نواصل الحديث عن الخلفيات الفكرية والأيديولوجية لموقف جمهور النخب الغربية من الإسلام السياسى ورهانها عليه. وأودّ الإشارة إلى دواعى هذا التحليل، فليس الغرض منه تبرير أى فشل فى شرح ما حدث يوم «30 يونيو»، أو اقتراح منهج عمل محدد فى التعامل مع الدوائر الغربية، أو الترويج لفكرة عدم إضاعة الوقت والجهد فى التواصل معها. ما أحاول تقديمه هو تحليل لمكونات ولمضمون ولمنطق تصورات حاكمة، من الصعب على معتنقيها تجاوزها، مع التحذير من الإسراف فى اللجوء إلى نظريات المؤامرة. والتحذير هذا لا يترتب عليه افتراض حسن النية أو سوئها عند الغربيين، فهم بالطبع يبحثون عن مصالحهم، ويميلون إلى الاعتقاد أن الأصل فى العلاقات الدولية أن المصالح مشتركة على المدى الطويل، وأن التعارض الاستراتيجى بين مصالح الدول هو الاستثناء، وأن الاختلافات فى التقدير تنبع من قلة وعى الآخر بالحقائق، وإن كنت أزعم شيئا فهو أن تصورات نخبهم تمنعهم من فهم الواقع وتدفعهم إلى تبنى سياسات خطرة على المنطقة وعليهم، وأريد أيضا أن أقول إن هناك، فى تلك النخب الغربية، مَن يعارض تلك المنظومة الفكرية الجارى تحليلها ويرفضها رفضا جذريا، إلا أننا لا نستطيع الاعتماد عليه، لأسباب يطول شرحها، أهمها أنه يقع فى نفس خطأ المنظومة السائدة، حيث إنه يرى فى القوى الأصولية الممثل الحقيقى للإسلام، ويبنى على هذا التشخيص رفضا لكل ما هو مسلم، وأبرز مثال على هذا الموقف بعض المحافظين الجدد فى الولاياتالمتحدة. نعود إلى حديثنا، ونتناول الآن بالعرض والتحليل سلة المعتقدات الأيديولوجية السائدة فى الدوائر الأكاديمية الغربية المهتمة بشؤون العالم العربى والإسلامى، تشترك فى بعضها مع زملائها من ذوى الاهتمامات والمجالات والتخصصات الأخرى، وتتميز وتنفرد بالإيمان بالبعض الآخر، يبدو لى أن المنظومة الأيديولوجية السائدة فى تلك الأوساط تستمدّ أفكارها الرئيسية من كتابات أربعة مفكرين هم: الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو، والأمريكى الفلسطينى إدوارد سعيد، والمصريان أنور عبد الملك وطارق البشرى، مع تبسيط شديد ومخلّ لأفكار ومقولات الأربعة، يصل أحيانا كثيرة إلى درجة خيانة تصوراتهم المتسمة بقدر كبير من التعقيد. والمقربون من الراحل إدوارد سعيد يعلمون مدى استيائه من أساليب توظيف كتاباته، ولنبدأ به، فكتابه العظيم «الاستشراق» مقرر فى أغلب مناهج الدراسات العليا الغربية، لأن أصحاب القرار وواضعى السياسات التعليمية يرون فيه تحذيرا محمودا ضد الأفكار المسبقة، وضد الخيال المانع لرؤية الواقع، وضد الحاجة إلى صنع «آخر» يكون نقيضك التام، تتركز فيه كل الخصال التى لا تحبها، ولكن الطلبة ينتهون إلى نتيجة أخرى (تساهم بعض مقولات الكتاب فى الوصول إليها)، وهى أن الباحث الغربى، لأنه غربى، عاجز تماما عن فهم الآخر، وأن أفكاره المسبقة حائط صد لا يمكن تجاوزه، وفارق كبير بين الدعوة إلى التواضع وبين التعجيز، ويترتب على هذا التعجيز الإحساس القوى أنه لا يحق للباحث الغربى أن ينتقد رواية ومقولات الأصولية، لأنها الآخر بامتياز (تلك المقولة غير دقيقة)، على عكس روايات ومقولات الفكر القومى والاشتراكى والليبرالى، لأن أصلها غربى ويمكن أن يفهمها. وثمة نتائج أخرى منطقية لهذا مثل: الكيل بمكيالين، منتهى التسامح مع الأصولية ومنتهى الصرامة (تصل إلى حد التجنى والافتراء) مع الآخرين، واللجوء التبريرى فى شرح مقولات الأصولية إلى مفاهيم غربية فد تبدو قريبة من تلك المستخدمة فى الخطاب المتطرف، إلا أنها ليست كذلك. ومن الواضح أن تركيز الدكتور أنور عبد الملك على مفهوم الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية غذَّى هذا التوجه وأمدّه بحجج. والطريف أن الدكتور أنور كان يريد الدفاع عن فكرة مهمة، وهى أن الفكر القومى والعاطفة القومية فى العالم العربى يختلفان جذريا من حيث المضمون والوظيفة التاريخية عن نظيريهما فى الغرب، إلى درجة تبرر استخدام مصطلحات مختلفة لوصفهما، ونُسى القصد النبيل.. وللحديث بقية.