كان المناخ فى نهايات عام 1956 ملتهبًا للغاية، وكانت القيادة السياسية قد رفعت برامج الحماس الوطنى إلى أعلى موجة، وكانت الجماهير الشعبية بكل طبقاتها الاجتماعية وفئاتها المختلفة مستجيبة إلى هذه البرامج بانضباط مثير، وذلك بعدما أدى هذا الشعب أقوى مقاومة من الممكن أن تحدث فى مواجهة العدوان الثلاثى الغادر، وكانت الصحف والمجلات والإذاعة لا شاغل لها سوى أحاديث المقاومة، واحتشد كذلك المثقفون والكتاب والرسامون والفنانون والشعراء للتعبير عن هذه المقاومة الباسلة، وكتب صلاح جاهين: (والله زمان يا سلاحى اشتقت لك فى كفاحى انطق وقول أنا صاحى يا حرب والله زمان). ويتلقفها الملحن كمال الطويل، وتغنيها أم كلثوم، وتعلن الإذاعة حالة الطوارئ، فتوقفت أغانى الهجر والعذاب والهوى، لتهدر بالأناشيد الحماسية، والأغانى الوطنية. ولم يكن المصريون فقط هم أبطال المشهد الفنى والشعرى والثقافى، لكن هناك من الكتّاب والشعراء العرب الذين آزروا وكتبوا وأبدوا مشاعرهم الرفيعة تجاه ما تتعرض له مصر قلب العروبة النابض، مثلما كانت تسمّى فى ذلك الوقت، فكتب الشاعر الأردنى سليمان دحابرة تحية من الأردن لنضال الشعب المصرى، وكذلك كتب الشاعر الثائر محمد مهدى الجواهرى، وغيرهم. وفى ذلك الوقت كان الشاعر المصرى السودانى، إذ إن أباه كان سودانيا وأمه مصرية، ملء السمع والبصر، وخلال سنوات سريعة كان قد اجتاز كل أسوار التجاهل، ليصبح واحدًا من طليعة الشعراء العرب والمصريين، ويكتب عنه نقاد كبار مثل محمود أمين العالم ورجاء النقاش وزكريا الحجاوى وفتحى غانم، بل تقوم حول قصائده معركة حادة تشارك فيها أطراف عديدة. هذه المعركة كان سببها شعر الفيتورى نفسه، هذا الشعر الذى كان يدافع بضراوة عن الزنوجة، ويناهض العنصرية اللونية فى كل مكان، ولكن محمود أمين العالم كان قد كتب دراسة عن الشعر المصرى فى مجلة «الآداب»، وانتقد هذه النبرة الحادة عند الفيتورى تجاه ما سماه «العنصرية»، وكان العالم يرى أن الفيتورى يوجه الصراع الإنسانى بطريقة خاطئة، وذلك يعمل على تعطيل الصراع الأعلى، وهو الصراع الطبقى أو الاجتماعى، رغم أن محمود العالم قال كلاما إيجابيا بخصوص فنية قصائد الفيتورى، ولكن الفيتورى ردّ على العالم عدة ردود ونشرتها له مجلة «الآداب»، ودخل على خط المعركة الكاتب الصحفى فتحى غانم، وكتب فى بابه «أدب وقلة أدب» الذى كان يكتبه فى مجلة «آخر ساعة» قبل أن يلتحق بمؤسسة «روز اليوسف»، وهاجم العالم بشدة، وأطلق على ما كتبه النقد الأسود. وكل هذا كان يرسّخ اسم الشاعر محمد مفتح الفيتورى، ويفتح له مساحة واسعة من المشاركة الفاعلة فى الحياة الثقافية والأدبية المصرية والعربية، للدرجة التى شارك فيها بقوة، فانفعل بما يحدث بصدد العدوان الثلاثى، وكتب سلسلة مقالات عن الشعر فى المعركة، ونشرتها له مجلة «الرسالة الجديدة»، وفى 17 نوفمبر عام 1956م نشرت له مجلة «الإذاعة»، بناء على طلب القرّاء، أغنية عنوانها «يا وطنى»، من ألحان الدكتور يوسف شوقى، وأداء الفنان محمد سليمان، وكان مطلع الأغنية يقول: (يا وطنى العظيم، لن ينحنى جبينك الظافر للغاصبين يا وطنى العظيم، لن يرجعوا لأرضك الحرة مستعمرين يا وطنى العظيم، إنى فدا قبضة كفّ من ثراك الثمين). وبالطبع كانت هناك عشرات الأغنيات التى أنشدها كثيرون، ومع الزمن لم تكتب الشهرة إلا لأغنيات محدودة، ولكننا نسجّل أن الفيتورى كان أحد الشعراء المنخرطين فى الحياة المصرية بكل طاقته، وتم اعتماده محررًا فى جريدة «الجمهورية»، ونشر فيها عددًا كبيرًا من المقالات، لم ينشرها فى أى كتاب فى ما بعد، وكانت له قصة غرام مشهورة فاشلة، وكانت هذه القصة مشهورة بين شعراء تلك المرحلة المبكرة، إذ إنه أحبّ الشاعرة الراحلة جليلة رضا، وكتبت هى فى مذكراتها البديعة «صفحات من حياتى»، منوهة بهذا الغرام قائلة: (وتقرّب منى شاعر من قطر عربى آخر يدعى «م» وكان شعره حريقًا يأكل ما حوله، كان عاصفة تحت جمجمة، أحببت شعره، أعجبت بصاحب هذا الشعر الملهم، بيد أنه ابنى أنا قبل شعرى، كان يصغرنى بكثير، وكنت من ناحيتى لا أفكر مطلقًا فى أن أرتبط يومًا بزوج أصغر منى سنا، فذلك أمر يجعلنى لا أضمن حياتى معه فى المستقبل، ورفضته.. لقد ضايقنى كثيرًا، سامحه الله، بل نظم ديوانًا كاملا يهجونى فيه). وبالفعل كتب الفيتورى عدة قصائد عن الشاعرة، ومنها قصيدة شهيرة، وكان عنوانها «الأفعى»، ونشرها آنذاك فى مجلة «الرسالة الجديدة»، ثم أعاد نشرها فى ديوانه الأول «أغانى أفريقيا»، وكان مطلعها فى منتهى القسوة، إذ جاء فيه: (فى ذلك الركن من قلبك الحقير المرائى تمتد مقبرة ضخمة.. بغير انتهاء.. فيها عبيد عرايا الأسى.. عرايا الشقاء.. تحمل أيديهم الشوهاء حقد الدماء..). وكان الفيتورى قد قطع رحلة جبارة للخروج من غيابة الحياة الاجتماعية، إلى عالم الشهرة والشعر والصحافة، هذه الرحلة لم تستمر طويلا ليخرج من ظلمة التجاهل، إلى ضوء العالم، ورسائله التى كان يرسلها إلى الناقد الأهم -فى ذلك الوقت- أنور المعداوى، تدلّ على الحالة البائسة التى كان يعيشها الفيتورى، وقلقه الشديد نحو شعره وقيمته ومستواه، ففى 14 يناير 1950 أرسل له يقول: «أخى الأستاذ الفاضل أنور بك المعداوى حفظه الله تعالى، تحية معبرة وسلامًا وتقديرًا وبعد: أخى وأستاذى: تذكر جيدًا ذلك الشاب الأسمر الأزهرى الذى زارك خصيصًا بدار (الرسالة) الغراء لإبداء إعجابه بكم، ولتقديم تلك القصاصات المخطوطة ببعض ما سماه شعرًا ولعله فى رأيكم ورأى البعض غير ذلك.. أجل يا سيدى.. لعله غير ذلك وإلا فماذا تأخر به إلى أن تمر أربعة أسابيع أو تزيد، وهو ما زال قابعًا فى إحدى زوايا أحد الأدراج، ولعله نزيل سلة المهملات شأن كثير مما سبقه إلى شرف الإرسال لمختلف الصحف». والجدير بالذكر أن الفيتورى كان فى رسالة سابقة، قد نوّه إلى أنه يخشى أن تنتابه حالة القدوم على الانتحار، لو لم يتم الاعتراف به، ولكنه فى سنوات قليلة، وعلى أرض مصر، يتحقق الفيتورى ويصير من شعراء العربية الذين يتصدرون المشهد فى كل المؤتمرات والمهرجانات، ويرحل عن مصر ليتنقل فى أكثر من بلد عربى، حتى يستقر به المطاف أخيرًا فى المملكة المغربية، شفاه الله وعافاه.