* كان يحاول أن يكون الصوت المعبِّر عن مأساة جماعية حيث لا مكان لتلك «الأنا» الرومانسية المُعذّبة * أحس بمأساة الزنجي - في بداياته - إحساسًا فرديا يستشعر الكثير من الحرج حين ينظر في المرآة فلا يري غير وجه أسود فقير من الجمال (.. ما هذا الشعر الذي تكتبه يا أخي؟.. لقد فضحتنا!.. إني أكرهك... !!) .. بوغت الشاعر السوداني الكبير محمد الفيتوري بهذه العبارات الحادة والجارحة وقد صوِّبت إليه من أحد مواطنيه السودانيين بُعيد صدور ديوانه الأول ( أغاني إفريقيا) سنة 1955م ، وربما كانت مغضبة المواطن السوداني الثائر علي الفيتوري - آنذاك - ناشئة عن تعرية الفيتوري للواقع الزنجي الأسود الذي يراه البعض عارًا أو عورة يجب التستر عليها، ربما كانت هذه القضىّة : (القناع الزنجي الكثيف الذي يحول دون تمتع حامله بأبسط حقوقه في الحياة) قضية من المحظورات العرقية التي يستشعر صاحبها الكثير من الحرج حين يخوض في حيثياتها؛ بينما يقول الفيتوري : (.. قلها لا تجبن .. لا تجبنْ.. قلها في وجه البشرية أنا زنجي .. وأبي زنجي الجدِّ وأمي زنجيهْ أنا أسودُ.. أسودُ لكني حرّ أمتلك الحريهْ ..!! ) واقع قبيح كانت هذه بدايات الفيتوري، وقضيته الشعرية الكبري في مطلع حياته.. التي عبر عنها بقوله: "أردت أن أفضح واقعنا اللاإنساني الأسود .. لن أسمح لنفسي بتزييف هذا الواقع القبيح". علي أن هذه الرؤية التي استحوذت علي الفيتوري شاعرًا شابًا؛ تلك التي لم تكن تروق لمواطنيه السودانيين ذوي البشرة السوداء من حيث هي تعرية للواقع الاجتماعي وفضح لجوانب إنسانية يحظر - باعتبارات الحرج النابع من الخصوصية الإنسانية - الخوض فيها ؛ تلك القضية التي أعاد الروائي السوداني الكبير الطيب صالح طرحها - فيما بعد - بشكل رائع في روايته : موسم الهجرة إلي الشمال من خلال بطله السوداني الأسود ( مصطفي إسماعيل ) الذي يرفضه المجتمع الغربي بسبب هذا القناع الأسود . أقول إن إثارة هذه القضية - علي هذا النحو - كانت محل رفض - أيضًا - من كبار النقَّاد والمثقفين علي شاكلة الناقد الكبير محمود أمين العالم، الذي لم يكن يري أن ثمة قضية خاصة للسود، المشكلة - كما يراها أمين العالم - ليست مشكلة أبيض وأسود. فالأبيض والأسود كلاهما يرزحان تحت نير الاستعماري الرأسمالي. وهذا الطرح تفتيت للقضية وتمزيق طبقي لا وجود له علي أرض الواقع! كان إحساس الفيتوري بمأساة الزنجي - في بداياته - إحساسًا فردىًّا، يستشعر الكثير من الحرج حين ينظر في المرآة فلا يري غير وجه أسود فقير من الجمال. ويري أن مأساته الإنسانية الكبري يصنعها هذا الوجه. وكانت مراهقته فىّاضة بالإعجاب بشخصيات استطاعت بطولتهم تجاوز هذا القناع العنصري البغيض، علي شاكلة عنترة العبسي، وأبي زيد الهلالي سلامة. لكن إحساسه بهذه المأساة وجّهَه إلي الشعر، وإلي الشعر - علي وجه خاص - حين استشعر أن المجابهة القوية لهذا القيد لن تكون إلا من خلال الخلاص الإبداعي والفني الذي يسمو بالإنسان ويرتقي به . مأساة جماعية ولم يكن إحساس الفيتوري - رغم معاناته الفردية - محض شعور ذاتي مجرد. كان الفيتوري يحاول أن يكون الصوت المعبِّر عن مأساة جماعية، حيث لا مكان لتلك ( الأنا ) الرومانسية المُعذّبة، ولا موضع للمساحة الفردية المنغلقة علي ( ذات مقهورة مغبونة تستنجد وتبحث عن مخرج للخلاص ) . إن ذات الفيتوري مجرد نموذج للوجع الجماعي العام. والمساحة الجماعية أعمّ وأشمل، يقول الفيتوري : (.. إن نكن سرنا علي الشوك سينينا .. ولقينا من أذاه ما لقينا .. إن نكن بتنا عراةً جائعينا .. أو نكن عشنا حفاةً بائسينا .. ...... فلقد ثرنا علي أنفسنا .. ومحونا وصمة الذِّلة فينا .. ) علي أن الفيتوري - فيما بعد - لم يبق أسير هذه المرحلة الإفريقية التي أسفرت عنها عنواين دواوينه الأولي: (أغاني إفريقيا 1955 / عاشق من إفريقيا 1964 / اذكريني يا إفريقيا 1965 / أحزان إفريقيا 1966) ، وإن ظلت تلوح فيما وراء ذلك دون أن تخفي تمامًا. فمن الجوانب الهامة التي لا يمكن أن نغفل عنها : حضور الهمّ العربي في شعرية الفيتوري، واهتمامه بالقضايا العربية الكبري، وإحساسه المفرط «الذي لا يقل عن تجربته الزنجية» بالكيان العربي الكبير من المحيط إلي الخليج. والحق أن وصف الفيتوري بكونه «شاعرًا سودانىًا» فيه الكثير من الغبن للرجل، يقول الفيتوري : «لو سألتني في أي أرض ولدت لكانت اجابتي أسهل؛ لانني ممن يؤمنون بوحدة الأرض العربية، وهكذا تختلط في عيني الحدود الجغرافية مادامت داخل هذه الأرض، وتتداخل التجمعات السكانية مثلما تتداخل الأزمنة والخصائص واللهجات» ومن هذا المنطلق يحق لنا - عن جدارة - مشاركة إخواننا السودانيين في الانتماء لهذا الشاعر، فهو شاعر عربي قبل أن يكون سودانيا. وقس هذا الأمر علي شعرائنا العرب القدامي، أليس من الخطل أن يقال عن المتنبي «الشاعر العراقي»، أو يقال عن أبي تمام «الشاعر السوري»؟ إن هذين الشاعرين وغيرهما ممن يعيش تراثهم في وجداننا ومشاعرنا شعراء عرب لا ينازعنا في الاستحواذ عليهما أهل الشام ولا أهل العراق. والفيتوري - وإن يكن شاعرًا عربيا بإبداعه وفنه - شاعر عربي بنسبه العربي الممتد إلي أكثر من قطر، فهو سوداني المولد ، ينتمي إلي قبيلة ( المغاتير ) التي نزحت من ليبيا إلي السودان، ولها فروع مازالت مستقرة هناك. أما أمه فهي مصرىّة؛ غير أنها تنتمي إلي قبيلة الجهمة التي نزحت من الحجاز إلي مصر. وقد قضي شاعرنا شطرا من حياته في مصر حيث تلقي تعليمه، وشطرًا في ليبيا بعد حصوله علي جنسيتها، وفيما بين هذين الشطرين تلقفته عواصم عربية عديدة دون أن يهدأ في واحدة منها، أو يستقر في أخري!! ويمكننا أن نمثل لهذه الرؤية العروبية الشاملة في تجربة الفيتوري من خلال أبيات نقتبسها من قصيدته: ( القادم عند الفجر ) التي كتبها في رثاء عبد الناصر ، ونشرت في ديوانه : ( البطل والثورة والمشنقة ) 1972م : ( .. وكأن يد العربي الأول، تشعل كل مآذن مكة ... في ليل الصحراء .. يدك .. وكأنك كنت تقاتل تحت لواء محمد .. في مجد الإسلام. .... ورحلت غريبا تحملك الأيام . كي تبصرَ ظل جوادك عبر مواني بحر الرومِ .. ونبني أهراماتِ أمىّة فوق جبال الشامْ. وحين تجيء سحابة هولاكو التتري .. وتزحف أذرعة التنينِ .. وتنهار الأشياء جميعًا .. تولد ثانيةً في عصر صلاح الدينْ . .... إني أصغي لصدي خطواتك في أرض فلسطينْ أو أنت القادم عند الفجر إلي أرض فلسطين؟ ) إن قضية موت عبد الناصر في هذه القصيدة ليست مجرد حادث عارض، أو مناسبة يمكن اختزالها في قصيدة رثاء. فعبد الناصر هو القومية العربية والوحدة الكبري، وكل الأحلام العربية المأمولة. ومن ثمّ يتحوّل عبر شاعرية الفيتوري إلي فكرة مجرّدة تعبر عن النضال المستمر، فكرة ولدت مع مولد العربي الأول ، وتنامت مع تاريخ العروبة والإسلام مرورًا بأمجاد أمية ، وبطولة صلاح الدين الأيوبي، وانتصارات العرب علي هولاكو ... إلخ ، ونحن في انتظار مبعثها وولادتها من جديد علي أرض فلسطين. لا أظن أننا نستطيع - في هذه الكلمات الوجيزة - أن نبسط الحديث عن شعرىّة الفيتوري الثرىّة. ولا عن محاورها العديدة، تلك المحاور التي تنامت وتطورت - فنىًّا وموضوعىًّا - عبر رحلة عطاء تزيد علي خمسين عامًا. لقد اكتفينا - فقط - بالإشارة إلي جانبين كبيرين وبارزين من جوانبها المتعددة. وسيبقي الفيتوري - قطعًا - علمًا كبيرًا من أعلام الشعر العربي المعاصر، وواحدًا من أقطابه البارزين.