عاش بداية حياته فى الإسكندرية، بين أمه المصرية، ووالده السودانى الأصل، وكان لون بشرته السوداء يمثِّل له أرقا كبيرا، لدرجة أنه كان مساحة الصراع الأولى مع الآخر الأبيض، رغم أنه كان يعيش فى مصر، وليس فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث مصر لا تعرف هذه التفرقة اللونية على وجه الإطلاق، حيث إن المصريين أنفسهم ليسوا ذوى لون أبيض كلون الأوروبيين، وبالتالى فالمشكلة غير قائمة، رغم ذلك كان الفيتورى يعتبر أن هذه المشكلة قائمة، ومن الضرورى إثارتها. وفى أواخر أربعينيات القرن الماضى كان يراسل المجلات المصرية، مثل مجلة «الثقافة»، ومجلة «الرسالة»، وله رسائل عديدة للناقد أنور المعداوى، يستعطفه فيها لكى ينشر له قصيدة، وإذا لم ينشر سوف يشنق نفسه، ونشر بالفعل أنور المعداوى قصائد له فى مطلع الخمسينيات، وكانت هذه القصائد تغلى غضبا، وتغرق فى التعبير عن المشكلة اللونية، هذا فضلًا عن أنه كان يشعر ببعض الدمامة وبعض القصر، وكانت هذه الصفات الإضافية تعمل على إشعار الفيتورى بالضآلة فى هذا الكون. وربما تكون حدّة قصائده أسست لاسمه بشكل كبير فى تلك الفترة الأولى قبل أن يصدر ديوانه الأول، وتجاوز المجلات المصرية، إلى مجلات أخرى مرموقة، مثل مجلتَى «الأديب» و«الآداب» اللبنانيتين، وهذه الأخيرة كانت تنشر قصائده بجوار كبار الشعراء العرب من مبدعى المدرسة الحديثة فى الشعر، مثل بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وصلاح الدين عبد الصبور، ونجيب سرور، وعبد الوهاب البياتى. وفى قراءة أجراها الناقد محمود أمين العالم، أخذ على الشاعر إفراطه فى التعبير عن هذه القضية اللونية، واعتبرها قضية مفرطة فى العزلة، فالقضية الأساسية -كما كتب العالم- هى قضية طبقية اجتماعية، وعلى الشعراء والمبدعين أن يلتزموا بذلك، بينما القضية اللونية ومعاناة الإنسان الأسود جزآن من كل، فلو حدث إقرار العدالة الاجتماعية فى الأرض لاستقامت كل حلول القضايا الأخرى. ولم يعجب هذا الكلام محمد الفيتورى، وردّ عليه كذلك فى المجلة نفسها، وأوضح أن الشعر لا يعرف الأقفاص الأيديولوجية، وأن المشاعر لا يمكن وضعها فى قوالب نقدية وفكرية جاهزة، فالشعر يعبر عن صاحبه وعن قضيته بحرية واسعة، دون أى وصاية. ولم تكتفِ المناقشة على العالم والفيتورى فقط، بل انفتحت مساحات أخرى للمناقشة، وكتب فتحى غانم مهاجما العالم، واضطر العالم أن يرد، موضحا أن فتحى غانم لم يتحرَّ الحقيقة فى تأويل رأيه، وذهب بعيدا فى الهجوم، وكان الكاسب الأعظم فى هذه المعركة، هو محمد الفيتورى نفسه الذى راح اسمه يتردد بقوة بين أقلام مرموقة، وتحت عناوين ذات شأن كبير فى ذلك الوقت. وهذا جعل اسم الفيتورى يكبر بسرعة صاروخية، ونشر ديوانه الأول فى بيروت عام 1955، وكان كاتب المقدمة هو نفسه محمود أمين العالم الذى كان يهاجمه منذ عامين، ولكن بعد أن تخلى الفيتورى قليلًا من حدته اللونية، وكتب قصائد أخرى فيها قدر من الليونة والعذوبة. وبدأ يستقر اسم الفيتورى كواحد من أبناء الموجة الثانية فى حركة الشعر الحديث، جنبا إلى جنب مع صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى وآخرين، والتحق بجريدة «الجمهورية»، وبدأ ينشر قصائده وموضوعات ودراسات نقدية، بل إنه كتب الأغانى، وكان من بين مَن لحن إحدى قصائده الفنان محمد الموجى. وانطلق الفيتورى يكتب فى أكثر المنابر تألقا، وصار اسمه كبيرا بالفعل، وتخفف قليلا من حدة صوته فى التعبير عن القضية اللونية، إلا أنه كان يعود إلى هذه القضية بين الحين والآخر، وبعد عشر سنوات نشر ديوانا عنوانه «اذكرينى يا إفريقيا»، ليذكرنا بهذه الحدة مرة أخرى، ويكتب كمال النجمى فى مجلة «الكواكب» فى 11 مايو عام 1966 مقالا عنوانه: «صوت.. لا تنساه إفريقيا»، واستعرض النجمى بدايات الفيتورى فى القاهرة، وانتماءه إلى مصر بشكل كبير، لولا هذه الروح العنيدة التى كانت وما زالت مصرّة على التذكير بقضيته اللونية، ويكتب عن ديوانه الجديد قائلا: «فى ديوانه الجديد يحتضن الفيتورى قضيته مرة أخرى اسم إفريقيا العظيم، وكأنما ظنّ الشاعر أن إفريقيا نسيته خلال فترة الصمت التى بدأت عندما هاجر من القاهرة منذ سنوات وأقام فى السودان منصرفا إلى العمل الصحفى، وهو بديوانه الجديد الذى صدر أخيرا فى القاهرة يحاول أن يهز ذاكرة إفريقيا، ويقول لها: (عدت إليك يا إفريقيا من جديد!)». وجاءت بالفعل قصائد الديوان معبّرة عن الشعور ذاته الذى غمره فى بداية رحلته الشعرية، ولكن مع نضج فنى أعلى، وخبرة أسلوبية أمتن، ففى إحدى قصائده يقول: «لو فجأة تدفق الياقوت.. يا أميرتى السوداء.. لو تضرّم السكوت.. لو تعرّجت حوائط البيوت.. لو رأيت شاعرا يموت.. جثته طريحة.. وقلبه حمامة ذبيحة.. ودمه على الثرى عباءة حمراء.. تنقرها الغربان والسلاحف الحدباء.. فما الذى كنت ستصنعين؟!» وفى هذا الديوان يشارك شعراء كثيريون غنّوا لعبد الناصر، مثل عبد الوهاب البياتى وأحمد عبد المعطى حجازى، ففى قصيدته «أغنية حول الشمس» يقول: «يا وطنى.. عباءة عبد الناصر من ورائه.. مظلة على الأفق.. وسيفه المهند الصقيل.. وجبهة الناصر صانع البطولات.. تكاد لا ترى من العرق.. وددت لو قبلت تلك الجبهة السمراء.. فهى سحابة ترش الأرض بالنماء.. وهى حمامة بيضاء.. طارت ألف ميل.. وهى هى العودة بعد وحشة الرحيل.. وهى الوصية التى أوصى بها.. جيل النبيين لهذا الجيل».