إسلام مصر إسلام حرية لا عبودية. ومن عبث الأقدار أن يقتل فى عهدنا الإنسان لأنه أعطى صوته للمسؤول عن قتله، ناهيك بتعذيبه وانتهاكه، ولأن الشهيد فى مقام رفيع لا يحتاج إلى دعواتنا، لكننا نحتاجها إلى أنفسنا، الله يرحمنا جميعا لكن مصر باقية على الرغم من كل الغزوات.. إن نظامًا يشهد هذا الكم من التعذيب أمام الاتحادية وفى معسكرات الأمن المركزى وأعداد كبيرة من الاختفاءات وسيول الدماء فى الشوارع وتهديدات بإهدار الدماء وكم الانتهاكات التى تحدث مع الأطفال، التى لا يمكن السكوت عنها هو نظام أفقد شرعيته بنفسه. لا أقل من أن ينزل مرسى فى ظل هذه الظروف بنفسه متفقدا البلاغات والانتهاكات والمعتدى عليهم، لكنه يطالب بمزيد من الضرب بأيدى من حديد.. الأحداث كلها معروفة وما كان خافيا ينكشف مع الوقت، ما يهمنى هنا هو بعض الأفكار التى روجت على مدار ثورتنا المجيدة والمستمرة. المشهد الذى ابدأ به هو انتهاء الانتخابات الرئاسية بين شفيق ومرسى وسقوط الأحلام الأساسية للثورة. بكيت كالكثيرين، لأن الصراع على دولة مصر، فكان من الواجب إعادة ضبط البوصلة، فلاش باك سريع. مجلس عسكرى يفتقر إلى الخبرة السياسية، فيقوم بتبنى الفكر السياسى للنظام السابق، ففى الأغلب قرر أن يلاعب كل الأطراف السياسية بنفس الأدوات التقليدية ليحتفظ بمقدرات الأمور وكالنظام السابق كان يعلم أن الفريق الأكثر قبولا للمساومات والصفقات هو التيار المتأسلم (استخدام الدين فى السيطرة على السلطة السياسية) عاقدا معه سيناريوهات مبدئية، معتقدا أيضا أنه سيستطيع كالعادة أن يسيطر على المشهد الذى تعامل معه بمنطق الانقلاب أكثر منه ثورة، فأفلت منه الزمام، وبهذا المنطق المحافظ تعالى على كثير من الأحداث الجسيمة، وربما علم أو شارك ببعضها، وربما تم توريطه ببعضها الآخر، فالأسئلة كثيرة لم يجاوب عنها أحد حتى الآن، كاقتحام السجون وهروب سجناء منهم الجنائيون والسياسيون من التيارات المتأسلمة واقتحام أقسام الشرطة ودخول أسلحة بأعداد وأنواع مخيفة، ولا ندرى المصدر والمستورد، وإن كانت الريبة تتوجه تجاه الفصائل السياسية التى درجت على استخدامها. مشاهد اختلطت بها أصابع الاتهام كموقعة الجمل وماسبيرو.. من ناحية أخرى فإن فشل المجلس العسكرى وأخطاؤه المتكررة ورفضنا المبدئى إنتاج حكم عسكرى جديد «وإن كان السياق التاريخى لا يشير إلى ذلك لثقة الجيش برساخة موقفه خارج السلطة السياسية المباشرة» فإنه أعطى الفرصة فى ظل المتغيرات الجديدة للتيارات الأكثر توحدًا فى رفع الشعور بالكراهية المبررة ضد «المجلس العسكرى» فى محاولة لضرب الجيش لا المجلس العسكرى فقط. والسؤال الذى يطرح نفسه لصالح من؟ والإجابة التى وضحت آنذاك أكدت أن المستفيد هو من أراد الانفراد بالسلطة المطلقة. هذا المشهد المرتبك أظهر من بين ما أظهر ارتباك النخب السياسية التى احتفلت بانتصار الثورة قبل الأوان فتشرذمت وأصابها الغرور، معتقدة أنها هى التى قامت بهذه الثورة العظيمة، لكن الحقيقة أن الشعب المصرى هو الذى قام بهذه الثورة العظيمة، وإن كان التراكم على كل الأصعدة فى مقاومة النظام الفاسد أدى إلى هذه اللحظة التى إن كنا نتوقعها وندفع إليها، لكنها لحظة لا يمكن الادعاء أن لأحد الفضل فيها. فلولا نزول الجماهير المصرية تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية لما لاقت الدعوات أى صدى فعلى، وكنا ما زلنا فى نفس مستوى الصراع السياسى السابق. أقول هذا الوصف لما سيترتب عليه من انحيازات وقرارات لاحقة. يظهر الخلل الأساسى فى ظل هذه الأزمة الثورية فى الترويج لفكرة المشروع الإسلامى. إن مجرد قبول الفكرة من النخب السياسية التى أحملها هذا الترويج ينم عن خلل فكرى على أفضل افتراض. لأننا سنرى أن الفطرة المصرية الغالبة هى التى اختارت من يمثل التيار المدنى فى الانتخابات الرئاسية الفاصلة. إن مجرد قبول الفكرة الخاصة بالمشروع الإسلامى افترض بدأ أننا لسنا دولة إسلامية صاحبة أكبر منارة وسطية فى البلدان الإسلامية. إضافة إلى أن قبول هذا المشروع السياسى الذى يروج إلى السيطرة السياسية باسم الدين يقطع الطريق على النهضة الفعلية الأهم ألا وهى العمل على استنهاض الثقافة المصرية الإسلامية الثرية فى إطار دولة مدنية مصرية حرة، التى يكمن فيها أصل الخلاف مع السلطة السياسية ذات العباءة الدينية. إن الترويج لهذه الفكرة فتت الأصوات فى المرحلة الأولى بين أصوات الكتلة المدنية، على سبيل المثال حصل أبو الفتوح على كثير من الأصوات التى يفترض أنها مدنية الهوى بقيادة أساتذة من الجامعة الأمريكية وبعض أعضاء أحزاب مدنية، الإشارة هنا إلى التعجب على تقاطع المشاريع الفكرية، وما يمكن أن تعكس من مصالح على أرض الواقع. هذا الاستهتار بمصر أدى إلى تسليمها إلى من يعلنون رأيهم صراحة فيها «طز فى مصر». قدر الله وما شاء فعل وربما أدخلنا التجربة حتى نتعظ. ومن رحمة الله على مصر أننا نخرج من هذه المأساة ونحن شعب واحد. نساؤه ورجاله وأطفاله من جميع الفئات والطبقات فى مواجهة تيار واحد بتنويعاته اللونية مما يطمئننا أن مصر لن تدخل فى حرب أهلية، فالشعب المصرى متجانس فى رفضه الأهواء الإقصائية. ويقع على مدن الأطراف فى صراعنا الحالى دور محورى فى الأحداث القادمة، فبقدر تأمينهم الحدود وتصديهم أو قبولهم المشروع السلطوى بقدر ما سيتم رسم المسار المستقبلى للأحداث. وتسطر لنا مدن القناة نموذجًا للمقاومة ولحمة الجيش المصرى. وبما أن الصراع لم يتم منذ البداية وفق القواعد الديمقراطية السليمة نذكر بإعلان النتيجة الرئاسية الاستباقية والتهديد على الملأ ببحور الدم وصولا إلى الدستور الجديد الفاقد للشرعية السياسية والاجتماعية، إضافة إلى ما رأيناه عيانا بيانا فى ما جرى بالصندوق وكل محاولات ضرب القضاء المصرى على الرغم من التأكيدات اللفظية بعكس ذلك (أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك استعجب)، وصولا إلى سقوط الشهداء والتعذيب والاختفاء، إذن فلا جدوى من الاستمرار فى المهزلة بالمشاركة فى انتخابات برلمانية مقبلة، وإلا نكون مشاركين فى هذا المشهد الإجرامى. لتكن مقاطعة الانتخابات المقبلة والمطالبة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة هما بداية توحيد الحركة السياسية إضافة إلى تجديد تضامننا مع القضاء المصرى الشامخ وآلياته. هذه فرصة للحركة السياسية لإعادة طرح رؤية بديلة. فيا للعار أن نترك الأطفال يحملون لواء الثأر مما حدث من خيانات للثورة، فنسمع أطفالنا الذين عذبوا وانتهكوا وهم يدعون مرسى أن يتقى الله فى شعبه. لكن على الرغم من الأحزان والدم الذى يسيل فى شوارع مصر وقلوب الأمهات والآباء المحترقة على أبنائهم، فإنها ثورة على الطريقة المصرية: عناية إلهية، إرادة تاريخية وثورة مستمرة.