الليلة باردة، والمناخ العام أبرد، الشارع يخلو من المارة، ونحن نقترب من منتصف الليل، مثل بهجة غير منتظرة، ظهرت عربة حمص الشام بألوانها الصفراء والحمراء، تدعونى لممارسة حماقة كل شتاء: شوبّ معتبر من الحمص الغارق فى مائه الساخن (لا أعرف لماذا يطلقون عليها الحلبسّة)، ثم البحث عن الحلو، القليل من البطاطا الساخنة، القادمة رأسا من الفرن المحمول. كنت قد انتويت ذلك اليوم أن أكتب تعليقا على تصريح أطلقه عصام العريان عن عودة يهود مصر، وتعليقا آخر عن وقفة لبعض الإسلاميين فى ذكرى سقوط الأندلس، بدا لى التصريح ثم الوقفة جزءا من لوحة سيريالية جامحة نعيشها منذ تصدّر المتأسلمين المشهد، ولكنى، مع ذلك، لم أبتلع أن أجمع بين يهود مصر والأندلس والحلبسّة والبطاطا فى مقال واحد، إذا كان البعض يخلط كل الأوراق، فالأمر يحتاج إلى وعى وفرز، وإذا كان المتكلّم مش عارف إيه، فلا بد أن يبتعد المستمع عن تناول مأكولات تزيد الطين بلّة. لم أستمع إلى النصيحة، فكّرت فى جدية تصريح العريان وأنا أرتشف الحلبسة، عندما وصلت إلى البطاطا، كنتُ أستدعى مغزى وقفة الأندلس التى كانت فى قلب ميدان سفنكس، أعترف أننى فى الحالتين لم أستطع أن أهضم أى شىء، لا التصريح ولا الوقفة ولا المأكولات، لا بد أن العريان كان جادا بالطبع، هو قيادى فى جماعة الإخوان، وكان وقتها مستشارا لرئيس الجمهورية، لا بد أيضا أن شباب حركة «أحرار» كانت لديهم عاطفة دينية وتاريخية قوية تبرر وقفتهم فى عز الزمهرير من أجل غرناطة. ولكن امتزاج الحلبسة بالبطاطا، رغم وجود فاصل قصير، جعلنى أتخيّل أن التصريحات والوقفة، ليستا، فى حقيقة الأمر، سوى حلول مبتكرة للتخلص من مشكلات مزمنة وعويصة، الطريق إلى استعادة فلسطين يبدأ باستعادة يهود مصر، والطريق إلى استعادة حسين سالم يبدأ فى ظن البعض باستعادة الأندلس، هذا هو الخيال الذى كان يفتقده عصر مبارك. لم أشأ أن أناقش بائعى حمص الشام والبطاطا فى الفكرة، عند أى بائع ما يكفيه، فتح حوارات مع البائعين مغامرة غير مأمونة العواقب، ذات مرة نكشتُ بائعا للكبدة، فاكتشفتُ أنه يعمل صباحا كموظف فى مركز البحوث الزراعية، لم أستطع بعدها أن أسيطر على شكواه سواء من ضعف المرتب، أو من مغالطات صاحب الفرن فى حساب عدد أرغفة الفينو. مع ضربة ملعقة فى شوبّ الحلبسّة، تذكرتُ أن تصريح العريان أطلق ردود أفعال غريبة، طبعا هناك ترحيب، ولكن هناك مطالب بضمانات وشروط للتعويضات، هناك كلام عن مليارات بأسعار اليوم، الأخ عازى نجار، رئيس جمعية يهود مصر فى إسرائيل، كانت له تصريحات أفسدت الوجبة، قال الرجل ردا على دعوة العريان: «قبل دراسة اقتراحك فى العودة إلى مصر، يسعدنى أن أتلقى أجوبة لأسئلة تساعدنى فى اتخاذ قرار عقلانى للعودة من أجل العيش فى مصر، لا يمكن لنا العودة من دون ضمان بيت وعمل ومصدر رزق، وحياة حرة كريمة وديمقراطية». شكوت للبائع من الشطّة، وسألت نفسى عما إذا كان الاتفاق سيكون بين يهود مصر والعريان دون المرور على دولة اسمها مصر؟ هل يريد القيادى اليهودى أن تتحول مصر إلى اليابان كشرط مسبق قبل أن يتنازل بالعودة إليها؟ الرجل تكلم بوضوح عن منزل يعيش فيه، بدلا من أن يضطر إلى العيش وسط المقابر، يريد عملاً ووظيفة، ويرفض أن يبقى عاطلا مثل الأكاديميين العاطلين فى مصر كما قال، دعوة العريان بالنسبة إليه مجرد كلام فارغ. مع البطاطا، كانت الأمور أفضل، بيان حركة «أحرار» كان حافلا بالعبارات الضخمة الفخمة، شاهدتُ اللافتات التى تتحدث عن نكبة الأندلس عام 1492، كتبوا على أعلام وبيارق ضخمة: «حتما سنعود»، قالوا بالنص: «الذين يعتبرون الدعوة لإحياء ذكرى سقوط الأندلس انشغالا عن القضايا الحاضرة، يجب أن يدركوا أن أحد أسباب تأزم الحاضر، وضبابية المستقبل، هو الغفلة عن الماضى.. الأمم التى لا تُحسن صناعة الدروس والعبر من تاريخها، لن تُحسن صناعة الآمال والأحلام فى المستقبل، ولا خير فى أمة تنسى ماضيها». هنّأت بائع البطاطا على بضاعته «المعسّلة»، ولكنى كالمعتاد أسرفت إسرافا واضحا فى التهامها، الليلة باردة، والجو أبرد، عدت أتأمل صور الوقفة، أدهشنى أن إسبانيا لم تأخذها على محمل الجدّ، لم تغضب لأن هناك من يطالب بعودة العرب والمسلمين إلى الأندلس، ربما اعتقدت أن الحكاية كلها يمكن أن تكون دعاية مجانية للسياحة تحت شعار: «عودوا إلى إسبانيا»، طردت الفكرة بسرعة، اعتبرتها من تداعيات اللخبطة فى تناول مأكولات الطريق العام. عاد شيطان حمص الشام يراجعنى فى تصريح العريان، يقول لى بلا رحمة إنه لا يغازل يهود العالم، ولا يهود مصر، ولكنه يغازل أمريكا، اعتبرتها وسوسة حلبسة، لا يمكن التعويل عليها، الجماعة تنظيم «منضبط»، وهناك دولة «محترمة»، لا يمكن أن تسمح بوجود «مشتاقين» على حساب البلد. لم يتوقف شيطان البطاطا عن التساؤل: كيف انتفض البعض لسقوط الأندلس بعد عشرات السنين، ولم يتحركوا وهم يرون سقوط دولة القانون والدستور منذ أيام معدودة؟! لم أستطع الرد، ظللت ألوم نفسى بشدة لأننى أفكر فى التعليق على تصريحات ووقفات مصيرية فى أثناء الأكل. دفعتُ حساب البائعين، عندما هممت بمغادرة عربة الحَلَبسّة، قرأتُ بوضوح عبارة كتبها البائع بقلم جاف على ورق كراسة تقول: «لسنا الأوائل.. ولكننا الأفضل». أدهشتنى جرأة الدعاية ومعناها الفارغ، ولكننى سرعان ما ابتسمت، قلت لنفسى: «هية جات عليك يعنى.. خذ راحتك يا عم.. نحن بلا جدال فى أزهى عصور الحلبسة».