرار والراحة لا يقارن بالسعادة الحقيقة التي تبديها الزوجة المسلمة عندما تجد في زوجها هذا الاستعداد ، فهي لم تعد تتردد علي الحفلات الراقصة ولا الاوبرا ولا اماكن الموسيقي والاندية ، فان كل وسائل التسلية هذه يجدها المسلم في بيته او في صحية زوجته واولاده الذين يكرس لهم كل أوقات فراغه. ويواصل قاسم امين في « المصريون « نقده للمدنية الغربية رغم ما قد تبدو عليه من مظاهر التمدن والتقدم الذي يبهر البعض في البداية ولكنه لا يلبث ان يتحول هذا الاعجاب الي الاشمئزاز من مظاهر التحلل الخلقي الذي يتخللها وخاصة من المنظور الشرقي فيقول : ان الشرقي الذي يزور اوروبا مرة يعود مبهورا بالجمال الذي اوجدته الحضارة المصرية ، في كل اركان البلاد . ولكن هذا الاعجاب يمتزج دائما بشعور من الاشمئزاز الذي تبعثه حالة الانحلال الخلقي والضلال الذي ينتشر في كل مكان ..» ومواصلة في رصد هذه الازدواجية في الحالة الحضارية الاوروبية ، يقارن قاسم امين بين ما حققته الحضارة الغربية من تقدم في الاختراعات ، وبين فشلها في ان تخرج « رجالا اصلح «، وبث الفضيلة ، وينعي عليها انها اهملت توعية القلوب وهدمت العقائد القديمة ، والأخلاق الجميلة التي لم تكن فقط تبهج الحياة بل كانت ايضا تهذب الهوي وتكبح الشهوات ، وهي التي زعمت ان السماء خاوية وان الارض هي الجنة الوحيدة الممكنة وان الانسان ينحدر من القرد وان الحكمة معناها ارضاء الرغبات . ويجانب ذلك كلمات اخري رنانة عن الاخوة والاحساس بالواجب والتضحية كلما ظهرت لتضفي علي الحديث طلاوة ولكي تخدع سذاجة البسطاء - ويذهب قاسم امين ابعد من هذا في نقد الاوروبيين في مجتمعاتهم الي انهم ينقلون هذه الرذائل في كل مكان يدخلونه ويتسببون في اختفاء ما يسود مجتمعاتها من قيم المحبة والترابط. وينتهي قاسم امين في كتابة « المصريون «بتذكير اوروبا بان الشرق كان اول صانع لحضارتها وانه هو الذي كونها ونماها واورثها هذه الثروة الثمينة التي تتمتع بها اليوم ، وان جميع الافكار الفلسفية والعلمية والدينية لم تنبثق جميعها الا من الشرق ، وان كان قاسم امين وهو يذكر اوروبا بهذه الحقائق لا ينكر علي اوروبا فضلها في الاكتشاف والاستفادة وتطوير تجارب الشرق الطويلة وانتهت باكتشافها الطريق الطويل السليم ، وتمكنت من جعل العلم اساس تكوينها وهو ما اعطي للحضارة الاوروبية طابع الاستمرار بل وغير قابل للنكوص. كانت هذه هي افكار ونظرات قاسم امين حول قضايا المرأة ، وعن قيم وعادات المجتمع المصري والشرقي والاسلامي بوجه عام ، وعن المدنية الغربية وقيمها واخلاقياتها وسلوك ابنائها ، وهي الافكار التي عبرت عن حالته العقلية حتي عام 1894 وهو العام الذي كتب فيه « المصريون « وهي نظرات اتسمت في جوهرها بالدفاع عن القيم الشرقية حول القضايا التي تعرض لها ، وبالتحفظ بل والنقد الشديد لمظاهر المدنية الغربية والعلاقات السائدة في المجتمع الفرنسي كما راها خلال فترة اقامته في باريس . غير ان نظرات قاسم امين تلك من الواضح انها تعرضت للمراجعة والتطوير بعد خمس سنوات من ظهور كتابه « المصريون « وظهور كتابه « تحرير المرأة » . ففي مقابل دفاعه عن الحجاب في « المصريون «وكان يقصد به الحجاب بمفهومه الواسع الي احتجاب المرأة بالمنزل وعدم اختلاطها بالرجال ، سوف نجده في « تحرير المرأة « يعارضه بشدة ويعدد مساوئه بالنسبة للمرأة وصحتها الجسدية والنفسية والعقلية والادبية ، وكذلك بالنسبة للمجتمع وتقدمه ويقول « لو لم يكن في الحجاب عيب الا انه مناف للحرية الانسانية ، وانه ضار بالمرأة حيث يستحيل عليها ان تتمتع بالحقوق التي خولتها لها الشريعة الغراء والقوانين الوضعية ويجعلها في حكم القاصر ولا تستطيع ان تباشر عملا ما بنفسها مع ان الشرع يعترف لها بتدبير شئونها المعاشية بكفاءة مساوية لكفاءة الرجل وجعلها سجينه مع ان القانون يعتبر لها من الحرية ما يعتبرها للرجل ، لو لم يكن في الحجاب الا هذا العيب لكان وحده كافيا في مقته وان يتقزز منه كل طبع غرز فيه الميل الي احترام الحقوق والشعور بلذة الحرية ولكن الضرر الاعظم للحجاب فوق جميع ما سبق هو انه يحول بين المرأة واستكمال تربيتها وبعد ان كان يهيم بالمدنية الغربية وما تفرزه من مظاهر وعلاقات التحلل الخلقي والاجتماعي ، نجده في « تحرير المرأة « لا يجد سبيلا لعلاج امراض المجتمع المصري والشرقي من تواكل وعجز وافتقاد للطموح والحركة الاجتماعية « الا ان نربي اولادنا علي ان يعرفوا شئون المدنية الغربية ويقفوا علي اصولها وفروعها واثارها « فاذا تحقق هذا في وقت تمني قاسم امين ان يكون قريبا « انجلت الحقيقة امام اعيننا ساطعة سطوع الشمس ، وعرفنا قيمة التمدن الغربي ، وتيقنا انه من المستحيل ان يتم اصلاح ما في احوالنا اذا لم يكن مؤسسا علي العلوم العصرية ويفند قاسم امين اراء من يسلمون بتقدم المدنية الاوروبية في العلوم والصناعات ولكنهم يقولون بفسادها وضررها بالنسبة للأخلاق والآداب وانها تحمل وتنقل هذا الفساد فى كل مكان دخلت فيه ( وهو الراي الذي كان يقول به قاسم امين في « المصريون »)، ولكنه هنا يفند هذا الاعتقاد ويعتبر القول باننا ارقي من الغربيين في الادب والسلوك والتربية « ومن قبيل ما تنشده الامهات لتنوير اطفالهن. ويذهب الي انه لا يدرك ما حققه الاوروبيون في مجال الآداب والسلوك الا « من خالطهم واختبرهم في ظاهر شئونهم وباطنها حتي وقف علي منزلتهم من الخصائص الادبية ورغم اقراره بمظاهر الفساد في طبقات المجتمع الاوروبي – خاصة السفلي والعليا – الا ان ذلك لم يضعف فيهم الفضائل الاجتماعية التي هي الركن الأقوى لبناء الامم وما يتبع تلك الفضائل من بذل الانفس والاموال في سبيل تعزيز الوطن والدفاع عنه فادني رجل في الغرب كأعلى رجل فيه ، اذا دعي الي هجوم او قيام لدفاع او عمل نافع يترك جميع لذائذه وينساها وينهض لإجابة الداعي ويتهم من ينتقدون احوال الغربيين بانهم يفعلون ذلك « عن نقص في الخبرة وقلة المعرفة ، ومن اخذهم بالمظاهر فقط والاعتماد علي احاديث المقاهي والشوارع «..اما من اراد ان يكون فهمه وحكمه صحيحا علي حياة هذه الامم فيجب عليه « ان يلم بجميع مظاهر حياة تلك الامم وعلي احاسيسهم وعواطفهم وهو ما يحتاج لمعرفة تامة بلغتهم وتاريخهم واخلاقهم. ازاء هذا التعارض او التناقض بين ما ذهب اليه قاسم امين في «المصريون» وبين ما عبر عنه في «تحرير المرأة » حول قضايا المرأة واحوال المجتمع الشرقي وما يقابلها في المجتمع الغربي والحضارة الغربية ، لا نجد تفسيرا لذلك الا في تطوره الفكري وهو التطور الذي يقدم تفسيرا لهذا التعارض بين العملين وافكارهما . وبداءة من المهم ان نستدعي ظرفا شخصيا يتعلق بشخصية قاسم امين وما اتسمت به من حساسية وعاطفية ، فضلا عن عمق ايمانه الديني ، والتي جعلته يستشعر الإهانة الشخصية من النقد والتجريح الذي وجهه الدوق الفرنسي الي مجتمعه وعقيدته الدينية ، الامر الذي اوصله الي ان يصاب بالحمي ، وشعوره ان الدوق لم يكتب بدافع الاصلاح والنصح وانما بدافع التعصب وازدراء واحتكار الحضارة الاسلامية والتي كانت دافع عدد من الكتاب والمفكرين الغربيين في هذا العصر ، واذا كنا قد سبق أن اشرنا الي ان قاسم امين كان دفاعه عن مصر دفاعا عن كيانه وعن صورة نفسه وحماية لأماله في الوطن والدين .هذه الحالة النفسية والعقلية التي كتب في ظلها قاسم امين رده علي الدوق الفرنسي تبرر القول انه كتبه بدافع الحمية الوطنية والدينية ، وانه في دفاعه عن مجتمعه ضد الاتهامات التي وجهت له لم يكن غافلا عن مواطن الضعف والنقص في الحياة الاجتماعية المصرية ، فهذه الحياة ، وفيما يقول الدكتور محمد حسين هيكل ، لم تكن بالتأكيد الحياة الكاملة في نظر قاسم امين او الخالية من اوجه النقص وبشكل خاص في افتقاده للحرية عند الرجل والمرأة ، ولكن باعتبار ان الحرية عند قاسم امين كانت هي قاعدة ترقي النوع الانساني ومعراجه الي السعادة ، الا انه كان يري ان فقدان المرأة للحرية اشد خطرا وافعل اثرا ، ومن ثم كان اصراره علي الجهاد من اجل تحريرها ومن معاني هذا التفسير ان قاسم امين كان يشعر ان الدوق الفرنسي كان علي حق في بعض ما قاله من نقد في المجتمع المصري وخاصة فيما يتعلق بالحاكم والمحكوم واثر هذه العلاقة علي جوانب اخري في الحياة الاجتماعية مثل اوضاع الفلاح ، والمرأة ، والتعليم ، والفقر ، وهي الاوضاع التي يبدو ان قاسم امين ، وبعد ان كتب كتابه « المصريون « ظل يفكر فيها ويطيل التفكير ، ومثلما عبر في مقدمة كتابه « تحرير المرأة » : « هذه الحقيقة التي انشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت خلالها اقلبها وامتحنها واحللها حتي اذا تجردت من كل ما كان يختلط ها من الخطأ استولت علي مكان عظيم من موضع الفكر مني وصارت تشغلني بورودها وتنبهني بالحاجة اليها ، فرأيت ان لا مناص من ابرازها من مكان الفكر الي فضاء الدعوة والذكر وعلي هذا نستطيع ان نستخلص فهما يتعلق بالتطور الفكري لقاسم امين ان السنوات الخمس التي مرت منذ ان كتب « المصريون « حتي كتابه « تحرير المرأة « كانت هي مرحلة النضج والنظر الي قضايا بلده ومجتمعه بعيدا عن العاطفة والغيرة الوطنية ، وانه بدلا من ان يتخذ موقف الدفاع عنه اتخذ موقف النصح والارشاد له «.ومن ناحية اخري اذا كان « تحرير المرأة » قد تضمن ابرازه لجوانب التقدم في المدنية الغربية الا انه كذلك لم يكن غافلا عن جوانب القصور والضعف فيها او اعتبارها « خبرا محضا « ذلك ان الخبر المحض ليس موجودا في عالمنا هذا لأنه عالم النقص، والان وبعد مرور مائة عام علي دعوة قاسم امين لتحرير المرأة ،هل كان ما تحقق لها نتيجة مباشرة لما بذره قاسم امين وحرك به الركود الصامت في المجتمع المصري ؟ ام انه ، وكما ذهب فتحي رضوان في كتابه « عصر ورجال » لم يغير في المجتمع قليلا او كثيرا ، وان التغيير الحقيقي كان بفعل الثورة السياسية المصرية والمعارك ضد الاستعمار وخطب خطبائها التي حركت الساكن واشعلت الخامد واطلقت المقيد ؟ والواقع ان ما ذهب اليه الاستاذ فتحي رضوان لا ينقص من فكر قاسم امين ودعوته لتحرير المرأة حيث كان يعتقد ان التغيير بواسطة الكتابة وحدها او الوعظ لا يحدث التغيير المنشود فلابد من ان تتوفر شروط معينة تجعل التغيير ضرورة اجتماعية وهو ما جسدته ثورة 1919 ففي اتون الثورة خرجت النساء المصريات بقيادة هدي شعراوي يشاركن الرجال وخلعن الحجاب وسط حماس الرجال العاديين وبهجتهم.