عندما كان أطفالى صغارًا، كنت أوقفهم على منضدة، وأطلب منهم القفز بين ذراعىّ، كجزء من منظومة اللعب.. ابنى كان يتردّد لحظات، قبل أن يقفز بين ذراعىّ، أما ابنتى فقد كانت تلقى نفسها بين ذراعىّ باسمة سعيدة، دون لمحة واحدة من التردّد.. الفارق هنا كان نفس الفارق، بين الثقة والإيمان.. ابنى كان واثقًا من أننى سأتلقّفه، ولكنه كان يتأكّد من المسافة بينى وبينه أوّلًا، وقدرتى على التقاطه ثانية، أما ابنتى، فكانت مؤمنة بأننى أعلم أين أقف، وكيف سأتلقّفها، ولذلك كانت تلقى بنفسها بين ذراعىّ بلا تفكير.. دعونا ننقل هذا المثال البشرى البسيط، إلى مقياس إلهى عظيم.. فهناك من البشر مَن يثق بالله سبحانه وتعالى، وهناك مَن يؤمن به عزّ وجلّ إيمانًا حقيقيًّا.. والفارق هنا كبير وشاسع، باتساع المسافة بين الأرض والشمس.. فالشخص الذى يثق بالله جلّ جلاله، ينظر حوله، ويبحث عن صالحه، ويرى بعقله، الذى هو بالنسبة إلى الحكمة الإلهية، أقل من ذرة دقيقة، بالنسبة إلى الكون وكل مجرّته، أن صالحه سيأتى من كذا وكذا وكذا.. وعندما يتعارض ما يراه مع ما أمر به الخالق ذو الجلال والإكرام، فهو يعيد تفسير الأمر، بما يتناسب مع ما يراه، ويتصوّر أنه فى صالحه.. أما مَن يؤمن بالله العزيز الحكيم، فهو يتّبع ما أمر به، حتى إن خالف هواه ونزعات نفسه، ورؤيته للأمور، لأنه يؤمن إيمانًا راسخًا، لا شك فيه، أن خالقه الرحمن الرحيم، هو الأعلم بما هو فى صالحه، وأن كل المطلوب منه هو أن يطيعه، ويترك له عزّ وجلّ النتائج.. ولهذا فلدينا الكثيرون ممن يثقون بالله المعز المذل، ولكنهم لا يؤمنون به إيمانًا راسخًا مؤكّدًا، على الرغم من تصوّرهم العكس.. ولأنهم يثقون فحسب، فهم دومًا يلجؤون إلى عكس ما أمر الله سبحانه وتعالى به، فيكذبون، ويخدعون، ويحنثون بالعهود، ويسيئون إلى الآخرين من خلق الله ذى الجلال والإكرام، ويكونون دومًا أفظاظًا غلاظ القلوب، فينفض الناس من حولهم، ويبدون للعيون، بوجوههم المكفهرة، وحواجبهم المعقودة، وعيونهم المحمرّة، وسواعدهم المشمّرة، وتعاملاتهم القاسية الشرسة، أشبه بالكفّار منهم بالمؤمنيين.. وهم لا يدركون!! إذا ما سألتهم عما يفعلون، أجابوك فى غلظة بأنهم إنما يفعلون هذا فى سبيل الله الغفور الودود، الرحمن الرحيم، فتندهش من الجواب، الذى لا يتّفق قط مع الممارسات، وتسأل نفسك مرغمًا: ماذا كانوا سيفعلون، لو أنهم يفعلون من أجل الشيطان؟! ثم لو أنهم عادوا كل من لا ينتمى إليهم، فكيف سيجذبون شخصًا واحدًا؟! أيسعون إلى هداية الناس، أم إلى تخويف وإرهاب الناس؟!.. أم أنهم لا يؤمنون بأن السبيل الوحيد هو الحكمة والموعظة الحسنة؟!.. صديق كان ينتمى إليهم قديمًا، أخبرنى أن أحد قادتهم قال لهم يومًا: إن الحكمة تقتضى فى بعض الأحيان الضرب بالنعال!! لست أدرى ما إذا كان هذا صحيحًا أم لا، على الرغم من أننى أثق فى صديقى هذا، وفى رجاحة عقله وتفكيره، ولكننى أتساءل: كيف يمكن أن تأتى الحكمة مع الضرب بالنعال؟! ثم كيف يمكن أن تأتى الموعظة الحسنة، بعد الضرب بالنعال؟! أسئلة كثيرة، عن الشرعية والمشروعية، والحكمة والموعظة الحسنة، وكلها تضيع مع الغضب والعدوانية وغلظة القلب، وانفضاض الناس من حولهم.. فهل يجيبون؟!.. بالشرعية.