محمود درويش..آخرُ جذوة لاهبة في صقيع الشعر البارد..!! * فاضلي محمد يزيد
حين تطغى المادة،ويتحجر الفكر،وتتصلد المشاعر والخَلَجَات،ولم تَبق غيرُ بقايا إنسان،يكون الاستجداءُ والاستنجادُ بنفحة الروح،ودوحة المشاعر..ولغة المشاعر..وعَبَق المشاعر..يكون لزاماً..!!!. وللمشاعر الانسانية الرقيقة هذه وقودٌ وإكسير..!!. نحن نراه في نموذجه الأعلى أولاً..القرآن الكريم..ولاضيرَ بعد ذلك في الروافد الإنسانية الرقيقة الأخرى،كالشعر مثلاً... إن "الشعر" في تعريفه اللغوي،لفظةٌ مُشتقةٌ من الشعور والمشاعر،فكأن اللفظةَ فرعٌ عن ذانيك الأصلين،أو هي واجهةٌ لهما،وعليه فيستحيل أن تتفجر القريحةُ الشعرية مالم تتهيأ نفس ذات مشاعر جياشة وعواطف ثائرة..أي مالم تجتمع الرقة والثورة في كيان صاحبها..!!!.
وعليه أيضا،فالتفكير لايُقيم-لوحده-إنسانيةً متكاملةً..فمتعة الحياة،والإحساسُ بنكهتها الحقيقية لا تتأتى إلا بالفكر والقلب معاً... وتأمل إلى ماقرره أرباب الحرف والكلمة والإبداع،وكيف تظافرت آراؤهم على هذه الحقيقة،على الرغم من تنائي المسافات المختلفة بينهم..تأمل مثلا في قول فيلسوف الشعر الإسلامي المعاصر محمد إقبال-رحمة الله عليه-حينَ صَدَحَ: أراك بسر أفلاك تجول**وتجهل سركَ ياجهولُ. فوجه كالنواةإليك عيناً**ليُنبت في قرارتك النخيلُ..!!!. وتأمل في قول شاعر الخضراء العملاق أبي القاسم الشابي حين همََسَ: عش بالشعور وللشعور فإنما** كونُ دنياكَ عواطفُ وشعور..!!.
شيدت على العطف الجميل وإنها** تجف لو شيدت على التفكير..!!.
وتأمل في مقولة أديب الجمال والحزن الجميل(!!)جبران خليل جبران،كيف يصرخ في وجه المادية الحضارية،من خلال رائعته الخالدة(رمل و زَبَدٌ وموسيقى):"...الناس يقولون؛عصفورٌ في اليد خيرٌ من عشرة على الشجرة،وأنا أقول؛ عصفورٌ على الشجرة خيرٌ من عشرة في اليد..!!!".
إن وجود لغة المشاعر بيننا ضرورةٌ إنسانية ما منها بُد للمجتمعات التي تريدُ استحلاءَ إنسانيتها واستعذاب طعمها السامي.. بيدَ أن لهذه اللغة سفراء، يٌحسنون النهوض بها وعرضها على الجماهير المتعطشة.. وليس هؤلاء السفراء غير الأدباء وأصحاب الأقلام الرفيعة،كُتاباً كانوا أو شعراء... فإذا ما غاب هؤلاء،أو تخطفتهم المنيةُ،إلا وكان لغيابهم أو موتهم،أثرٌ غائرٌ،وفراغٌ مُخيفٌ،لايملؤه إلا مددٌ آخرُ من أجيال تحملُ مشاعلَهم وتواصل المشوارَ.... تأمل-أخي القارىء الكريم-بحسك الأدبي والشعري الرفيع كيف يلخص لنا شاعرُ المهجر الأكبر "إيلياأبوماضي" هذه الحقيقة المختَزَلة،عن أهمية الشاعر(الرسالي)ومكانته في الوجود،وقيمته في إبهاج الحياة وإضاءة دروبها..قال في قصيدة مُثبتة في ديوانه "تبر وتراب" ،وهي رثائية دامعة لشاعر القطرين(خليل مُطران)،تحت عنوان "الشاعر":
عندما أبدع هذا الكونَ رب العالمينا. ورأى كل الذي فيه جميلا وثمينا.
خلق الشاعرَ..... كي يخلق للناس عيونا. تُبصر الحُسنَ..وتهواه حراكا وسكونا.
واستمر الحُسنُ في الدنيا،ودام الحب فينا..!!. من سواه ثائرٌ فيه وقار الناسكينا؟!.
من سواه عابدٌ فيه جنون الثائرينا؟!. من سواه عانق اللهَ يقينا لاظنونا؟!.
من ترى إلاه يحيا نغمات ولحونا؟!. من ترى إلاه يفنى ذاته في الآخرينا؟!...
اختمرت في سجيتي هذه المقدمة العفوية،حين تناقل الركبانُ سريعا خبرَ نعي شاعرناالعربي الكبير محمود درويش،الذي انهزم قلبه العليل أمام مبضع الجراح،ولما يهزمه عبىءُ القضية الأم..فلسطين النكبة..فلسطين الشتات..فلسطين الجرح النازف..فلسطين الآها،التي احتواها بين جوانحه،وغذاها من همه وأعصابه وشرايينه وقلمه منذ ستين عاما..!!!. فكان موته المفاجىء غُصةً لم تنبلع في الحلق،تنضاف إلى باقي الغصات..!!. والحقيقةُ،أن موت درويش-رحمة الله عليه-بالذات،ليس كموت شاعر عادي آخر،أقول ذلك مع إيماني أن موت النفس البشرية-أي نفس-له من سلطان الجلال والرهبة ما يجعل البشر سواء..ومع ذلك فموت الشاعر الفذ محمود درويش له في عالم الكلمة العسجدية الخلاقة وقعٌ..وأي وقع؟؟!!وخسارةٌ..وأية خسارة؟؟!!..
فدرويش،ليس اسماً عابراً،يمكن في عالم الإبداع الشعري الثائر،تجاوز اسمه على عجل..!!!. وأنا أقول هذا الكلام،ليس فقط بحكم تخصصي(كأستاذ سادن يخدم اللغة العربية وآدابها وفنونها النثرية والشعرية القديمة والمعاصرة)،وليس فقط لأنه-على الأقل بالنسبة لي-يأتي أحد الأربعة المعاصرين(في مجال الشعر المنثور) الذين حاولت-ولازلت-أن أجعلهم روزنةً مضيئةً،أهتدي على قبسها وتجربتها وإيقاعات موهبتها في صقل موهبتي-هذا إذا كانت لمثلي موهبةً يُعتد بها-وهم بالإضافة إليه؛شاعر الإنسانية المؤمنةعمر بهاء الدين الأميري وشاعرالحرف المحلق والكلمات نزار قباني السوريين وشاعر تشريح الواقع العربي أحمد مطر العراقي... ليس الذي هزني،وبَلبلَ مشاعري في موت شاعرنا الكبير هو ماذكرتُ فقط،ولكن لأن الشاعر محمود درويش -بالذات-قامةٌ شعرية في عالمنا العربي،تهيأت له شهرةٌ ومكانةٌ إبداعيةٌ بين النخبة الجماهيرية العربية -والإبداعية خصوصا-ما لم تتهيأ لشاعر مرموق مثله،اللهم إلا نزار الذي إن فاته عملقةً فهو يُضاهيه يقيناً..!!!.
سل الألوفَ المؤلفة من مبدعينا وشعرائنا الناشئين على امتداد عالمنا العربي،من المحيط إلى الخليج،عن أثر هذين الشاعرين تحديداً في صقل مواهبهم ،وأثر شعرهما فيهم،ثم عد لي بما تراه.. أنا ما أعتقد،أن هناك مُبدعاً جاداً،أراد شق طريقه الإبداعي في مجال الشعر المنثور المعاصر،وأراد لأبداعه وثبةً خلاقةً متميزةً وليس في حسه الإبداعي أثراً ما من تجربة نزار أو درويش أو كليهما معاً..!!!. لذا،فحين يأتي الوقت الذي نتحدث فيه عن رثائية خالدة في حق شاعرنا محمود-رحمة الله عليه-فإن نعيه وموته إسفينٌ غائرٌ دُق في خاصرة الإبداع الشعري المعاصر،يصعب اندمالُ جرحه-على الأقل-على مستوى عصر وجيل مبدع بكامله..!!!.
فإن الرعيل "الفذ" الذي ينتمي إليه درويش،والذي زرعَ أنويتَه الأولى جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة،وبشكل ما فدوى طوقان،ثم انتفضَ غراسه يانعا في وثبة شعرية متميزة على يد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة،ثم كان له امتدادٌ جبارٌ بأقلام نزار قباني ومنذر سعيد(أدونيس)وعبدالوهاب البياتي ومعين بسيسو ومظفر النواب وعمر بهاء الدين الأميري،وينظم إلى هؤلاء العمالقة الفطاحل بما عُرف بين الأوساط الأدبية بآخر الشعراء المبدعين الكلاسكيين؛محمد مهدي الجواهري العراقي وعبدالله البردوني اليمني..ونذكر من الأحياء-الذين يراهم كثيرٌ من النقاد-بقيةً باقيةً من ذلك الجيل المتميز،الأدباء والشعراء أمد الله في أعمارهم؛الروائي الكبير الطيب صالح والأستاذ الكبير الشاعر فاروق شوشة،والشاعران الثائران محمد الفيتوري وأحمد مطر... هذا الرعيل الفذ المتميز الذي كان شاعرنا الراحل لبنةً من لبناته،وصانعاً أساسياً من صناعه،والذي تغنى في رحابه بماتغنى..وحلق ماحلق..وأبدَعَ ما أبدع،ونثَرَ روائعَ قريحته الثرة التي استمرأتها الجماهير العربية الذواقة،واهتزت لها،وتفاعلت مع إيقاعاتها من المحيط إلى الخليج،وصارت آثاره ودواوينُه شامةً وقامةً،تهتز بمقطوعاتها المُهَجُ،وتتشنف بمجازاتها ورمزياتها المشاعر والأسماع..من عصافير بلا أجنحة..وأوراق الزيتون..وعاشق من فلسطين..وآخر الليل..ومطرٌ ناعمٌ في خريف بعيد..ويوميات الحزن العادي(وهي مجموعة خواطر رمزية وقصص)..ويوميات جرح فلسطيني ..
وحبيبتي تنهض من نومها..ومحاولة رقم7..وأحبك أولاأحبك..ومديح الظل العالي..وهي أغنية هي أغنية..ولاتعتذر عما فعلت..وعرائس..ومروراً بالعصافير تموت في الجليل..وتلك صوتهاوهذا انتحار العاشق..وحصار لمدائح البحر..وسذشيء عن الوطن..وذاكرةٌللنسيان..ووداعا أيها الحرب وداعا أيها السلم(وهي من أروع مقالاته ذات العمق والدلالة الماورائية)..وانتهاءً ب كزهر اللوز أو أبعد..وفي حضرة الغياب..وجداريات..وغيرها..وغيرها.... هذا الرعيل اليتيم،تهيأت له من الظروف الإبداعية والسمات الفنية الخاصة ما نراها-للأسف-منتفيةً أوتكاد في ظروف وسمات جيل الإبداع الراهن،بل عند المقارنة العميقة الجادة،تجد فجوةً هائلةً تحتاج إلى جهود مُضنية لردمها..!!!.
وأنا هنا حين أتحدث عن محمود درويش وجيله بهذه الهالة الأدبية،وبتلك النرجيسية التي تقترب من التحليق،فأنا لاأعني التقليل البتة من الأجيال الصاعدة،أوالربيع القادم الذي ربَا وأينعَ أكلُه على مائدة هؤلاء العمالقة(معهم أو بعدهم)،وبلا شك أن زمن الرداءة الأدبية والشعرية الذي نعيشُ مساخره،لم يصل به العقمُ والعجزُالإبداعي لدرجة الجفاف والنضوب،وإلا فكيف نفسر بزوغ نجوم ساطعة،لها ولإبداعاتها مانتوقع القفزةَ النوعية والطفرة المتميزة،بل نتوقع لها في عالم القوافي والنظم صولات وجولات ووثبات هائلة مع الأيام(خذ على سبيل المثال شاعرَنا المفلق الأستاذ عبد الرحمان العشماوي والمتألق الثائر تميم البرغوثي،بل وحتى على مستوى موقعنا "محيط" هناك أقلامٌ أخاذة ترقص لجودتها الأحرفُ والكلمات مثل قلم أخينا الحبيب الأستاذ المبدع عبد القادر مصطفى عبد القادر وأخينا المبدع حاتم عبد الهادي السيد،وغيرهما كثير)،إلا أن هذه القلة،بالكاد تغطي عجزَ ذلك الغثاء الجم الذي ظهر فجأةً باسم الإبداع..
ظهر بالولادة والإنتاش في الصباح الباكر،وكتب خربَشات ما في العاشرة ضُحىً،أما في الزوال فقد جمع ديوانا(!!؟؟)،وعند المساء قفز إلى السطح،دون تمرحل وتمكن وتمكين،ليكون-هكذا-بقدرة قادر "شاعر العرب" تارةً و "شاعر المليون" و "أميراًللشعراء"(!!!؟؟) طوراًآخر..!!(وأعتقد أن أخانا نمر سعدي قد سلط أضواءً كاشفة على الموضوع في مقالته "مهزلة أمير الشعراء المبكية" ووفى فيها-مشكوراً-المرمى الذي أعنيه هنا)..
ومرةً أخرى أنا لا أقصد التثبيط وتوهين العزائم وتكسير الطموحات بهذه المقارنة،ولكني أشير إلى حقيقة الجيل السامق الذي انتمى إليه درويش،وجيل"الاستعجال والاختزال"الذي ظهر هذه الأيام... شاعرنا الراحل وجيله،عرف بالصبر والتحمل والتمرس واقتفاء أثر الحرف والكلمة اقتفاءً حقيقيا عميقا،جمع فيه بين الموهبة الكامنة والتمكن الراسخ لناصية النظم والغيقاع والقافية،وهذا هو الفارق..!!.
خذ أي واحد منهم..عد إلى أرشيفه...إلى بقاياهم المكتوبة والمسموعة والمرئية..وقارن..ثم عُد إلي بالانطباع الذي ستخرج به.... خذ مثلا محمد مهدي الجواهري في لقاءاته وإلقاءاته التي رأيناها على الشاشة..خذ نزار وإطلالانه السامقة في بعض اللقاءات..خذ شاعرنا الراحل درويش ولقاءاته وإلقاءاته..أي عظمة وسر خفي هو الذي يجعلك -مهما تشاطرتَ بموهبتك وإبداعك- مجردَ تلميذ ناشىء لم يلبث أن بدأ..!!!؟؟؟.
ثم قلب النظرَ إلى هذه الحشود التي تزحم بها الصحف والمجلات والبرامج والمواقع الأدبية،والتي نالت-هكذا بيسر وبساطة-ألقاباً شعريةً وإبداعيةً،مات البارودي والأمير عبد القادر الجزائري وحافظ والرصافي والشابي ومحرم وأبوريشة على جلالة قدرهم،ولم يحظ واحدٌ منهم بشرف الإمارة الشعرية،فضلاً أن يجرؤ بطلبها في برنامج تلفيزيوني عابر،وبمجرد الاستماع لقصيدة أوقصيدتين(!!!)ماعدا أحمد شوقي-وماأدراك ما شوقي-الذي بويعَ بها في لحظاته الأخيرة،وهناك من وفود الشعراء من اعترض..!!!.
هذا بالضبط الفارق الذي أعنيه... إن جيل درويش،صنعته ملاحمُ الأيام والسنوات،ومرسته الأحداث الجسام اللاحبة التي عركت موهبتهم الفذة،وضرسهم التفاعل الحقيقي الميداني بحال شعوبهم ومجتمعاتهم،وذوبهم العناق الأصيل المُضني للحرف العربي ولغة الضاد،وجمعت لهم الحياة العريضة ولسنوات وسنوات،وفي ظروف صعبة تجربةً شعريةً وثقافةًإلماميةً ما جعلهم في كيانهم وشخصياتهم أشبه بالساسة والفلاسفة والحكماء..تربوا تحت فيحاء الكلمة..وجعلوا منها لحنَ كفاح..ثم راقصوها بانعتاق،في أيقونة من الإبداع الخلاق الذي خلدوا به..استمع لدرويش وهو يهمس: إنني عدت من الموت لأحيا لأغني... ودعيني أستعر صوتي من جرح توهج..!!. وأعينيني على الحقد الذي يزرع في نفسي عوسج..!!.
إنني مندوبُجرح لايساوَم... علمتني ضربةُ الجلاد أن أمشي على جرحي... ثم أمشي وأقاوم..!!!
رحم الله درويش،وتحيةً منا إلى روحه الشعرية الثائرة..فهو بحق شاعر الجيل..وكل جيل..