«العقاربة» اسم عائلة امتدت أفرعها فى عدد من محافظات مصر، وإن كان الوجود الأكبر لها فى الصعيد، ظلت لفترة طويلة محطّ أنظار العائلات الأخرى، لما جمعته من منصب وجاه ومال، لكن لم تعلم هذه العائلة أن انتساب واحد منها إلى جماعة إسلامية سيجلب عليها المتاعب، لا للعائلة وحدها، بل للقرية بكاملها، فيبدو أن جهاز الأمن قرر أن يعاقبها لأن عبد الحميد أبو عقرب وُلد على أرضها. مضايقات حدِّث عنها ولا حرج تعرّضت لها الأسرة بشكل مستمر، كأنها تُعاقَب على إنجابها عبد الحميد. لم تشفع لها مناصبها العليا أو قوّتها فى تجنّب الأذى، فطالت أيدى جهاز أمن الدولة المنحل، حتى، ضُبّاط الشرطة فى العائلة، فلم يكن اختفاء عبد الحميد أبو عقرب هو نهاية قصة عذاب الأم والعائلة، ولكنه كان مجرد بداية للكابوس الطويل. «خراب مستعجل»، لم تجد والدة أبو عقرب عبارة تُعبّر عن كمّ المعاناة التى لاقوها أفضل من هذه العبارة، وتضيف: «هرب ولدى ولم أعرف عنه شيئا، هل هو حى أم ميت؟ ولم يكفِ ضباط الأمن أننى لا أعلم عنه شيئا، فبدؤوا فى جرجرة أبنائى الباقين إلى مقر أمن الدولة، والاحتفاظ بهم لأسابيع وشهور. لم يترك الأمن واحدا من العقاربة إلا قبض عليه حتى مَن فى المراكز والمحافظات الأخرى أخذوهم. أحد أفراد العائلة فى المنيا ذهبوا إليه وقاموا بتكسير مصنع ألمنيوم خاص به ثم اقتادوه إلى القسم». «لم يكن لهم موعد ثابت يأتون فيه».. هكذا تصف أم أبو عقرب مواعيد حضورهم، وتضيف «تارة نراهم فى الصباح، وأخرى فى أثناء الإفطار فى رمضان، وثالثة فى الليل. كنا ننتظر قدومهم فى كل وقت. لم يسلم جسدى الضعيف وسنى الكبيرة من أذاهم بكل الأشكال، ضربونى بالحذاء، ولولا أن سخر الله لنا أحد أفراد العائلة، وهو العميد أحمد سعد أبو عقرب، لحدث ما لا تُحمَد عقباه، الذى قال لهم: خذوا كل شىء، ولكن إياكم ونساء العقاربة، حتى لو خدامة عند العقاربة لا تأخذوها». «البهائم لم تسلم من أذاهم»، تقول أم عبد الحميد «كانوا يمنعوننا من أن نسقى بهائمنا، كما كانوا يمنعون أى واحد من الجيران أن يفعل ذلك. سمعوا ذات مرة صوت المُهرة تصيح فكادوا يضربونها بالرصاص. لم يتركوا فى البيت شيئا سليما. كسروا الأبواب والنوافذ حتى إننا كنا، بعد ذلك، لا نُغلق بابا أو نافذة فى البيت لكى يدخلوا وقتما شاؤوا، ومع ذلك أيضا كانوا يكسرونها، ويلقون بأمتعة البيت فى الشارع، وكل ما فى البيت من دقيق وسمن وغيره كانوا يسكبون بعضه على بعض، ويتلفون كل ما تصل إليه أيديهم من مؤونة البيت. فقدت بصرى بسببهم، وتركت البيت وأخذت بناتى لأعيش عند ابنى، الذى كان أستاذا بكلية الهندسة فى أسيوط، لأرتاح قليلا من أذاهم، ولم تنتهِ معاناة الأسرة حتى سلّم ابنى نفسه لهم»، وأنهت قائلة «أبوه مات حزينا عليه. كان نفسه يشوفه قبل ما يموت، ولاّ حتى يمشى فى جنازته! منهم لله البُعَدا». عمران أبو عقرب، شقيق عبد الحميد، مهندس زراعى، يبدأ القصة من يوم 12/4/93، اليوم الذى قُتل فيه اللواء الشيمى، يقول «سمعت بمقتل الشيمى وأنا فى جمعية الثروة الحيوانية الساعة 3 عصرا، فتوجهت إلى بيت ابن عمى، عضو مجلس الشعب، سعد مهران أبو عقرب، ففوجئنا بأكثر من ثلاثة آلاف جندى يحاصرون القرية، وشعرت أن اسم أخى سيرد فى الحادثة، وتوجّهت إلى البيت، وهو يبعد عن منزل ابن عمى 34 كيلومترا، وفى الطريق عندما رأونى توجهوا إلىّ وقاموا بضربى بشكل مبرح، حتى كسروا لى أربعة ضلوع، وأخذونى إلى أمن الدولة، ومكثت 6 أشهر كاملة فى تعذيب شديد من قِبل ضباط الفرع، وسمعت فى اللاسلكى ضابطا يقول للمخبرين: «اقتلوه»، إلا أنهم لم يفعلوا، ثم توجهوا بى إلى بنى سميع، قرية بجوارنا، فى سيارة ثم انتقلوا بى إلى مكان آخر ظنوا أن عبد الحميد موجود فيه، ثم عادوا بى إلى القسم فوجدت بانتظارى العميد على عبد الرحيم، الذى حقق معى ومع عدد من أفراد الأسرة، على اعتبار أن عبد الحميد هو قاتل الشيمى، ثم اصطحبونى إلى أمن الدولة بأسيوط، وهناك كرروا الاعتداء علىّ بالضرب المبرح، حتى امتنعت عن الأكل لمدة 10 أيام، كان ما يتم معى نوعا من الانتقام فقط، وظللت هناك فى أمن الدولة لمدة 40 يوما، وكانوا فى هذه الفترة يأخذون أعضاء فى الجماعة الإسلامية محجوزين معى ولا يعودون، ثم أسمع أنهم قُتلوا، وبعد 6 أشهر كاملة خرجت إلا أننى كنت فى هذه الفترة تحت تصرف أمن الدولة، فلا يمر يوم أو أسبوع حتى أكون فى المقر، أنا وأبناء عمومتى وإخوتى جميعا، مع تعرضنا للتعذيب فى كل مرة نذهب فيها». مصطفى أبو زيد أبو عقرب، ابن عم عبد الحميد، يقول «كان عمرى وقتها 16 عاما، ولأنى كنت قريبا من ابن عمى عبد الحميد وأتحرك معه كثيرا نلت القسط الأكبر من التعذيب. كانوا يُحضِرون المياه المثلجة فى شهر 12 ويقومون بوضعى فيها، ثم يأتون بماء ساخن ويضعوننى فيه حتى أُصبت بذبحة صدرية، وأضيف إلى ذلك التعذيب الذى لا ينتهى ليل نهار. أربعة أشهر كاملة قضيتها ما بين أمن الدولة بأبو تيج وأسيوط، وفى النهاية قاموا بترحيلى إلى سجن الفيوم واعتقلونى لمدة عامين كاملين، فإذا كان لدينا الضباط والرتب الكبيرة ونتبهدل كده فما الذى تفعله العائلات الأخرى؟! ظللنا أربع سنوات نعانى من هجمات الحكومة علينا، كسروا الأبواب والشبابيك. كنا نترك الباب مفتوحا، وكان الأمناء والمخبرون يأخذون إتاوة من الزرع، من البرسيم والموز، كما كانوا يحصلون على أموال، وكنا نرسلها إليهم أحيانا على منازلهم لننجو من أذاهم». محمود أبو زيد موسى أبو عقرب، شهرته «قاعود أبو عقرب»، ابن عم عبد الحميد، قال «كنا نستيقظ ونجد البنادق مُصوَّبة إلى وجوهنا. نخرج إلى الشوارع ونحن من عائلة لها اسمها ومكانتها ليس فى صعيد مصر، ولكن فى مصر كلها، بهذا الشكل المهين، وجوهنا إلى الحائط ثم نُقاد إلى أمن الدولة، أمى من كثرة ما تعرّضت له من أذى أصيبت بشلل، وظللتُ 5 أعوام كاملة أُعالِجها حتى توفاها الله»، ويضيف «أعرف جيدا من كان يقوم بتعذيبنا ليل نهار من المباحث، وهم عبد الرحيم رزق وحسن شلتوت وأسامة عوض وأحمد الشريف، وعماد القاضى، الذى كان مع الأسف قريبا من العائلة. لم نكن نستطيع سقى الزرع حتى مات، الغلة سُرقت من البيت، النساء كن يقمن بالخدمة، وأحيانا يتم منعهن، ومن كان يخدمك يعمل مرشدا عليك، حتى حوّل الأمن الجيران إلى مرشدين على العائلة. البهائم كانت تُترك دون ماء أو طعام، وكل بيوت العقاربة حدث لها هذا الأمر. قطعوا المياه والنور عن القرية وفرضوا حظر تجول عليها 15 يوما، وكانوا يُحضرون أفراد العيلة من الأرض إلى المركز، كل واحد إيده على كتف التانى فى منظر سيئ. المخبرون سرقوا الذهب من البيوت، وكانوا يتعمدون ضرب كبار العائلة أمام الشباب من أجل إذلالهم حتى إنهم ضربوا عمى عبد الرحيم وأطاروا العِمّة عن رأسه، وتلك فضيحة فى الصعيد». عبد الرحيم أبو عقرب، شقيق عبد الحميد يقول «عندما قُبض علىّ مع الآخرين وكنت قريب الشبه من أخى عبد الحميد ظنّ أحد الضباط الكبار أنى عبد الحميد فصاح فى من معه: كيف تحضرونه إلىّ وهو حىّ؟ فصرخت بأعلى صوتى: يا باشا أنا عبد الرحيم مش عبد الحميد، الله يخرب بيتك يا عبد الحميد. وظللت أكثر من 8 سنوات لا أستطيع الزواج بسبب هجومهم المتكرر على البيت ليل نهار، حيث كان يتم كسر أثاث الزوجية كلما اشتريته ويتم تمزيق المراتب بسونكى البندقية، حتى امتنعت العائلات عن تزويجى بعدما كانت تتمنى». الحاج حسين أبو عقرب، عم عبد الحميد، 80 عاما، عبّر عما حدث معهم بقوله «حدث معنا كل شىء سيئ، تفتيش وإهانة وحبس فى أمن الدولة وتكسير بيوت، ومن كثرة ما حدث لنا كنت سأحضر بندقية وأجهز عليهم، لكن أخى الكبير عثمان أبو عبد الحميد رفض ذلك. كانوا يضعون أكثر من 25 شخصا فى غرفة واحدة ليست بها نوافذ وبابها حديد حتى شعرنا من فرط الحرارة أننا بداخل فرن. لم يكتفِ الأمن بل إمعانا فى إذلالنا قاموا بتنصيب شبابنا على الأكمنة فى الطريق ليقوموا بتفتيش السيارات طوال الليل ويبحثوا عن ابننا وتمرّ عليهم دوريات فى أثناء الليل للتأكد من أنهم يؤدون العمل المطلوب، كما تم وقف الضباط الذين ينتمون إلى العائلة عن العمل لمدة شهرين، وبواسطة جميل أبو عقرب، عضو مجلس الشعب وقتها، وتدخله لدى وزير الداخلية وقتها عبد الحليم موسى، عادوا إلى العمل، لكن فى نويبع وأسوان وأماكن نائية، وما صبّرنا أننا كنا متأكدين من أنه مظلوم، ولو كنا نعلم أنه فعل شيئا لقتلناه، لكنه لو خلع نظارته لا يرى أبعد من متر». محمد عبد المنعم يحكى قصته فيقول «أنا جار للشيخ عبد الحميد. حضرت قوات الشرطة بعد الحادثة وأخذونى معهم إلى أمن الدولة، ووضعوا عصابة على عينى ولمدة 10 ساعات قاموا بتعذيبى بشكل متواصل، وعرّضونى للكهرباء فى أماكن حساسة من جسدى، وخلف أذنى. كل هذا وهم يطلبون منى أن أقول إنى رأيت عبد الحميد يقتل اللواء الشيمى». كمالا رمضان، 60 عاما، أرملة ترعى 7 من الأبناء، أوقعها حظها فى أن يكون مصدر رزقها بجوار المكان الذى قُتل فيه اللواء الشيمى. تحكى قصتها فتقول «ذهبت كما أذهب كل يوم لأشترى بعض الخضار من السوق بالأجل، ثم أعود إلى عشة نصبتها لأبيع فيها وأنفق على أطفالى وفى هذا اليوم رجعت ودخلت كعادتى إلى العشة لأبدأ يومى، وفجأة وجدت عشرات العساكر يدخلون العشة ويضربوننى بكل قسوة وأنا لا أعرف ما الذى يحدث حولى. ركبت السيارة لا أعرف إلى أين. سبونى بألفاظ قبيحة، ولا أدرى لماذا؟ عصبوا عينىّ بالشال الذى أضعه على رأسى! وفى أمن الدولة طلبوا منى أن أعترف بأن عبد الحميد أبو عقرب قتل الشيمى. قلت لهم أنا لم أرَ هذا، فقالوا: ادوكى كام رشوة علشان ترفضى؟ قلت لهم: أنا أربى أيتاما لكن لا أقول إلا الحق، وأنا لم أرَ ما تقولونه لى. وأمام إصرارى خلعوا أظافرى وأنزلونى فى طرنش الصرف الصحى، وأرسلونى إلى لاظوغلى فى القاهرة، هناك كرروا نفس الكلام: اعترفى بأن عبد الحميد قتل الشيمى. وظللت فى التعذيب 6 أيام متواصلة كسروا فيها أسنانى وهددونى بتعذيب أطفالى الصغار، ومن كثرة ما تعرّضت له قلت لهم «اكتبوا اللى عايزينه». تذكر السيدة أن الذى باشر تعذيبها ضابط اسمه حسن سعد وآخر اسمه رزق شعيب. حسين هريدى جار لأبو عقرب يقول «كنا نجلس معا فى الطاحونة، وعندما وقعت الحادثة أخذونى إلى أمن الدولة، وظلوا يعذبوننى حتى أُغمِىَ علىّ من شدة التعذيب، وقضيت شهر رمضان كاملا فى الحجز دون أى سبب إلا أنى أعرف عبد الحميد، وفى فترة حظر التجول ظللت بعيدا عن بيتى، لا أستطيع الدخول ولا أعرف من أين يأكل أولادى، حتى العساكر أنفسهم لم يكونوا يجدون مياها يشربونها، لأنهم قطعوا المياه عن البلد والجيران أغلقوا أبوابهم على أنفسهم». ضاحى عبد الرازق، يملك محلا بجوار موقع الحادثة، يقول وهو يُتهته فى الكلام «كنت فى المحل فسمعت صوت ضرب نار شديدا فأغلقته وذهبت إلى عملى فى مصنع الغزل والنسيج بأسيوط، وعندما عدت قالت لى أمى: الحكومة سألت عنك، ولم تكمل كلمتها إلا ووجدتُ جنود أمن مركزى يدخلون البيت من الباب والشباك، وضربونى وشتمونى، ثم حملونى إلى السيارة وذهبنا إلى أمن الدولة، وكان معنا أشخاص كثيرون فى السيارة، جميعهم عاد إلى بيته إلا أنا، ثم قاموا بخلع ملابسى إلا الشورت، وظلوا يضربوننى من الساعة 11 حتى أذان الفجر، وكان سؤالهم الوحيد: أين عبد الحميد أبو عقرب؟ 4 أشهر كاملة وأنا تحت رحمتهم، تارة فى القسم وأخرى فى أمن الدولة بأسيوط وثالثة فى فرق الأمن. كانوا يسلطون الكهرباء على أماكن حساسة من جسدى ل5 ساعات متواصلة، حتى أُصبت بعاهة مستديمة». وينهى قائلا «انظر.. الآن لا أستطيع الحديث بطلاقة»!