تعد الفنانة الرائدة إنجي أفلاطون تجسيدا لمعني أن يكون الفنان موقفا وصاحب رسالة إنسانية ومشاركا في تعبير الواقع نحو الأفضل ولو دفع في سبيل ذلك من حريته وأمنه وأغلي سنوات عمره وإذ أصبحت إنجي الآن تاريخا, بوسعنا أن نقول أنها كانت عمرا من الفن والنضال معا. علي صعيد الفن شاركت أنجي ضمن الرموز المبكرة لجيل التمرد التشكيلي أوائل الأربعينيات في ترسيخ حركة التجديد في التصوير المصري الحديث مستهدفة وسط حماس ذلك الجيل بالمنجزات الأوروبية المعاصرة خاصة السوريالية ومع ذلك فإنها لم تتردد في التمرد علي هذه الإنجازات واختارت طريقها الخاص, النابع من معايشتها العميقة للواقع المصري, ومن قناعاتها الفكرية والنضالية ولم ترهبها علي مدار السنوات الطويلة صيحات الهجوم علي الواقعية والالتزام ودعاوي الإثارة الشكلية الفارغة من أي مضمون. ويمكن القول أن تجربتها الإبداعية تعد إضافة حقيقية إلي تطور فن التصوير المصري الحديث ومحاولة جادة ضمن محاولات أخري متفرقة للخروج بهذا الفن من مأزق التبعية للغرب نحو بلاغة جمالية مستقاة من جماليات الطبيعة المصرية والواقع دون التنكر للتراث الأوروبي وتطوره. امتدت رحلة أنجي أفلاطون مع الإبداع في الفن التشكيلي لحوالي47 عاما فقد بدأت حياتها الفنية في بداية الأربعينيات وكان طابعها في ذلك الوقت هو الانكفاء علي الذات والتعبير عن المشاعر الداخلية حيث اتسمت لوحاتها بطابع سريالي يخيم عليها جو الأحلام المزعجة والكوابيس كما جاءت ألوانها قاتمة داكنة واعتقد أن أهم لوحات جسمت هذه الفترة المبكرة من حياتها كانت لوحات المناظر الليلية الثلاثة التي قال عنها الناقد الأوروبي المعروف مارسيل بياجيني في جريدة لاباتري عام1942 بأنها لوحات تعيد إلي الذاكرة الإنسانية تلك المشاعر. واستيقظت من حلمها الخاص فرسمت عام1941 الفتاة الوحش ثم في1942 انتقام الشجرة فكرة لا تزال غامضة تموج بالواقع المخلوط بالصور الأسطورية ولكنها تبشر بوعي تشكيلي وثقافي( الفتاة تخرج من وسط اللهب تحيط بها الثعابين وتنقض من السماء الطيور الجارحة). أدرك ذلك أستاذها كامل التلمساني الرسام والسينمائي المعروف فشجع حيويتها مع حرص علي استقلاليتها وكان التلمساني في ذلك الوقت يمثل الثالوث السريالي في مصر مع الشاعر جورج حنين ورمسيس يونان جماعة الفن الحديث فكانت سريالية سياسية إلي جانب تحررها التشكيلي. وابتداء من سنة1948 إلي1952 كانت ثمرة هذه المرحلة معرضها الأول الذي أقيم بقاعة آدم بشارع سليمان واختارت أنجي أفلاطون أبطال لوحاتها من أفراد الشعب البسطاء في حياتهم اليومية المتقشفة. عشرات اللوحات تؤكد ارتباطها بما يعرف في الفن التشكيلي بالواقعية الاجتماعية, الريف أهلها وجذورها الممتدة ولا تكاد تتعرف علي الحدود بينها, أنت فقط أمام حالة من التوالد الذاتي والتكاثر العشوائي لضربات الفرشاة وقد أطلقت الأخيرة من داخلها ضربات متتابعة متتالية في مجال فلكي أنثوي خاص. وقد ارتبطت بالريف بجذور اجتماعية سواء كانت علي المستوي العائلي أو علي مستوي الشعور والإحساس وتقول عن إبداعها الفني عن الريف بأن لوحاتها لا تشرب من غير ماء النيل ولا تتيه أو تبكي وتضيع إلا بين دروب صحاري مصر. ومرت أنجي أفلاطون بتجربة قاسية في سنة1959 حين اعتقلت لفترة تزيد علي السنوات الأربع لنشاطها السياسي وأثناء فترة الاعتقال كانت ممارستها للفن هي عزاءها الوحيد وطاقة تتنفس منها روحها المثقلة بالقيود والأغلال المحاطة بالأسوار والحرس وانفعلت أنجي بحياة السجن ومن غرائب الصدف أنه بينما كانت وزارة الثقافة والإعلام تبحث عنها لنيل جائزة أولي في مسابقتها عن المناظر الطبيعية كانت أجهزة الأمن تبحث عنها لإيداعها في المعتقل السياسي الذي أعطاها بالإضافة إلي اللوحات التشكيلية الخاصة عدة أعمال تنتمي إلي فن الوجوه البورتريه الذي بفضله قدمت عدة وجوه نسائية كانت أسيرة السجون أنها تجربة غنية حيث ساهمت في نضوجها واستطاعت خلالها التعبير عن السجن بكل ما يعنيه هذا العالم حيث تبدو الطبيعة من خلف القضبان جميلة وتقول أخذت قيمة إضافية هي قيمة الحرية فقبل السجن كان الإنسان هو الأساس في عملي وأفرج عنها في24 يوليو1963, وخرجت من السجن وكأنها عاطشة للنور والحرية فانطلقت إلي الحقول الخضراء واحتفالات الزهور وتجمعات النخيل مصورة أفراح الطبيعة مختلطة بأفراح البشر في مواسم الحصاد. وتدخل الفنانة منذ السبعينيات رحلة جديدة مع إبداعها الفني أطلقت عليها الفنانة تعبير الضوء الأبيض وهي تتسم بجولات مفتوحة عبر قري مصر ومدنها تقدم خلالها مفاتن الريف بين الشمس والهواء والحقول بين الخضرة والألوان والزهور تحتفل مع الفلاحين بجني الحصاد وتسمو وتعلو مع النخيل وهكذا كانت رحلة أنجي أفلاطون الإبداعية في الفن التشكيلي فإلي جانب عشرات بل مئات اللوحات تركت لنا ثلاثة كتب الأول الحركة النسائية العالمية والثاني بعنوان نحن النساء المصريات وكان الثالث والأخير السلام والجلاء, وهو ما يؤكد أن أنجي أفلاطون باقية ببصمات مميزة ليس فقط في الفن التشكيلي بل في الحياة الاجتماعية لمصر.