من فن »الباتيك« الأفريقى وكان الأفريقي نفسه يتسلل إلي الآداب الغربية ،باعتباره المخلوق الأدني والشرير ،والذي يرتقي عن الكائنات الحيوانية قليلا في عقود ماقبل الخمسينيات ،لم يكن الأدب الأفريقي معروفا بأي شكل من الأشكال في بلادنا ،وكانت مجرد إشارات هنا أو هناك للإشارة إلي القارة نفسها ،دون استدعاء أي كتابات أدبية لهذه القارة ،وبالطبع فالكتّاب والقرّاء العرب كانوا مشغولين بما يقدمه الغرب من ثقافات ،فكانوا يترجمون تولستوي وأنطوان تشيخوف وبرنارد شو وجوستاف لوبون وتوماس هاردي وفيكتور هوجو وغيرهم ،وعندما نقول الأدب الأفريقي فنحن نقصد أدب الأفارقة غير العرب ،ولا نقصد الأدب الجزائري أو الأدب الليبي أو الأدب في تونس علي سبيل المثال ، ولكننا نعني الأدب الذي كان يمثل الأفارقة في نيجيريا وغينيا والسنغال كأمثلة للتعبير عن العمق الأفريقي ،أو أفريقيا السوداء ،أو أفريقيا الزنجية كما درجت الصحافة والدراسات الأدبية تطلق عليها آنذاك وفيما بعد،هذا الأدب الذي تشكل خارج أفريقيا أولاكجغرافيا ،ولكنه نشأ كفكرة خارج الحيز الجغرافي للقارة ،ثم ذهب إلي أفريقيا كمكان وزمان وقضايا متشابكة . وكان الأفريقي نفسه يتسلل إلي الآداب الغربية ،باعتباره المخلوق الأدني والشرير ،والذي يرتقي عن الكائنات الحيوانية قليلا ،وللأسف هناك كتاب كبار انزلقوا إلي هذه التعبيرات في الغرب ،ففي عام 1930 أعلن الجنرال جان كريستيان مؤسس سياسة التفرقة العنصرية في جنوب القارة قائلا :"إن الزنجي هو أشد الحيوانات صبرا وجلدا بعد الحمار"، وللأسف فإن دائرة المعارف البريطانية في طبعتها عام 1797 قد حشدت في مادة "زنجي" قائمة من الخصائص المزعومة كما يذكر علي شلش في إحدي متابعاته منها :(الخيانة والقسوة والخسة والتهور والميل إلي السرقة والكذب والانحلال والإلحاد ..)،وكان من تعريف الزنجي كذلك :"أنهم غرباء علي كل عاطفة وحنان ونموذج لانحلال الإنسان وفساده حين يترك وشأنه". وبالطبع فإن هذا التعريف بالأفريقي ،انسحب علي كافة المستعمرات الفرنسية والإنجليزية والبلجيكية التي كانت تنتشر في كافة أنحاء الكرة الأرضية ،ولم تكن هناك إرادات قوية ومستقلة للأفارقة، والشعوب المغلوبة علي أمرها ،إلا بعد أن قامت ثورة مصر عام 1952،وبعدها انفتحت أبواب حركات التحرر في القارة ،وحدثت أشكال من الدعم المادي والسياسي ، ثم قامت حركة باندونج ،التي وضعت أفريقيا علي خريطة العالم الجديد ،ليست أفريقيا المحتلة ،بل أفريقيا الناهضة والساعية نحو التحرر والتطور والتخلص من كل أنواع العبودية. وبالتالي كان الأدب هو إحدي أدوات التعبير عن هذا النهوض الأفريقي العارم ،ولم يكن هذا النهوض يخص الجانب غير العربي في القارة الأفريقية ،بل إنه امتد ليشمل بلادا أخري عربية ،وكان الشاعر محمد الفيتوري المصري السوداني ، هو أحد الشعراء الفتيان الذين تصدوا للكتابة عن أفريقيا ،وللتصدي للتاريخ الدامي لاضطهاد الأفريقي ، واستهجان وجوده في العالم. وهنا لا بد أن نشير إلي التباس فكرة الأفرقة في الأدب ،وحول هذا الأمر نشبت بعض المشاغبات التي لا بد من ذكرها هنا ،فمن المعلوم أن معركة شهيرة ثارت في القاهرة حول الأدب الأفريقي ،وكان طرفا المعركة هما الشاعر محمد الفيتوري الذي حمل القضية الأفريقية علي عاتقه كقضية محورية في النضال التحرري الأفريقي من ناحية،والناقد الواقعي محمود أمين العالم من ناحية أخري ،وعندما كتب الفيتوري قصائده الدفاعية عن الأفريقي ،وعن اضطهاد الأبيض بشكل عام للأسود المتعدد والمنتشر في بلاد العالم ،انتقده العالم علي صفحات مجلة الآداب اللبنانية ،واعتبر أن قضية اللون ، ماهي إلا قضية ثانوية ،وإبرازها علي هذا النحو ،قد يعطّل من تطور القضية الاجتماعية الطبقية الأشمل ،ولكن الفيتوري، أبان وأوضح ودافع ،إن قضية الأسود الأفريقي قضية طبقية واجتماعية في الأساس ،لأنها قضية تمييز عنصري واضح ، ولا يمكن فصلها بأي شكل من الأشكال عن القضية الكبري ،وهي صراع الانسان عموما ضد أي تمييز قائم في الحياة ، أيا كان هذا التمييز ،التمييز الطائفي أو اللوني أو الطبقي أو الفئوي أو القبلي والديني وهكذا. وكان ديوان محمد الفيتوري الأول ،الذي صدر عن دار الآداب عنوانه :"أغاني أفريقيا"،وللمفارقة أن محمود أمين العالم هو الذي قدمه ،بعد أن وضع أساسا متينا للقضية ،وتضمن الديوان قصائد تحمل عناوين واضحة وصارخة في الوقت ذاته ،مثل "ثورة قارة ،و"أغاني أفريقيا "،و"أنا زنجي"و"الطوفان الأسود"و"حدث في أرضي"،وهكذا من القصائد التي كانت صوتا جديدا ،ورياحا مختلفة علي الأدب العربي،ولم يكتف الفيتوري بهذا الديوان ،ولكن العناوين والقصائد التي جاءت فيما بعد ،عمّقت من لفت النظر حول القضية الأفريقية في الأدب عموما. ويستعيد الفيتوري هذه المعركة في ديوانه "اذكريني يا أفريقيا "الذي صدرت طبعته الأولي عام 1966 قائلا :"إن محمود أمين العالم أكثرهم جدية ،وإحساسا بمسئولية الناقد ،إنني أحمل له قدرا كبيرا من المحبة والتقدير ،غير أنني أثق تماما ،في خطأ موقفه من هذا الاتجاه الشعري الجديد الذي تبلورت ملامحه في ديواني "أغاني أفريقيا"..هل الخطأ في التفسير ؟في النظرية أم في التطبيق ؟..قلت له ،وأنا أناقشه في مجلة الآداب :إنك لا تستطيع أن تتعمق مأساتي ..لأنك لا تستطيع أن تعيش تجربتي ..قال لي : إنها مأساتك الخاصة ،تسقطها علي قارة بأكملها علي أفريقيا ..إنك شاعر مريض ..قلت له : المرضي كثيرون ،وأنا واحد منهم ..كلهم يعانون مثلي ..أقصد كلنا ..ثق فيما أقول ..وأنا أريد في هذه المرحلة من شعري أن أتطهر من مرضي بأن أبوح به ،لقد جرؤت علي أن أكسر الصدفة من الداخل ،ولذلك تجدني أغني مبتهجا بمادة حزني". ولا ينتهي الأمر عند الفيتوري ،فهو الملقب بعاشق أفريقيا ،وهو الذي ظلّ يغني لها في أشعاره ،وكتب مسرحيته "سولار"أو "أحزان أفريقيا"، ليضع قدما راسخة للتعريف بهذا الأدب في اللغة العربية. ومن ناحية أخري كان هناك الشاعر عبده بدوي ،وهو أول من قام بالتعريف علي نطاق متوسط بالأدب الأفريقي ،بل إنه تجاوز ذلك ،إلي التعريف ببعض الأدباء العرب الذين ذهبوا وعاشوا في أفريقيا ،وتبنوا القضية الأفريقية ،ودافعوا عنها بشكل مثير وعادل في الوقت ذاته ،ومن هؤلاء الشاعر السوري عبد الباسط صوف،وهنا لا ننسي المسرحية التي كتبها الكاتب والقاص رؤوف مسعد عن الزعيم الأفريقي لومومبا. ثم كان علي شلش الذي قرأ عام 1957في مجلة أمريكية وهي مجلة »atlantic « الثقافية ،ملفا يضم مجموعة من القصائد والحكايات الشعبية والقصص القصيرة من غرب أفريقيا ،خاصة من نيجيريا ،وبعد قراءته لهذه المادة الغنية ،ونالت كامل إعجابه ،ومنها تعرّف علي أصوات جديدة وعفية ومختلفة في الأدب ،وبدأ شلش رحلة التعريف الواسع بالأدب الأفريقي ،وترجم هذه القصص والقصائد ،وراح ينشرها في المجلات والصحف المصرية والعربية ،وأصدر أول كتاب عام 1963 عنوانه "من الأدب الأفريقي". وكانت القاهرة في عقدي الخمسينيات والستينيات تعمل كمركز كبير وواسع لاحتضان حركات التحرر الوطني في العالم الثالث ،وكانت تحتضن كذلك مثقفين وكتابا وزعماء أفارقة ،واستعان علي شلش ببعض هؤلاء ، وكان يستعرض معهم أهم الإصدارات الشعرية والروائية والمسرحية في أفريقيا ،وكان اندهاشهم كبيرا بهذا الاهتمام الذي يكاد يكون فرديا واستثنائيا ،وكانوا مقدرين لهذا التقدير الذي يصدر من رجل مخلص كهذا الرجل ،حيث إن الأدب الأفريقي كانت صورته في البلدان الأوروبية ،مجرد آداب فلكلورية فقط ،وليست أدبا إنسانيا فائق القيمة ،وشديد الأهمية ،ومن هنا تأتي أهمية علي شلش الذي نقل بعض آثار الأدب الأفريقي في إصدارات عديدة أخري ،منها كتاب "سبعة شعراء من أفريقيا"،الذي صدر عن دار الهلال عام 1977،لمؤلفه جيرالدمور ،وكان الكتاب يتضمن التعريف بالشعراء الذين يكتبون باللغتين الفرنسية والإنجليزية ،وهم ليوبولد سنجور ،وداود ديوب ،وأموس توتولا ،وتشنوا اتشيبي ،وكامارا لابي ،ومونجو بيتي ،وحزقيال مفاليلي. وجاء هذا الكتاب ليضع قضية الشعر الأفريقي ،في صدارة الأدب العالمي ،رغم أن هؤلاء الشعراء والأدباء كانوا متأثرين بشكل أو بآخر بالآداب الأوروبية ،ولكنهم بذلوا مجهودات مضنية ،لإبداع شعر يعبّر بشكل قوي وحاد عن الشخصية الأفريقية ،والقضية الأفريقية ،والقارة الأفريقية التي عاشت طويلا تحت كافة أشكال الاستبداد السياسي والعنصري والطبقي واللوني والاجتماعي. وفي عام 1979 أصدر علي شلش كتابا عن "الدراما الأفريقية " متضمنا بعض المسرحيات التي واكبت التطور الأدبي الكبير الذي كانت تعيشه أفريقيا ،وحققت فيه إنجازا ملحوظا ،وبدأت كتابات كثير من أدبائهم تنال اهتماما واسعا في اللغات الأخري ،إذا كان هذا الأدب مكتوبا باللغتين الإنجليزية أو الفرنسية ،أو كان مكتوبا باللغات الأفريقية الخاصة،مثل اللغة السواحيلية،وفي عام 1986 أصدر كتابا عنوانه "مختارات من الأدب الأفريقي"،ثم جاء كتابه الأهم والأشمل وهو "الدب الأفريقي"،الذي يعتبر من أهم ماصدر في ذلك الوقت "1993" للتعريف الواسع بهذا الأدب،حيث إن الكاتب أجري جولة نقدية واسعة وعميقة في الشعر والمسرح والرواية والقصة القصيرة والسيرة،وطاف بأهم ملامح وكتّاب الأدب الأفريقي. ولم يقتصر الأمر كذلك علي كتاب وناقدين عرب فقط ،بل استكتبت مجلة الهلال القاهرية بعض الأفارقة للتعريف بالأدب الأفريقي الناهض ،ومن بين هذه الدراسات التي قدمها أفارقة يعيشون في القاهرة ،ويدرسون اللغة العربية ،جاءت دراسة "الأدب الأفريقي الجديد"للشاعر الأفريقي جورج أدورنو ويليامز،ونشرها في العدد الصادر في أول أكتوبر عام 1964،وبدأ