فى حياتنا الثقافية والأدبية، يختصر النقاد والمثقفون والسلطة السياسية بالأساس، كل جيل فى كاتب أو شاعر، وربما يكون هناك نوع من الكرم، لتتم عملية توسيع الدائرة لتصل إلى اثنين أو ثلاثة، وهذا ما يحدث عندنا طيلة القرن العشرين، فالبطولة دومًا مختصرة ومحدودة ومكثفة ومراقبة، ولا يساور النقاد بطولة الجماعة الشعرية أو القصصية أو النقدية إلا قليلًا. لذلك كان محمود سامى البارودى هو شاعر الثورة العرابية، وذلك لأنه كان يتصدر المشهد السياسى، بعد توليه نظارة الحربية وغيرها من المناصب، التى أسبغت عليه أهمية خاصة فوق أهميته كجنرال، رغم إخفاقاته التى حدثت فى ما بعد ونفيه إلى سرنديب مع رفاقه الآخرين. كذلك الشاعر أحمد شوقى الذى ولد بباب «إسماعيل» الخديو، والاهتمام الجارف به وبشعريته وبتربيته، مما جعله قادرا على الإبداع والإنتاج وعرض هذا الإبداع فى أحسن صورة، وتوفر الطاقات الخادمة لترويج شوقى، وبالطبع كان كل ذلك يدفع الشاعر إلى التطور والتجديد ووضعه باستمرار تحت الأضواء المبهرة، حتى حصوله على لقب أمير الشعراء. أما شاعر النيل حافظ إبراهيم، وهو ينطوى على شعرية عبقرية، فيحاول أن يخترق كل الحواجز التى تعوق وصوله إلى المنصات المرموقة، وتعمل موهبته العملاقة لكى تكون جنبا إلى جنب مع الشاعر الأمير، وربما زاحمت موهبته موهبة شوقى، لذلك دوما نجد اسم حافظ مقرونا بشوقى. ولكن ما حدث أن هذين الشاعرين وقبلهما البارودى وضعوا معظم شعراء المرحلة فى محل نظر وانتباه أدنى من المتابعين. مثل خليل مطران وأحمد الزين وإسماعيل صبرى وغيرهم، ولم يلتفت أحد إلى عبد الله نديم وإنجازاته وتجديداته إلا بعد رحيله بعقود من الزمان. ومثلما حدث ذلك فى القديم، وقع فى العصر الحديث والأحدث، واستأثر شاعر أو شاعران، وقاص أو قاصان، وروائى أو روائيان، وتم إغفال الآخرين بضراوة، وعندنا مثالان فى غاية القوة والوضوح، وهما يوسف إدريس ونجيب محفوظ، وأنا عندما أكتب عن هذه القضية دوما، لا أقلّل من شأن هؤلاء الكبار جميعًا، ولكننى ألوم وأعتب على الدوائر المتابعة والناقدة والمراقبة والمؤرخة، والتى تنساق إلى فرقة المصفقين لشاعر واحد أو إلى شاعرين، وهذا ما نلحظه حتى الآن، وهناك نقاد وناقدات تخصصوا فى تفعيل هذه الظاهرة، فعند بروز أى اسم أدبى، هرولوا أو هرولن نحو هذا الاسم، قبل قراءة ما كتبه، وجاءت الجوائز الكبرى لتكرس ذلك، وتزيد الظاهرة تكريسا وتعميقا. وفى الخمسينيات كان يوسف إدريس عملاقًا بكل المعانى الأدبية والسياسية، وهو الكاتب المدلل لدى السلطة كذلك، وهذا ما سنرصده فى دراسة كاملة بإذن الله، وكان بروزه الاستثنائى هذا، حائلًا دون وصول آخرين إلى مراكز الرؤية، فذهب هؤلاء إلى زوايا النسيان لفترة من الزمن، ومنهم إدوار الخراط وفاروق منيب وعبد الله الطوخى ومحمد صدقى وآخرون. وكما حدث فى ميدان القصة، حدث فى مجال الرواية، وفى مجال الشعر، وفى النقد أيضا، فالتكريس الذى حدث لصلاح عبد الصبور، ومن بعده أحمد عبد المعطى حجازى، وهما يستحقان كل تقدير وتعظيم، لكن انشغال الدوائر النقدية والصحفية والسياسية بهذين الشاعرين، أغفل تماما الشعراء الآخرين وأزاحهم عن المشهد الشعرى بقسوة، منهم كمال نشأت، وعبد العليم القبانى، وفتحى سعيد، وكامل أيوب، ومصطفى بهجت بدوى، ونجيب سرور، وعبد الرحمن الشرقاوى، وجيلى عبد الرحمن، وعبد المنعم عواد يوسف، وحسن فتح الباب ومحمد الجيار وعبده بدوى. طالت المقدمة كالعادة، لكى أصل إلى الشاعر عبده بدوى، هذا الشاعر الذى نشرت عنه جريدة «المساء» فى 23 يونيو 196. خبرًا يقول «الشاعر والفجر وإفريقيا.. الصورة الشعرية الإفريقية للشاعر عبده بدوى» والتى نشرها فى ديوانه (باقة نور) أتم الفنان سليمان نجيب تلحينها.. سيتقدم بها لمنحة التفرغ. الشاعر عبده بدوى المولود فى عام 1925 بمحافظة البحيرة، بدأ حياته الأدبية فى الخمسينيات، ونشر ديوانه الأول «شعبى المنتصر» بتقديم لفتحى رضوان، ثم أعقبه بديوان «باقة نور» عام 196.، ثم توالت دواوينه «لا مكان للقمر»، و«كلمات غضبى»، و«أوبرا الأرض العالية»، و«محمد» و«السيف والوردة» و«الجرح الأخير» وثم «يخضل الشجر» و«الحب والموت» وغير ذلك من دواوين شعرية، أثرى بها حديقة الإبداع الشعرى فى مصر والعالم العربى. وبعيدا عن الإبداع الشعرى، فللدكتور الشاعر عبده بدوى فضل ريادى لا ينساه أحد صهرته نيران البحث ومتاعبه، وهو دوره فى التعريف بالأدب الإفريقى، بداية من كتابه «الشعر فى السودان» وبعده «الشعراء السود وخصائصهم الشعرية»، وفى كتابه «الأدب الإفريقى»، أثنى الدكتور والنقد الراحل الكبير على بدوى، ونسب إليه دور اكتشاف هذا الأدب المجهول لنا تماما، وكانت دراسات عبده بدوى رائدة فى هذا المجال، وقد نشر بعضًا من دراساته فى دوريات مختلفة، وعلى رأسها مجلة «الشعر»، وقد ترأس تحريرها لفترة ما من الزمن، وأولى عنايته لبعض الأدباء والشعراء العرب الذين ذهبوا إلى إفريقيا وانتصروا لها، وكتبوا عنها، وتقاطعوا مع الحياة فى إفريقيا بشكل كبير. عبده بدوى الذى اكتشف الطريق الثقافى الأول إلى إفريقيا، نوّه بعض من كتبوا عنه -مع ندرة من يكتبون عنه- إلى أن هذا الدور سُرق منه، ونُسب إلى آخرين، لذلك يرى البعض أن عبده بدوى ظُلم شاعرا وناقدا وباحثا موضوعيا، وكان لهذا الظلم أثره فى تغريبته التى طالت فى الكويت، حيث ظل يعمل أستاذًا للأدب فى جامعاتها، ومنذ رحيله فى آخر يناير 2..5، لم تحتفل به الدولة، رغم مرور عشر سنوات على رحيله هذا العام، هذا الاحتفال الذى يليق به وبنا.