ليلة غنائية استثنائية.. بلاك تيما يحيي ذكرى انطلاقه بحفل كبير 30 أكتوبر    تركيا تخفض الحد الأقصى للفائدة على السحب النقدي ببطاقات الائتمان    18 سبتمبر 2025.. أسعار الأسماك بسوق العبور للجملة اليوم    شراكة استراتيجية بين مجموعة طلعت مصطفى وبنك الإمارات دبي الوطني – مصر لإطلاق بطاقات ماستركارد الائتمانية الحصرية ذات العلامة التجارية المشتركة    وزير النقل: مصر تنفذ حاليا مشروعات كبرى للربط مع القارة الأفريقية    البورصة تستهل تعاملات اليوم الخميس نهاية جلسات الأسبوع    900 مليون يورو استثمارات إسبانية في مصر    السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز: إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة    مورينيو: لم أفكر مرتين لقبول عرض بنفيكا    سيميوني: تمت إهانتي في ملعب ليفربول    ننشر المواد المقررة على طلاب المرحلة الثانوية بالدرجات المخصصة لها في العام الدراسي الجديد    ضبط المتهمين في جريمة مقتل عامل ونجله إثر تجدد خصومة ثأرية بقنا    وزير الصحة يفتتح المؤتمر الدولي الثاني لكلية طب الأسنان بجامعة الجلالة    وزير الخارجية بالرياض للتشاور والتنسيق حول ملفات التعاون المشترك    ملف إنساني يتجاوز خطوط النار.. تقرير أمريكي يتهم روسيا بتجنيد الأطفال    القناة 12 العبرية: لقاء ويتكوف وديرمر في لندن محاولة أخيرة لإحياء مفاوضات غزة    الإقليمي للأغذية والأعلاف يختتم البرنامج التدريبي الصيفي لطلاب الجامعات المصرية    وزير الصحة: الدولة ملتزمة بالاستثمار في رأس المال البشري وتعزيز البحث العلمي    مودرن سبورت "الجريح" يصطدم بصحوة إنبي في الدوري    ارتفاع تأخيرات القطارات على الوجهين البحري والقبلي    صادرات الصين من المعادن النادرة تسجل أعلى مستوى منذ 2012    مواعيد القطارات المكيفة والروسية بين القاهرة والإسكندرية وطرق الحجز    الحالة المرورية اليوم، تباطؤ في حركة سير السيارات بمحاور القاهرة والجيزة    بعد ساعات من هربه.. القبض على قاتل زوجته بمساكن الأمل في ضواحي بورسعيد    نشرة مرور "الفجر ".. زحام بميادين القاهرة والجيزة    28 سبتمبر محاكمة عاطلين في حيازة أسلحة نارية ومخدرات بعين شمس    بالفيديو.. ناقد فني يكشف عن 6 أفلام مصرية تتألق بمهرجان الجونة 2025    وفاة الإعلامية اللبنانية يمنى شري عن 55 عامًا بعد صراع مع المرض    خواكين فينيكس وخافير بارديم وإيليش يدعمون الحفل الخيرى لدعم فلسطين    تبدأ ب 5500 جنيه.. ليلة موسيقية ساحرة لعمر خيرت في قصر عابدين    الضيقة وبداية الطريق    القائمة الكاملة لأفلام مهرجان الجونة السينمائي 2025 (صور)    حكم تعديل صور المتوفين باستخدام الذكاء الاصطناعي.. دار الإفتاء توضح    لليوم الثاني على التوالي.. انقطاع الإنترنت والاتصالات عن مدينة غزة    «متحدث الصحة»: نقص الكوادر الطبية مشكلة عالمية    قبل بدايته| استشاري مناعة توضح أهم المشروبات الساخنة في الشتاء    شديد الحرارة.. حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 18 سبتمبر 2025    الرئيس السيسي يصدر 3 قرارات جمهورية جديدة.. تعرف عليها    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 18سبتمبر2025 في المنيا    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 للموظفين حسب أجندة العطلات الرسمية للرئاسة    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الخميس 18 سبتمبر 2025    محمود وفا حكما لمباراة الأهلي وسيراميكا.. وطارق مجدي للفيديو    مصدر من بيراميدز يكشف ل في الجول سبب غياب رمضان صبحي أمام زد    هنيئًا لقلوب سجدت لربها فجرًا    غزل المحلة يحتج على حكم مباراته أمام المصري: لن نخوض مواجهة حكمها محمود بسيوني    التاريخ يكرر نفسه.. تورام يعيد ما فعله كريسبو منذ 23 عاما ويقود إنتر للتفوق على أياكس    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الخميس 18/9/2025 على الصعيد المهني والعاطفي والصحي    بعد تعرضه لوعكة صحية.. محافظ الإسماعيلية يزور رئيس مركز ومدينة القصاصين الجديدة    مسلسل حلم أشرف الموسم الثاني.. موعد عرض الحلقة الثانية والقنوات الناقلة    صراع شرس لحسم المرشحين والتحالفات| الأحزاب على خط النار استعدادًا ل«سباق البرلمان»    "سندي وأمان أولادي".. أول تعليق من زوجة إمام عاشور بعد إصابته بفيروس A    قبل أيام من انطلاق المدارس.. تحويلات الطلاب مهمة مستحيلة!    ب 3 طرق مش هتسود منك.. اكتشفي سر تخزين البامية ل عام كامل    الشرع: السلام والتطبيع مع إسرائيل ليسا على الطاولة في الوقت الراهن    "أصحاحات متخصصة" (1).. "المحبة" سلسلة جديدة في اجتماع الأربعاء    حكم مباراة الأهلي وسيراميكا كليوباترا في الدوري المصري    مواقف وطرائف ل"جلال علام" على نايل لايف في رمضان المقبل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 17سبتمبر2025 في المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محطات مجهولة من سيرة الفيتوري
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 05 - 2015


بدايات
في 20 سبتمبر 1949، أي قبل أن يصل إلي سنّ العشرين، كتب الشاعر الشاب الذي يقيم في الأسكندرية، محمد مفتاح الفيتوري، خطابا إلي الناقد المرموق أنور المعداوي، والذي كان مسئولا عن مجلة "الرسالة" الثقافية المصرية، بالنيابة عن صاحب امتيازها ورئيس تحريرها أحمد حسن الزيات، وكانت هذه المجلة هي قبلة المصريين والعرب جميعا، إذ أنها كانت النافذة الأوسع انتشارًا آنذاك، والأكثر جدية كذلك، وكان النشر في مجلة الرسالة، يعني الدخول إلي الحياة الأدبية والثقافية العربية من بابها الملكي الواسع، ورغم أن الشاعر السوداني المصري السكندري، حيث إن أمه كانت مصرية وأباه سودانياً، كان قد نشر قصيدته الأولي في مجلة الثقافة عام 1947، إلا أنه كان طامحا أشد الطموح للنشر في مجلة الرسالة، واعتبر إن إغلاق باب الرسالة دونه، معناه اليأس والإنتحار القطعي، ويقول في رسالته:
(سيدي الأستاذ النبيل أنور بك المعداوي
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد:
أبعث إليكم بهذه الرسالة من "الأسكندرية"وبودي لو أسلمتها بيدي حتي اضمن اطلاعكم عليها ولكن "ماكل مايتمني المرء يدركه".. ولا أخفي عليكم أني ترددت كثيرا قبل أن أشرع في الكتابة إليكم حتي لا أفقد آخر جذوة من الأمل ظلت تتوهج بين جانبي من جهة ثانية.. وأخيراً- وتحت إلحاح نفسي عنيد- لم أملك إلا أن أجازف فألقي بهذه الورقة الأخيرة.. فإما كسب الاثنين.. أو خسارتهما معا، ومعذرة ياصديقي الكبير لهذه اللهجة المتمردة بينما المجال مجال ضراعة ورجاء.. وإنكم لتعلمون ولاريب أن اليأس عندما يبلغ أقصي درجاته من قلب انسان يكون قد عطل حواسه.. وقلب تكوينه الطبيعي فهو إن يري فبغير عينيه، أو يسمع فبغير أذنيه.. أو يدب علي الأرض فبغير قدميه العاديتين..
وهنا ياسيدي أعاذك الله تكون النهاية المنتظرة.. ويكون الانتحار، وقد تضحك سخرية من هذه الفلسفة الجوفاء كما ضحك الكثيرون قبلك وقد يحس قلبك إلانساني بما أحسه الآن ساعة كتابة هذا إليك وعلي كل حال فما أخالك ستقذف بها إلي سلة المهملات.. ولعلك ستحتفظ بها كرسالة عادية.. أو علي الأقل كصورة تقريبية لحياة انسان قرأ لك بالأمس ناقدا بمجلة "العالم العربي"- وقد كان شاعرها المفضل- واليوم يقرأ لك ناقدا أيضا بمجلة الرسالة، ويطمح في أن تمد له يدك لترفعه إليها.. وما أدراك ياسيدي فقد تكتشف فيه شاعرا موهوبا من شعراء الرسالة الخالدة..).
ويسترسل الشاعر الشاب السوداني في تضرعه وإلحاحه علي النشر، حتي لا يقع في هوة الانتحار التي أشار إليها في رسالته، وربما لم يكن هذا التهديد، إلا نوعا من كسب التعاطف، خاصة أنه يشير إلي أنه كان "شاعر مجلة العالم العربي"، وهذه المجلة كان يصدرها الناقد سيد قطب، وكانت مجلة مرموقة في ذلك الوقت، وكان قد نشر كذلك في مجلة "الثقافة"، والتي كان يكتب فيها أساتذة أجلاء، وكان يرأس تحريرها وصاحب امتيازها واحد من عمالقة العصر آنذاك، وهو الدكتور أحمد أمين،ولكن استقر عزم الشاعر الشاب، أن يقتحم كل مجلات القاهرة، ليصبح شاعرا معروفا وكبيرا.
وهناك ثلاث رسائل أخري من الفيتوري، إلي أنور المعداوي، تدور حول هذا المعني بأشكال مختلفة، وكانت هناك قصائد تصاحب الرسائل، ولكن المعداوي لم يستجب لنشر هذه القصائد، ومن بين هذه القصائد التي لم تنشر في أي مجلة، ولا في أي ديوان فيما بعد للفيتوري، قصيدة عنوانها "خلود" يقول فيها، ساخطا علي من رفضوا شعره، وسخروا منه:
لئن جحدوا قدري فما جحدوا شعري
وإن سخروا باسمي فما وأدوا ذكري
وماذا تنال السحب من وجنة السما؟
وما تنقص الأنواء من لجة البحر؟!
لسوف يطل الصبح من شرفة الدجي
وتحترق الظلماء في موقد الفجر
وتنهل روح الكون من حان مهجتي
فيرقص نشوان العواطف من خمري
وتشجي فؤاد العالمين ربابتي
بأروع ماغنته شبابه الشعر
علي رغم أنف الحاقدين جميعهم
وأنف الزمان الساخر الموغر الصدر
وعلي هذا المنوال تستمر القصيدة، شاكية ساخرة، وموغلة في الشعور بالوحدة وانفرادها وعزلتها كذلك، إنها حالة الشاعر الذي كان مايزال يدرس في المعهد الأزهري، وكان قد ذهب إلي المعداوي بنفسه إلي القاهرة، ليقدم له بعض قصاصات من قصائده، ثم بعد ذلك، انتقل إلي القاهرة في مطلع الخمسينيات، ليلتحق بكلية دار العلوم، ويعمل في الصحافة، وينشر بعض مواد صحافية وأدبية في المجلات والجرائد، ويتنقل في الأمسيات والندوات، ويقرأ شعره في كل مكان، وكان بالفعل قد اقتحم مجلات القاهرة الثقافية مثل مجلة "الرسالة الجديدة" بعد انغلاق "الرسالة "القديمة، وكذلك مجلات بيروت "الأديب والآداب"، وله في كل هذه المجلات قصائد كثيرة، لم يضمها إلي ديوانه الأول "أغاني أفريقيا"، ولا دواوينه التي نشرت فيما بعد.
معركة حامية الوطيس
وأحدثت قصائد محمد مفتاح الفيتوري حضوراً لافتاً، وراح ينشر في كل المجلات المرموقة بغزارة، وبعدما كان ينشر قصائده التي تتحدث عن الألم الانساني العام، والغربة، ووحشة الحياة، اهتدي إلي أفرقة الشعر، والدفاع عن الزنوجة، واعتبار اللون الأسود للانسان، ماهو إلا بطاقة اضطهاد في هذا العالم، وجواز مرور إلي الجحيم، فبدأ يتعرف علي صوت مختلف في الشعر وفي الثقافة وفي الحياة عموما، فنشر في مجلة "الآداب" قصيدة "البعث الأفريقي"، وذلك في سبتمبر 1953، وبدأت القصيدة ب:
أفريقيا ..أفريقيا.. استيقظي..
استيقظي من حلمك الأسود!
قد طالما نمت.. ألم تسأمي ؟
ألم تمكلي قدم السيد؟
قد طالما استلقيت تحت الدجي
مجهدة.. في كوخك المجهد
مصفرة الأشواق.. معتوهة
تبني بكفيها ظلام الغد..
جوعانة تمضغ أيامها
كحارس المقبرة المقعد..
عريانة الماضي بلا عزة
تتوج الآتي.. ولا سؤدد)
ومنذ نشر هذه القصيدة، بدأت افريقيات الشاعر السوداني، وكأنه اكتشف نفسه وصوته وقضيته التي يراها قضية عادلة، ويستطيع من خلالها أن يعلن عن نفسه، وعن افريقية الشعر العربي، وبالطبع فلم يوجد من ينافسه في هذا المجال، أو من يشاركه أساسا، فبعد الموجية الأولي التي جاء فيها بدر شاكر السياب بقصيدته "هل كان حبا"، ونازك الملائكة، بقصيدتها "الكوليرا"، ثم الموجة الثانية، والتي حملت علي صخبها الشعراء محمد صلاح الدين عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي وعبدالوهاب البياتي وخليل حاوي وعلي أحمد سعيد "أدونيس"،وغيرهم، وكل هؤلاء كانوا مشغولين بقضايا الانسان المعاصر عموما، ولم تكن قضية اللون الانساني مطروحة عندهم إطلاقا.
جاءت قصائد الفيتوري النارية، والتي تدافع عن الزنوجة، وحقها في الوجود والتنفس دون أدني اضطهاد أو تضييق، وكانت السنوات الأولي من الخمسينيات تحمل في طياتها أجنة تيار الواقعية الاشتراكية، واعتنق هذا التيار أدباء ونقاد كثيرون، واندلعت معارك كثيرة بين كافة الأطراف الثقافية الفاعلة، وكان العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور يمثلون المدرسة القديمة، وكان محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ومحمد مندور وعلي الراعي وأحمد عباس صالح وعبد الرحمن الشرقاوي وغيرهم يمثلون تيار الواقعية الاشتراكية، وتحت وطأة هذا التيار تم الهجوم علي نجيب محفوظ، واعتباره كاتب البورجوازية الصغيرة، ولا يمثل الدفقة الثورية التي تعيشها البلاد في ذلك الوقت.
وفي هذا المجال، لم يرق الاتجاه الذي انتهجه محمد الفيتوري، لهذا التيار، وانبري محمود أمين العالم، وهو زعيم هذا الاتجاه، ووجه نقداً حاداً إلي الفيتوري، واعتبر أن الفيتوري بتغليب صراع الأسود في مواجهة الأبيض، يحرف القضية الطبقية الاجتماعية الحقيقية، وهي صراع الكادحين في مواجهة المستغلين، واعتبر أن انعكاس تلك القضية الفيتورية في الشعر، بمثابة انحراف أيديولوجي وجمالي كبير.
ونشر العالم هذا الرأي في مجلة "الآداب"، التي كانت تتبني كل الاتجاهات الجديدة، وتبعا لذلك، لم يسكت الفيتوري، فظل يكتب سلسلة مقالات في مجلة "الآداب"، وغيرها، حتي يضع القضية في نصابها الصحيح، واعتبر أن الصراع الإنساني عموما، أكثر تعقيدا من حصره في الإطار الطبقي، وأبان أننا لا بد أن نلتفت إلي كافة الصراعات الفئوية وضد التمييز اللوني للسود، وضد التمييز العنصري للمرأة، وأن الكفاح الشعري والجمالي، لا يقل عن الكفاح الاجتماعي ضد كل الطبقات الاجتماعية المستبدة.
ودخل علي الخط الكاتب الشاب فتحي غانم، ووجه نقدا حادا إلي محمود العالم، وانتقد محاولة "أدلجة" الفن، ووضعه في معلبات سياسية وفكرية جاهزة، مما اضطر محمود العالم، الردّ علي فتحي غانم، وإيضاح أن الأدلجة ليست منفصلة بشكل أو بآخر عن جماليات الفن، واسترسل في تفنيد وجهة نظره باستفاضة.
وانتقلت المعركة من الحيز الضيق، المنشغل بقصائد الشاعر الشاب محمد الفيتوري، ليصبح موضوعا عاما علي بساط المناقشات النقدية والفنية الدائرة في ذلك الوقت،وكان الكاسب الأعظم في هذه المناقشات الدائرة، هو محمد الفيتوري، ولفت أنظار النقاد والقراء والمثقفين عموما.
مفاجأة
وأصبح الفيتوري بعد ذلك شاعرا مرموقاً، وكانت قصائده تنشر في معظم الصحف والمجلات الذائعة الصيت، وكانت مقالاته ودراساته ومتابعاته ومناقشاته الأدبية تنشر، وتلقي اهتمامات عديدة، وفي عام 1955 نشرت دار "الآداب" ديوانه الأول، والمفاجأة أن الديوان قدّم له بدراسة نقدية طويلة وإيجابية، الناقد محمود أمين العالم نفسه، والذي كان يهاجمه منذ عامين فقط، وأعيد نشر الديوان في القاهرة مرة أخري في يونيو 1956،بريشة الفنان حسن حاكم، مع لوحة بديعة للفنان حسن فؤاد، ومقدمة العالم، وتذييل نقدي آخر للباحث زكريا الحجاوي.
ولا ينسي العالم في هذا التقديم، أن يشرح وينوّه إلي بدايات الفيتوري التي أبدي تحفظه عليها، فيكتب في مقدمته :"في بداية الرحلة كانت الغنائية هي الطابع المميز للكلمة والتعبير.. وكانت تثب أحيانا إلي حد الخطابة.. وكانت قدرة الشاعر الخارجة علي التجسيد وإبراز القسمات لا تتعدي حدود الصورة الجزئية.. وكانت الرؤي والصور الشفافة بالانفعالات والمشاعر المتوقدة، ثم أخذت هذه الغنائية تخف شيئا فشيئا فلم تعد القيمة الأولي للتعبير.. بل أصبحت أداة لإبراز الدلالة، واختفت الخطابية إلا في بعض المقطعات الصغيرة في مرحلته الأخيرة ..عندما تعلو طبول أفريقيا.. ويشتد الحنين الجارف إلي الخلاص الأخير..
وأصبحت قدرة الشاعر علي التجسيد والتصوير وإبراز القسمات ذات طابع متكامل إلي حد كبير لا يقف عند حدود الجزء، بل يمتد فيشمل القصيدة كلها).
وبعد أن يوضح العالم المساحة الجديدة التي راح يشغلها الفيتوري، ويعدّل من انجرافه "الجزئي"، كما أسماه في تقديمه، وصعوده الفني والجمالي والفكري، إلي اعتبار قضية الزنوجة والأفرقة، ما هي إلا مساحة ضيقة في القضية الكلية، وهي قضية الاضطهاد الانساني والطبقي والاجتماعي والفئوي عموما، وينهي العالم دراسته الوافية بقوله:
(واليوم يقف محمد مفتاح الفيتوري في مستهل طريق جديد، وخلص إليه بعد كفاح صادق مرير، يقف جسورا غير هياب وعلي سنه التي لا تتجاوز الخمس والعشرين ترقد مسئوليات جسام، نحو هذه الرؤيا الانسانية الصادقة التي امتلأ بها وجدانه)،ولكن اللافت للنظر أن الفيتوري تخلص فيما بعد من هذا المقدمات المصرية، بالإضافة إلي مقدمة ثالثة كان قد كتبها الناقد رجاء النقاش في طبعة بيروت الأولي.
قصة حب صاخبة
كان الفيتوري في تلك الفترة، شاعرا جامحا، ومزدحما بمشاعر وأفكار كثيرة، ربما تكون متناقضة، ومقاومة، ورافضة لكثير مما كان قائما وسائدا في الساحة الأدبية والفنية، كانت مصريته وسودانيته وأفريقيته عوامل تبعث الارتباك الشديد في حركته،ولكنه شارك المصريين ندواتهم وملتقياتهم، وتعرّف علي الشعراء والكتّاب والأدباء، وكان هو ورفاق أفريقيته من الشعراء يمثلون أبعادا أفريقية واضحة، فكان في رفقته الشاعران جيلي عبد الرحمن وتاج السر، وقد صدر لهما ديوان مشترك تحت عنوان "قصائد من السودان"،وقدّم له الشاعر كمال عبد الحليم.
كان الفيتوري يذرع القاهرة مختالا بإنجازاته الشعرية التي حققت له ما لم يكن يحلم به في وقت قياسي، ولكن قضية أفريقيته كانت تلحّ عليه بشكل واضح، وفي تلك الأثناء، التقي بالشاعرة "جليلة رضا"،وكانت الشاعرة في ذلك الوقت منفصلة عن زوجها، أغرم بها دون أن تسجيب له، وكتبت جليلة رضا في مذكرات من أجمل مذكرات كتبتها أديبة مصرية، قالت: "وتقرّب مني شاعر من قطر آخر يدعي "م" وكان شعره حريقا يأكل ماحوله، كان عاصفة تحت جمجمة.. أحببت شعره، أعجبت بصاحب هذا الشعر الملهم، بيد أنه أحبني أنا قبل شعري.. كان يصغرني بكثير، وكنت من ناحيتي لا أفكر مطلقا في أن أرتبط يوما ما بزوج أصغر مني سنا، فذلك أمر يجعلني لا أضمن حياتي معه في المستقبل ..ورفضته ..لقد ضايقني كثيرا، سامحه الله، بل نظّم ديوانا كاملا يهجوني فيه..غيرأني أعلم أنه كان مخلصا صادقا في حبه ..)
هكذا كتبت جليلة رضا دون أن تفصح عن الاسم، واكتفت بذكر الحرف الأول من اسمه، وذكر أنه من قطر عربي آخر، ولكن الحياة الأدبية كلها كانت تعلم القصة، وبالفعل كتب الفيتوري قصائد كثيرة في هجائها، ربما لم ينشرها جميعها، ولكنه ضمن بعضها إلي ديوانه الأول "أغاني أفريقيا"، ومن بين هذه القصائد قصيدة "الأفعي"، والتي بدأها ب:
(في ذلك الركن من قلبك
الحقير المرائي..
تمتد مقبرة ضخمة ..
بغير انتهاء
فيها عبيد عرايا الأسي
عرايا الشقاء
تحمل أيديهم الشوهاء
حقد الدماء
وملء أرواحهم
نقمة الحياء
رأيتهم يتهاوون
في جمود المساء
والريح من حولهم
كالحوائط السوداء
وفي قصيدة أخري تحت عنوان "هواها"،يقول:
تقولين أن يدي ضيعتك
وقد كنت تحيين ملء عروقي
وأن هواكي العظيم ..العظيم
زجاج تحطم فوق طريقي
وأنك أصبحت قبرا قديما من الذكريات
يعيش بقلبي
ينام الشذي فوقه والعفونة
والورد جنبا لجنب
وأني أصبحت عنك غريبا
يمر عليك فلا تعرفينه
غريبا تلاقيتما مرة
وغطتكما ظلمات المدينة).
وهكذا يمتد خط شعري آخر، غير شعر الزنوجة، ليصبح الفيتوري أحد شعراء الغرام بامتياز في ذلك الوقت.
شاعر للأغاني
واندمج الفيتوري في الحياة المصرية بكل ازدحامها، وجاءت معركة 1956،وأعلنت بريطانيا وفرنسا واسرائيل هجومهم الغادر علي مصر، ويصطف الشعراء جميعا في صفوف قتالية واحدة، ويناهضون بالقصائد هذا العدوان، وكتب الفيتوري في عدد ديسمبر من مجلة "الرسالة الجديدة" دراسة ممتازة عن الشعر والحرب، وضرورة أن يشارك الشعراء في المقاومة بكل ما يملكون من طاقات متعددة، ولم يقتصر الفيتوري علي دور الناقد فقط، بل كتب قصائد كثيرة في المعركة، ونشر بضعة قصائد في الصحف والمجلات، وراح يشارك في الأمسيات الشعرية، ويلقي قصائده بحماس شديد.
وربما لا يعلم كثيرون أن بعض هذه القصائد تم تلحينها، وأداها بعض الفنانين في ذلك الوقت، ولكن لم يكتب لهذه الأغاني الذيوع اللائق بها، إذ أن كثيرا من تراث الأغاني في ذلك الوقت ذهب إلي طي النسيان، ومن بين هذه الأغاني، أغنية "ياوطني"،من ألحان الدكتور يوسف شوقي، وأداء محمد سليمان، ويقول مطلع الأغنية:
ياوطني العظيم، لن ينحني جبينك
جبينك الظافر للغاضبين
ياوطني العظيم، لن يرجعوا
لأرضك الحرة مستعمرين
ياوطني العظيم، إني فدي
قبضة كف من ثراك الثمين
ياوطني العظيم، ياجنتي
لا لن تهون أبدا، لن تهون
كما كتب أغنية أخري تحت عنوان "أرض الوطن"، من تلحين محمد الموجي، وغناء فتحية أحمد، ويقول مطلعها:
(يا جلهتي انحني علي ثراها
وقبّلي العزة في رباها
ويايدي كوني شهابا حولها
يرمي بنار الهول من رماها
كما أنه كتب أغنية عنوانها "ثورة الجزائر"من تلحين حسين جنيد وغناء المجموعة، ويقول في مطلعها:
قسما بالدم لن ننسي الجزائر
لا ولن نتركها نهبا لغادر
سوف نحمي أرضها فهي لنا
درب أمجاد وأهرام مفاخر
وأعتقد أن هذا الجانب لم يلتفت إليه أحد، وذلك لأنه ظل مجهولا تماما في مسيرة الفيتوري.
صحفي وناقد ومسرحي
بعد ديوانه الأول "أغاني أفريقيا"،نشر الشاعر سلسلة دواوين في حياته كثيرة، مثل اذكريني ياأفريقيا، وأقوال شاهد إثبات، وابتسمي حتي تمر النخيل، وغيرها من دواوين كثيرة، وضعت الفيتوري في الصفوف الأولي من التجربة الشعرية العربية، إلا أنه في أعقاب نشر ديوانه الأول "أغاني أفريقيا"، اشتغل بالصحافة الثقافية، وكتب كثيرا من المقالات والدراسات الأدبية والنقدية، وهو ما لم يلتفت هو إلي جمعه، حيث صارت حياته كلها بعد ذلك، نهبا للأسفار والترحال الدائم، وأعتقد أن عدم جمع وضم هذه الدراسات في كتاب نقدي، كان تقصيراً غير متعمد من الشاعر، بعدما ذهبت هذه الكتابات في طيات الزمن، وفي لقاء معه من سنوات، أبدي رغبته الشديدة في العثور علي هذه الدراسات ليضمها كتاب واحد، لعله يلقي أقباسا من ضوء علي مسيرة الشاعر.
ولا ننسي هنا أن نذكر أنه كتب نصين للمسرح، الأولي "أحزان أفريقيا.. سولار"، والثانية هي "ثورة عمر المختار".
هذه شذرات من سيرة شاعر كبير ورائد ومجدد، تلقي بعض الضوء حول بدايات تحتاج- بالتأكيد- إلي توسع، ربما نستطيع في وقت لاحق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.