فى 8 مايو 1989 كتبت مجلة «اليوم السابع» التى كانت تصدر من باريس، خبرًا عن رحيل الفنانة الطليعية إنجى إفلاطون، وكان عنوان الخبر «غياب الفنانة المصرية إنجى إفلاطون.. مسيرة متمردة ورحلة بحث عن الحرية»، وكانت الفنانة التى تملأ الدنيا حماسا ومناقشات ومعارضة ومودة، قد رحلت فى منتصف أبريل عام 1989، بعد أن تركت آثارا طيبة فى الفن والثقافة والمقاومة والإنسانية. يقول الخبر: «أفلاطون رافقت الحركة الفنية المصرية فى أهم محطاتها، وانتمت إلى جيل المؤسسين الذين تركوا بصماتهم على ثقافتنا الحديثة، دخولها الفعلى فى المعترك الفنى يعود إلى 1942 حين التقت شابَّةً مع الفنان كامل التلمسانى الذى أصبح أستاذها، وقدمها إلى الحركة التشكيلية المصرية». وكان التلمسانى من الفنانين التشكيليين الذين انضموا وأسسوا مدرسة فى الفن عموما، تعنى بالحركة السريالية، وكان التلمسانى مع أنور كامل وجورج حنين وألبير قصيرى وغيرهم، يشكلون حركة تقدمية فى الثقافة والفن عموما، وترك التلمسانى أثرا بعيدا فى إنجى، بعد أن كانت تأخذ دروسا فى اللغة والفن، وكان التلمسانى يدعمها فى القراءة، فعرفت من خلاله فنانين وشعراء وكتّابا. ولم تتعلم أفلاطون اللغة العربية فقط، حيث إن تعليمها كان فرنسيًّا، وكانت تكتب وتقرأ بالفرنسية، وكان والدها العالم المتخصص فى الحشرات محمد أفلاطون قد ألحقها هى وشقيقتها جولبيرى أفلاطون بالتعليم الفرنسى، ولكن إنجى قررت أن تتعلم العربية، وتخبرنا فى سيرتها الذاتية أنها تعلمتها فى وقت قياسى، لدرجة أنها كانت تكتب بها مقالات وتنشرها فى الصحف. انتمت إنجى إلى الحركة اليسارية فى شكلها السياسى والفنى والثقافى، كذلك انتمت إلى الحركة النسائية المصرية، ولم يكن نضالها فى مجال حقوق المرأة، منفصلًا عن نضالها فى انتزاع الحرية عموما، وكان كتابها «نحن النساء المصريات» الذى قدمه شيخ المؤرخين عبد الرحمن الرافعى، وصدر عام 1949، طلقة مدوّية فى هذا المجال، وأثرى المناقشات حول حقوق المرأة فى مجتمع لا يتسم بالذكورية المجردة والفطرية، ولكنه مجتمع يعمل ليلا نهارا على تسخيف حقوق المرأة فى كل أشكالها، لذلك كانت الأرقام والأفكار والمطالب التى أتت بها إنجى، مثيرة للجدل، ربما لزميلاتها أكثر من أى جهة أخرى. ولم تركن إنجى إلى تنظيم أو اتجاه أو جماعة معينة أو شلّة، ولكنها كانت تنطلق من ثقافتها الخاصة، ومواقفها الاجتماعية الصائبة، ورغم أنها كانت سليلة أسرة بورجوازية كبيرة، فإنها انخرطت فى النضال الاجتماعى ضد هذه الطبقة وطغيانها واستغلالها للطبقات الكادحة، وكانت تكتب فى عدد من الصحف اليسارية المرموقة فى ذلك الوقت، ولم تكن تنخدع بالشعارات البراقة، ولم تكن تعرف الرياء الاجتماعى الذى يجعلها لا تصطدم مع تابوهات فى الحياة السياسية، وكانت مقالاتها فى مجلة «الكاتب»، الناطقة باسم حركة السلام العالمية، نارية، وحادة، وهاجمت فيها كل رموز الفساد والتخلف الاجتماعى والفكرى فى مصر، كما هاجمت السيدة درية شفيق، حيث إنها كانت تراها مهادنة للإنجليز، وجدير بالذكر أن هذه المقالات لم يضمها أى كتاب، رغم الأهمية الفكرية والسياسية والتاريخية لهذه المقالات، واقتصرت الحركة النسائية المصرية على إعادة نشر كتاب «نحن النساء المصريات»، وربما الكتيب «80 مليون امرأة معنا» وفقط، هذا البحث الذى تقدمت به إلى المؤتمر النسائى العالمى فى باريس، والذى انعقد عام 1945، وقدّم له الدكتور طه حسين. وفى هذا الكتيب لخّصت إنجى مطالب الحركة النسائية آنذاك فى بضعة مطالب، وركزت على أن حل مشكلة المرأة يرتبط ارتباطا عضويا بحل مشكلات الديمقراطية والتقدم فى المجتمع، كما أنها أكدت أن كفاح المرأة لتحقيق أهدافها آنذاك لا بد وحتمًا ارتباطه بالكفاح المنظم ضد أعداء الوطن والتقدم، إذ كانت بلادنا فى ذلك الوقت ما زالت تحت أقدم الاحتلال الإنجليزى الثقيلة، كما أفصحت عن أن مشكلة المرأة ليست مشكلة محلية، بل إنها مشكلة عالمية تهم كل نساء العالم، ومن هنا يتعين -كما فى الكتيب- أن يرتبط سعى المرأة المصرية بنساء العالم فى النضال الذى ينخرطن فيه. بهذه المطالب التى طرحتها إنجى، لمع اسمها كواحدة من بنات ومناضلات الحركة النسائية التقدمية، بعيدا عن الحركة النسائية التى تنضوى تحت شعارات قديمة، سعت إليها الحركة فى بدايات القرن العشرين، منذ أن أسست فاطمة نعمت راشد أول جمعية نسائية فى مصر، وحصلت على ترخيص لها لأول مرة عام 1908. تضافرت إبداعات إنجى فى الفن والكتابة والنضال عموما، فعندما حدث العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، أعادت إنجى تشكيل اللجنة النسائية التى انفرط عقدها منذ سنوات، وتفرعت هذه اللجنة إلى 18 لجنة نسائية فى الأحياء الشعبية وفى الريف، وعملت على تدريب النساء على حمل السلاح دفاعا عن الوطن. وفى 8 مارس 1957 أُقيم فى «أتيليه القاهرة» أول احتفال بيوم المرأة العالمى فى مصر، ومُنحت جوائز تقديرية لكل من إنجى إفلاطون كفنانة مبدعة، وعايدة فهمى كأول نقابية، وعين الحياة كأول فلاحة تُنتخب فى جمعية تعاونية بالريف. بعد رحيل إنجى صدر كتاب تذكارى عنها، كتب فيه أبو سيف يوسف، وعبد العظيم أنيس، وثريا أدهم، وعظيمة الحسينى وغيرهم، كما صدر كتالوج يضم مجموعة لوحات لها وقراءة فنية نقدية فى هذه اللوحة كتبها وأعد الكتاب د.نعيم عطية، ولكن يبقى أن يعاد نشر كل تراث هذه الفنانة المصرية الأصيلة، مع الكتابات التى لم تُجمع من قبل على وجه الإطلاق.