سؤال هام طرحناه في المقال السابق.. بمَ تبدأ العقيدة؟! بالإيمان ثم الطاعة.. أم بالطاعة ثم الإيمان؟! المنطق والعقل يقولان إنه من المستحيل أن يطيع الإنسان ما لا يؤمن به، إلا لو تم إجباره على هذا، والإجبار يتعارض أساساً مع الإيمان بنص قرآني يؤكّد أنه لا إكراه في الدين، وينهى عن إكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين.. إذن فليس هناك بديل عن ترك الحرية للناس ليؤمنوا.. أو إيجاد وسيلة أخرى لإيمانهم.. والوسائل هنا إما الترغيب، أو الترهيب.. والترهيب يدخل ضمن ما نهى الخالق عزَّ وجلَّ عنه، فلن تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين.. لا بديل إذن عن الترغيب.. والترغيب يحتاج إلى الدعوة.. والإقناع.. والتحبيب.. وإيقاظ القلوب.. والعقول.. لو سرنا -علمياً- على ما سبق، لن نجد أمامنا سوى سبيل واحد، حتى يؤمن الناس، أو حتى يبدأوا رحلة الإيمان.. العقل.. لا سبيل للطاعة إلا بالإيمان.. ولا سبيل للإيمان إلا بالعقل، هكذا تبدو الأمور واضحة بسيطة.. لقوم يعقلون.. لغة العقل إذن هي السبيل الوحيد حتى ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، فلو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك.. وهذا يعود بنا إلى البداية.. إلى العقل.. العقل هو البداية.. هو الإيمان.. هو الإقناع.. هو الطاعة.. هو قوة الدين وعظمته.. ولكن، في كل زمن وكل عصر، يأتي من يحارب الفكرة في عنف وشراسة.. فكرة الإيمان بالعقل.. العديدون يرون ضرورة الطاعة بلا تفكير، وهذا أمر مستحيل، إلا لو أردنا كثرة ضعيفة مطيعة، قد تبدو جبروتية لبعض الوقت، ثم لا تلبث أن تضعف وتنهار وتتلاشى في النهاية.. دروس التاريخ تعلّمنا هذا.. صفحاته تروي لنا حكايات من تجبَّروا.. وتكبرَّوا.. وقاتلوا.. وقَتلوا.. ومزَّقوا.. وأسالوا الدماء أنهاراً.. وفي كل ما فعلوه، تصوَّروا أنهم إنما يرفعون راية الحق.. ولكن الحق سبحانه وتعالى أنزل عليهم غضبه بعد حين.. ومحاهم من الوجود.. كثيرون عبر التاريخ، تصوَّروا أنهم سيدعون إلى السلام بالحروب.. وإلى الإيمان بالعذاب.. وإلى الحق بالجبروت.. وكلهم نسوا أنه ما من عقيدة طالبت بكل هذا.. ما من أمر إلهي بإراقة الدم.. ولا بهدم المعابد.. ولا بحرق دور العبادة.. ما من أمر إلهي بإيذاء النفس؛ فقط لأنها تؤمن بما لا تؤمن به أنت، أو ترفض أن تؤمن بما تؤمن به أنت.. هذا يتنافى مع العقل.. ولو فعلتها، فماذا يكون الفارق بينك وبين الكفار.. هم عذّبوا، واضطهدوا، وقتلوا، متصورين أنهم يدافعون بهذا عما يعتقدونه ويؤمنون به.. وأنت تعذّب، وتضطهد، وربما تقتل، متصوراً الأمر نفسه.. ولأنك لا تسير بالعقل، فأنت لم تسأل نفسك يوماً.. هل أمرني ديني باضطهاد الناس؟! هل أمرني بتعذيبهم؟! هل أمرني بهدم دور عبادتهم؟! أو حرْقها؟! هل أمرني حتى بإساءة معاملتهم؟! إن لم يكن الرحمن قد أمرني بهذا، فلماذا أفعله؟! وأي ذنب سأجنيه؟! وأي عقاب سأواجهه؟! ألم يستخدم أحد عقله، ليفكر في هذا؟! العقل يا سادة.. العقل.. العقل.. ثم العقل.. خالقنا عزَّ وجلَّ ميَّزنا عن باقي مخلوقاته بالعقل.. بالحكمة.. باللسان الفصيح.. فلماذا نجحد هباته جلَّ جلاله، على هذا النحو؟! ثم لماذا نستمع ونخضع لسواه؟! لماذا نترك آذاننا، وقلوبنا، ومشاعرنا لمن يدعونا إلى نبذ الحكمة، وإهمال الموعظة الحسنة؟! لماذا نسّلم انفعالاتنا لغاضب؟! أو ناقم؟! أو ثائر؟! أو أياً كان، ممن يأمرنا بعكس ما أمرنا به الله سبحانه وتعالى؟! لماذا نتبع من يطلب منا أن نكون أفظاظاً غلاظ القلوب؟! لماذا؟! لماذا؟! لو أعملنا عقولنا بضع لحظات، لربما هالنا ما نفعله.. وربما أدركنا حجم الكارثة.. لو أعملنا عقولنا قليلاً، لرأينا أننا نخالف كل ما أمرنا به ديننا، متصوَّرين أننا بهذا نُعلي من شأنه.. لو أعملنا عقولنا دقيقة، لأدركنا أنه من المستحيل أن أعلي شيئاً، وأنا أخالف كل ما ينادي به.. مستحيل؟! مستحيل؟! وألف مستحيل؟! ولكن المشكلة تكمن في ذلك الذي أوهمنا البعض أنه عدو.. في أثمن ما كرَّم الله عزَّ وجلَّ.. في أعظم ما خاطبه.. في العقل.. اقرأ أيضاً خلينا نحسبها.. لماذا أَحَلنا عقولنا للمعاش المبكّر (1) حرب العقل.. (2) معاوية بن أبي سفيان أوّل مَن منع الناس من التفكير (3)