الكل الآن في مصر يخوض حربا.. والحرب ليست بالضرورة حرب أسلحة وجيوش ومعدّات ثقيلة وطائرات ودبابات وصواريخ.. الحرب دوما هي حرب سيطرة.. حرب انتصار وهزيمة.. وساحة القتال هنا ليست الصحاري والجبال.. ولا حتى المدن.. إنها العقول.. والأفكار.. والرؤى.. والاتجاه.. الكل يخوض حربا للسيادة.. لكي تسود أفكاره ومعتقداته المجتمع كله.. وفي هذا النوع من الحروب يخسر الكل.. وبلا استثناء.. فعندما تتحارب الجيوش تكون هناك دوما نهاية.. طرف ينتصر.. وطرف ينهزم.. أو هدنة بين طرفين متعادلين.. ولكن عندما تتحارب الأفكار والمعتقدات؛ فما من نهاية.. فمنذ متى -في التاريخ كله- نجح أي فكر -أيا كان- في فرض نفسه على الناس بالقوة والقهر؟! ابن رشد قال: "إنك لا تستطيع أن تقتل الأفكار؛ فالأفكار لها أجنحة". والمقصود بعبارته أن محاولة قهر الفكر أو فرض الرأي لا يمكن أن تنتهي إلى النجاح.. إذا ما حاولت قهر فكر ما؛ فإنه يتعاظم وينتشر.. وإذا ما حاولت سجنه، فهو يطير ويقوى.. ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {لا إكراه في الدين}. فحتى الدين، لا يمكن فرضه بالقوة.. قد يمكنك فرض أفعال معينة على الناس بحكم القانون.. أو القوة.. أو القهر.. ولكن لا يمكنك -مهما استخدمت- أن تجبرهم على الإيمان بها.. فالذي يحدث -والذي علّمنا إياه التاريخ- هو أن العكس هو الصحيح.. عندما تحاول فرض أمر بالقوة، فهو يتحوّل إلى سجن.. ومن تفرضه عليه يشعر أنه سجين.. والسجين لديه شعور دائم بالرغبة في التحرّر من سجنه.. وكلما ازدادت قيوده، ازدادت رغبته.. ومهما طال به الزمن أو تكالب عليه قهر سجنه، لن يؤمن أبدا ببقائه فيه.. سيسعى دوما للفرار.. وللنجاة.. حتى ولو كان سجنا من ذهب.. فالسجن هو السجن.. أيا كان.. وعبر التاريخ كله، انتهت كل محاولات فرض الفكر إلى انهيار ذلك الفكر.. وأيضا، أيا كان.. حتى ولو كان أنبل فكر عرفه الكون.. ولهذا كانت حكمة الخالق عز وجل في إنه لا إكراه في الدين.. ويا لها من حكمة!! حكمة لم يُدركها البشر عبر قرون.. فخسروا.. ولكن من حكمه عز وجل أن يرفض مَن يصرّون على فرض أفكارهم ومعتقداتهم هذه الفكرة.. وأن يصرّون على فرض ما يؤمنون به بالقوة.. وهذا حتى يخسروا معركتهم في النهاية.. لعلهم يتعلّمون.. ولعلهم يُدركون.. ويفهمون.. حكمة العزيز الجبار في هذا، هو أن يدرك الناس -بالتجربة والخطأ- أن ما أمر به جل جلاله هو الصحيح ولا صحيح سواه.. فالله سبحانه وتعالى قال: {لا إكراه في الدين}. ولكن البشر -الذين يتصوّرون أنهم الأعلم- يصرّون على الإكراه في الدين.. فلو نجح البشر فيما ذهبوا إليه، فسيشكك المشككون في الحكمة الإلهية.. أما لو فشلوا فستُؤتي الحكمة ثمارها.. وسيثبت للكل أنه لا رد لكلمات الخالق ذي الجلال والإكرام.. ومن هنا كانت الحكمة.. ومن هنا كانت ضرورة أن يختبرها البشر بأنفسهم.. ففي القرون الوسطى حاولت الكنيسة فرض الدين بالقوة في أوروبا.. استغلّت ذلك الضعف البشري داخل كل إنسان، تجاه كل ما يمس دينه.. وفي سبيل الدين حاكمت.. وعاقبت.. وعذبت.. وحرقت.. وقتلت.. ثم، وفي النهاية.. خسرت.. بعد قرون من القهر ومحاولة فرض الدين بالقوة، والحرب لإجبار الناس على اتباعه، ماذا كانت النتيجة؟! نفر الناس من الدين وعادوه وهربوا منه.. شعروا طوال قرون أنهم في سجن وسعوا إلى الحرية.. وهنا تتحقق قاعدة علمية ونفسية مؤكدة.. لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه.. محاولة فرض العقيدة بالقوة، يقابلها نفور من العقيدة.. وبنفس القوة.. فمن سيكون المسئول عندئذ مع نفور الناس من العقيدة؟! ليست العقيدة بالتأكيد.. ولكن محاولة فرضها بالقوة.. وهنا يكمن الخطأ.. أكبر خطأ.. الحكمة والموعظة الحسنة، جعلتا الناس يدخلون في دين الله عز وجل أفواجا.. والفظاظة وغلظة القلب تجعلهم يبتعدون عنه أشواطا.. والذين سعوا لفرض العقيدة بالقوة سيكونون المسئولين عن انصراف الناس عنها.. حتى وإن لم يُدركوا هذا.. وحتى إن رفضوا الاعتراف به.. الدين كان يسعى للانتشار بين كفار، وعلى الرغم من هذا فقد أمر رب الكون العظيم سبحانه وتعالى بأن تكون الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.. فلماذا؟! سلوا أنفسكم.. وراجعوا تاريخكم.. واستوعبوا دروس مَن سبقوكم.. ثم احسبوها.. هل يمكن أن تربح حرب الفكر بالقوة؟! هل؟!