قلت فى المقالة السابقة إن الأيديولوجية الحاكمة لتصورات جمهور النخب الغربية تحدد حقلا من الخيارات الممكنة وتمنع أو تصعب خيارات أخرى، وأواصل الحديث مستعرضا تصور تلك الأيديولوجية للقوميات والشعور الوطنى، والجيوش والإسلام السياسى. وأود قبل الخوض فى التفاصيل أن أشير إلى أن هذه الأيديولوجية التى تدعى احتكار الأخلاق والعلم تحدد تصورات أغلبية أعضاء النخب السياسية والإعلامية والجامعية، إلا أن تأثيرها على الطبقات الوسطى أضعف بكثير على أحسن الفروض، ويمكن القول إن هناك استقطابا مجتمعيا حادا حولها، يفسر فى تصورى انزلاق قطاعات هامة إلى مواقف يمينية متطرفة، وتلك قصة أخرى. على أى حال، يتسم موقف تلك الأيديولوجية من الشعور القومى والوطنى ومن الأفكار القومية بالسلبية بل بالعدوانية والاحتقار والازدراء، وعلينا أن نعى ذلك جيدا، لأن تلك نقطة مفصلية، النخب الغربية ترى فى النعرات القومية السبب الرئيس بل الوحيد لكوارث القرن العشرين، من حروب عالمية وعمليات إبادة إلخ، وتعتقد أن القومية وباء قامت أوروبا باختراعه وتصديره، وأن عليها قيادة حركة عالمية نحو غد مشرق بلا قوميات، نحو عالم بلا حروب، وما الوحدة الأوروبية إلا محاولة عملاقة لإنهاء عصر القوميات، سيسترشد بها العالم إن آجلا أو عاجلا، القومية عند تلك النخب تؤدى حتما إلى هتلر أو صدام حسين وإلى مجازر، وهى أيضا فكرة استطاعت بها النخب الشريرة إلهاء الشعوب عن قضاياها ومصالحها الحقيقية، وتغييب وعيها الاجتماعى، قال لى صديق فرنسى، أستاذ جليل، يدرس مادة القوميات والأيديولوجيات القومية فى معهد العلوم السياسية بباريس منذ عقدين، إن القصة تتكرر كل سنة، أفكار طلابه المسبقة هى أن القومية تساوى هتلر، فيقوم بمواجهتهم بوقائع معلومة بالضرورة، تذكرهم أن غاندى مهندس المقاومة السلمية، ومانديلا تلميذه من عتاة الوطنيين والقوميين، فتقتنع قلة، وترفض الأكثرية الفكرة، بل يفهم البعض من كلامه أن غاندى ومانديلا سيئان جدا شأنهما شأن هتلر! ويقول صديقى إن العداء للنعرة والعاطفة الوطنية وباء معدٍ منتشر فى النخب الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وبدرجة أقل فى النخب الأمريكية، ولكى لا نتهم بتبسيط مخل للأمور، نقول إن بعضا من المفكرين ميّز بين وطنية محمودة وقومية مذمومة، والوطنية عند هذا الفريق حب للوطن ولنظامه الديمقراطى الرافض التمييز بين قاطنى هذا الوطن، والقومية تعصب لقوم ونظرة استعلائية إلى الآخرين، لكن هذا التمييز بين المفهومين لا يترجم إلى واقع ملموس. والمصريون فى تلك النقطة يتخذون الموقف النقيض، وصف شخص بالوطنية مديح، الوطنية مرتبطة فى عقلنا الجمعى بالحب والتفانى والتجرد والتقدم والحداثة والاستقلال، الوطنية تجمع ما تفرقه الطائفية، لا نلتفت كثيرا إلى مخاطر المفهوم، وأعتقد أننا محقون فى ذلك، الوطنية عندنا هى الرواية الكبرى. ما علاقة هذا ب30 يونيو؟ أقول إن قطاعات كبيرة من النخب الغربية تجد صعوبة فى تفهم مخاوف الوطنيين على النسيج الوطنى، التى لعبت دورا هاما فى إسقاط حكم الإخوان، وتعتبر مشروع الخلافة صنوا لمشروع الوحدة الأوروبية، مع ميل إلى عدم أخذه مأخذ الجد. وتقف تلك الأيديولوجية من الجيوش موقفا متحفظا، ومن الانقلابات العسكرية، وإن أيدها الشعب، موقفا عدائيا، فتؤمن إيمانا لا يتزحزح أن الجيوش فاشية بالسليقة، معادية للديمقراطية بالغريزة، المؤسسة العسكرية معقل التعصب القومى، وتلك المقولات جلية الخطأ، فالعسكرى يرى أن للديمقراطية مزايا مهمة مثل تداول السلطة ومحاسبة المخطئ، العسكرى يعلم أن الصراع من سنن الحياة، ويقبل هذا الواقع، لكنه لا يمجده على عكس الفاشى، ويعلم ويعى معنى كلمة الحرب، فيحاول دائما تجنبها، وتستدعى الذاكرة الغربية تجربة شيلى وبينوشيه القاسية والبربرية عند قيام أى انقلاب ضد سلطة منتخبة، وتتشنج ولا تحاول فهم خصوصية كل حالة، وللحديث بقية.