كثر الحديث بعد الثورة المصرية عن إصلاح جهاز الشرطة والمنظومة الأمنية كمقدمة ضرورية لأى تحوّل ديمقراطى، وتسابق الخبراء ومدّعو الخبرة للدلو بدلوهم وتقديم سلات من الاقتراحات والتوصيات من أجل إعادة هيكلة وزارة الداخلية وتطهيرها وإخضاعها للرقابة الشعبية والبرلمانية والقضائية، ولتعديل القوانين، ولمحاسبة مَن أطلق النار على المتظاهرين، ومَن انتهك حقوق الإنسان ومارس التعذيب وأساء استخدام سلطاته، وهناك مَن أوصى بحل جهاز الأمن الوطنى أو بتحجيمه، ومَن اقترح إنشاء شرطة مجتمعية، ومَن نادى بضرورة التخلِّى عن إشراف الداخلية على إدارة السجل المدنى وعن اشتراط موافقتها على التعيينات فى عديد من الوزارات والهيئات والكليات، ومَن تحدَّث عن ضرورة إعادة النظر فى مناهج الدراسة فى كلية الشرطة وفى شروط قبول المتقدمين إليها، ومَن ركَّز على تحسين أحوال وتدريب وظروف عمل أمناء الشرطة، ومَن طالب بوقف الاعتماد على المجندين، ومَن أيّد إدخال تعديلات على تسليح الشرطة وعلى قواعد الاشتباك، ومَن ندَّد بوجود الصناديق الخاصة، ومَن اقترح تغيير معايير الترقية، ومَن قدَّر أن المشكلة فى حقائق ميزان القوة بين الشرطة والنيابة، وطالب بإخضاع العمل الشرطى لرقابة النيابة، والقائمة طويلة ولا تنتهى. ولسنا بصدد تقييم المقترحات من ناحية المبدأ، فأغلبها وجيه، ومستوحى من تجارب رائدة فى التحوُّل الديمقراطى، ولكن المشكلة فى واقعيتها وتكلفتها وفى إمكانية وتوقيت تطبيقها، وفى رغبة القيادات السياسية المتعاقبة على دخول معمعة عملية إصلاح محفوفة بالمخاطر، نقول أولًا إن كفاءة وفاعلية أى جهاز شرطة فى العالم تتطلَّب أمرَين، مرتبات تكفل حياة كريمة أو على الأقل مستورة، آليات تضمن رقابة دقيقة على الأداء، فغياب أحدهما سيدفع بعض العناصر إلى سوء استعمال السلطة والعتاد وإلى التربُّح وإلى فرض الإتاوات. ومن الواضح أن مشكلة المرتبات لا حل لها فى مصر فى الظروف الاقتصادية الحالية، وأن تضحيات أعضاء الجهاز فى حربهم ضد الجريمة والإرهاب تعقد عملية مقاومة ميل الجهاز إلى التغوُّل ومحاسبة أخطاء أعضائه الجسيمة والمتكررة، وهذا لا ينفى التحسُّن النسبى فى الأداء العام لرجاله. نقول ثانيًا إن الخبراء لم ينتبهوا إلى الفروق بين عملية انتقال ديمقراطى وحالة المد الثورى، الأولى تفترض وتتطلب قدرًا من الاتفاق بين الأطراف الرئيسية على الأهداف وعلى قواعد اللعبة وعلى فكرة تمثيل الشعب فى برلمان، بينما الثانية تشاهد استقطابًا حادًّا وصراعًا على البقاء واللجوء إلى الإقصاء، ووجود الشعب فى الشوارع ليقول كلمته، وكان الوضع المصرى أقرب إلى الحراك الثورى. ويرى عدد كبير من الخبراء أن الفرصة كانت سانحة للتغيير فى الشهور التى تلت رحيل مبارك، لأن الشرطة هزمت، ولم تكن فى وضع يسمح لها بمقاومة الإصلاح، ويقولون إن المجلس العسكرى أهدر تلك الفرصة عندما اكتفى بعمليات تطهير جزئية، ولا نوافقهم الرأى، فالقصة أكثر تعقيدًا، فالانفلات الأمنى الكبير، وتدهور الأوضاع فى كل من سيناء وليبيا، والزيادة الهائلة والمرعبة فى عدد الأسلحة الموجودة عند الأفراد العاديين والبلطجية والمتطرفين وفى معدلات الجرائم، كل هذا فرض أولويات أخرى على القيادات السياسية والعسكرية آنذاك، ولعب النفور الشعبى من شبكات الفساد التى أضعفت من كفاءة الدولة وأثرت بالسلب على مشروعيتها دورًا فى نفس الاتجاه. الأولوية كانت لعودة الأمن، لاستعادة الشرطة قدراتها على الاضطلاع بمهامها التقليدية لتخفيف العبء الكبير الواقع على أكتاف القوات المسلحة، الأولوية كانت لاسترداد الشرطة ثقتها وفاعليتها، أجلت المقرطة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، وتركت المهمة للرئيس الجديد. وفاز الرئيس السابق محمد مرسى بالانتخابات، وكان مرشح قوة سياسية منظمة، ولها وجود كبير فى الشارع وأدوات عديدة، ولكن علاقاتها مع وزارة الداخلية كانت تاريخيًّا بالغة السوء، وكانت الثقة بينها وبين غالبية أعضاء الجهاز منعدمة.. وللحديث بقية.