مرة أخرى، تنمية الجهاز الإدارى للدولة قضية متشابكة مع كل ملفات التنمية، فالجهاز الإدارى أكبر مستنزف لمصروفات الدولة، كما أنه يعطّل الاستثمارات المحلية والأجنبية بالتعقيدات البيروقراطية، ويضيف إلى أعباء المواطنين بسبب تردّى مستوى الخدمات العامة، كالتعليم والصحة والكهرباء والمواصلات، ويسهم بشكل مباشر فى زيادة معدلات الفساد. تهتم العديد من الدول الأخرى بتنمية جهازها الإدارى، لتوحد اللغة الإدارية حول العالم، فيسير التعاون الاقتصادى والسياسى بين الدول أكثر سرعة وسلاسة. فدون تنمية الجهاز الإدارى لمصر تحوَّلت كل الاستثمارات والمشروعات والمعونات إلى زبد تذهب جفاءً دون انعكاس إيجابى على حياة المواطن أو حتى المؤشرات الاقتصادية. فهل ما تقوم به الحكومة الحالية يساعد على خلق جهاز يؤدِّى الدور المطلوب منه بكفاءة؟ الإجابة السريعة التى يسمح بها حجم المقالة هى لا. سئمنا تكرار تلك العبارة «تكرار نفس الأخطاء لن يؤدّى إلا إلى نتائج مختلفة»، ومعالجة البيروقراطية ببيروقراطية لن تؤدِّى إلا إلى المزيد من البيروقراطية. لقد أسردنا كثيرًا فى مقالات سابقة فى تفنيد عيوب القانون الجديد، ولذلك تهتم هذه المقالة بتحديد محاور تنمية الجهاز الإدارى للدولة، وهى على النحو التالى: أولًا: مدارس الإدارة الحديثة والتجارب الدولية المختلفة، سواء فى ما يخص المؤسسات الخاصة أو العامة، تضع «الحوكمة» فى صلب عملية الإصلاح المؤسسى. والحوكمة، فى هذا الإطار، هى فن الإدارة المستقيمة من خلال مجموعة من الترتيبات الرسمية وغير الرسمية، مثل النُّظم والإجراءات التى تحدِّد العلاقة بين مستويات الإدارة المختلفة، بالإضافة إلى الآليات التى تضبط وتراقب أداء المؤسسة وتحدِّد الحقوق والمسؤوليات. أصبحت الحوكمة هى اللغة التى تتحدَّث بها المؤسسات الحديثة حول العالم، ومن ثَمَّ يتطلَّب الإصلاح الإدارى فى مصر الاهتمام بهذا الشق الذى لن يحدث أوتوماتيكيًّا، ولكن يحتاج إلى ثمة إصلاحات كخطوة أولية، ومنها توسيع قاعدة المشاركة فى صناعة القرار والرقابة على الأداء من خلال التحوُّل إلى اللا مركزية. ثانيًا: لا أمل فى إصلاح جهاز الدولة الإدارى إلا بتنمية العنصر البشرى. وينقسم هذا المحور إلى جزأين، أولهما هو وضع خطة حقيقية لتقليل عدد العاملين بالجهاز وعدم الاكتفاء فقط بالتغيير السطحى الذى نصّ عليه القانون بإمكانية إنهاء مدة العمل طوعًا عند سن ال55، والحصول على كل امتيازات المعاشات. الحل فى إيجاد آلية أكثر إبداعًا لإجراء تدريبات تحويلية للعاملين بالجهاز وتمويل مشروعاتهم فى حالة خروجهم من العمل الحكومى. أما الجزء الثانى فله علاقة بالتدريب وتنظيم العمل، وقد احتوى القانون على فقرة جيدة بخصوص إنشاء وحدات للموارد البشرية داخل الهيئات الحكومية. ثالثًا: لا يمكن لجهاز الدولة أن يتطوَّر دون الاستثمار فى التكنولوجيا أكثر من ذلك، والتحوُّل نحو الحكومة الإلكترونية من خلال الاستفادة بخبرات القطاع الخاص فى هذا المجال. وقد قامت الحكومة بالعديد من المشروعات المتعلقة بالحكومة الإلكترونية، ولكن تجب معاملة هذا الملف كمشروع قومى وعدم الاكتفاء ببعض الإصلاحات شديدة التدريج. أعرف أن الحكومة تضع هذه القضية على رأس أولوياتها، ولكن للأسف أول القصيدة كان قانونًا لن يسهم كثيرًا فى حل الأزمة.