تناولنا فى المقالتين السابقتين اقتراحين لإصلاح جهاز الدولة، تعميم العقود المؤقتة وتأسيس هيئات صغيرة تضطلع بوظائف المؤسسات الكبرى بكفاءة أكبر وتقدم خدمات أحسن مقابل رسوم مرتفعة، وانتقدنا الخيارَين، مع الاعتراف بأنهما قد يكونان شرًّا لا بد منه، ونواصل الحديث، محذرين من التعميم، قد يكون تأسيس هيئة صغيرة حلًّا جيدًا وليس فقط شرًّا لا بد منه فى بعض الأحوال، فمهام الدولة تتجدد وتتشعب وتتعقد. وننتقل إلى قضية أخرى، بعد ثورة 25 يناير، كثر الحديث عن إصلاح الدولة، ونستطيع أن نميِّز بين فلسفتَين، هناك مَن يرى أن الحل هو إعادة الهيكلة من أجل المقرطة، ولتحرير المجتمع والفاعلين من قبضة الدولة وهيمنتها الخانقة على زمام الأمور وللقضاء على مركزيتها الشديدة المعطلة للحركة، وهناك مَن يرى أن المشكلة هى ترهُّل الدولة وتدهور قدراتها على فرض احترام القانون وعلى تقديم الخدمات وعلى القضاء على الفوضى، ويميل أنصار هذا التشخيص إلى الربط بين هذا التدهور وانتشار الفساد والمحسوبيات، الترهُّل يدعم الفساد والعكس صحيح، وأحسب أن أصحاب تلك القراءة يحبذون عودة دولة عبد الناصر كما يتخيلونها. وبالطبع، قد يفترض أصحاب الفلسفة الأولى أن المجتمع المصرى بخير، وأن الظواهر السلبية إما ثانوية وإما تفسر بجبروت الدولة، وقد يفترضون أن القطاع الخاص والطبقات الوسطى غير المرتبطة بجهاز الدولة أقدر على حل المشكلات المزمنة التى تحول دون التقدُّم والرقى. بينما يرى أصحاب الفلسفة الثانية إما أن المجتمع المصرى مريض وغير أخلاقى وغير قادر على التقدم وعلى تنظيم نفسه بمفرده، وإما أن الفقراء فى مصر فى حاجة إلى نصير، وأنه لا يمكن الاعتماد على القطاع الخاص وعلى الطبقات الميسورة والغنية والأنانية فى الصراع ضد الجهل والفقر والمرض. ولسنا بصدد مناقشة الفلسفتَين، ما يهمنا الآن هو الآتى، من الواضح أن مؤسسى الدولة المصرية الحديثة تبنّوا الفلسفة الثانية، وأن تلك الدولة غير مؤهلة للعمل فى نظام ديمقراطى، فلا هياكلها ولا تراتبيتها الهرمية ولا علاقاتها مع المجتمع ولا تعريفها لمهامها ووظائفها ولا لوائحها ولا أساليب عملها ولا إدارتها لمختلف الملفات تسمح بالتأقلم مع نظام ديمقراطى، فهى نصبت نفسها مشرفة على عملية بناء مصر الحديثة، وقائدة ومحتكرة لها، وحارسة لها من المخاطر العديدة الناجمة عن أهمية الموقع، وذهبت إلى مدى بعيد لتمكين الخبراء والقيادة السياسية، ورأت فى الشعب مادة خام يجب تطويعها ومنبع خطر الفتنة والفوضى ومخزن الجهل والعادات القبيحة. ترى أن الشعب إما عاجز وإما مؤذ، تفترض أنه جاهل بأمور دنياه... إلخ. ويترتب على ذلك صعوبة (لا أقول استحالة) خيار المقرطة. يبدو لى أن أنصاره يتجاهلون المشكلة ويقللون منها، متصورين أن المجتمع يتغيّر بقانون، بجرة قلم، غير مدركين حقيقة خطر انهيار الدولة وتبعاته. وبالطبع يعظم أعداء الديمقراطية وأصحاب المصالح من المخاطر، ويكثرون من اللجوء إلى فزاعة انهيار الدولة ومن التحذير من الآثار الثانوية السلبية التى تظهر فى المراحل الأولى من الإصلاح، ويذكروننا بأن الذين يستفيدون من المقرطة هم القوى المنظمة، أى أصحاب المصالح الرأسمالية والمشروعات الشمولية والخيارات الإرهابية. ودون الدخول فى التفاصيل، أرى أن حجج أعداء المقرطة قويّة جدًّا، لكنها ليست حاسمة، فمن ناحية، يمكن التوافق على حل تدريجى، ليس من الضرورى فتح كل الجبهات فى آن واحد، ومن ناحية أخرى، لا يمكن تجاهل الطفرة الهائلة التى غيَّرت جذريًّا الوعى السياسى للمصريين ورغبتهم الكاسحة فى المشاركة وإدراكهم حجم المخاطر التى تهدِّد البلاد. قد نشجب الضعف النسبى وثقافتهم الاقتصادية، لكن وعيهم السياسى عميق ويزداد عمقًا مع مرور الأيام. السؤال الأهم فى هذا الصدد هو موقع إصلاح المنظومة الأمنية فى جدول الأولويات، الرأى الغالب يرى ضرورة بداية أى مقرطة بإصلاح جهاز الشرطة وقطاع الأمن، وحججه عديدة وقوية، أهمها ضرورة ردع ميل تلك الأجهزة إلى التغوُّل، وإخضاعها لرقابة فاعلة، ولكن السؤال مطروح، هل تلك الحجج حاسمة؟.. للحديث بقية.