يبدو أنه أصبح من الملائم أن نري العالم، بسبب الحرب في العراق، وقد انهمك في مناقشات حول طبيعة الديمقراطية بعد مرور مائتي عام منذ مولد أليكسيس دو توكيوفيللي. كان توكيوفيللي قد اشتهر عن جدارة برفضه للحنين إلي الرجعية، وبنظره إلي انتصار الديمقراطية باعتباره المصير الذي ينتظرنا جميعاً، بينما حذر من المخاطر التي قد تفرضها الديمقراطية علي الحرية. تُري هل ينبغي علينا أن نشاركه مخاوفه حتي الآن؟ لم ينظر توكيوفيللي إلي الديمقراطية باعتبارها مجرد نظام سياسي، بل باعتبارها في المقام الأول نظاماً فكرياً يسعي إلي تشكيل وصياغة عادات المجتمع وأعرافه بصورة عامة، علي النحو الذي يضفي عليها بعداً اجتماعياً نفسياً. ولقد زعم توكيوفيللي أن الأنظمة الديمقراطية تحدد أفكارنا ورغباتنا وعواطفنا. وتماماً كما كان هناك "إنسان عصر النهضة"، ثم في القرن العشرين "إنسان العصر السوفيتي"، فإن "الإنسان الديمقراطي" هو شكل آخر من أشكال الإنسانية. وبهذا الفهم، فإن أصحاب نظريات الماركسية الجديدة من مدرسة فرانكفورت، ومعهم المؤرخة هانا آيرنت، يصبحون من بين ورثة فِكر توكيوفيللي، الذين أعربوا جميعاً عن خشيتهم من تفسخ الفكر المتعقل في المجتمعات الحديثة. ومؤخراً صدر كتاب حديث من تأليف الفيلسوف الفرنسي مارسيل جوتشيت بعنوان "الديمقراطية ضد ذاتها". ويزعم هؤلاء الكتاب أن طريقة الحياة الديمقراطية تميل إلي تدمير الفكر الإبداعي وقمع الثقافة "الراقية"، الأمر الذي يؤدي إلي حالة من التدني الفكري الذي يجعل المواطنين عرضة لأعداء الديمقراطية. ولكن علي الرغم من أن التاريخ حافل بأنظمة وحشية قاتلة صفقت لها الجماهير الخائفة والمخدوعة، إلا أن الخطر الأعظم الذي يتهدد الأمم الديمقراطية يكمن في ارتداد مواطنيها إلي حالة من اللامبالاة والتفكير القصير النظر في سعيهم إلي الإشباع اللحظي. فضلاً عن ذلك فإن الماضي يطْمَس بفضل الإدمان علي الحاضر والجديد بالرغم من الطقوس الرامية إلي إحياء الذكريات التاريخية. وحتي الطبقة الحاكمة التي يفترض فيها حسن الثقافة والتعليم لم تعد بمنأي عن هذه الفتنة. والمشكلة الأساسية التي تعيب العقلية الديمقراطية تتلخص في الافتقار إلي الوعي التاريخي. ولكن هل تعني نقائص الديمقراطية حقاً أن التشاؤمية المستسلمة هي السبيل الواقعي الوحيد المفتوح أمامنا كما زعم توكيوفيللي؟ لا أظن هذا. فهناك العديد من السبل لمقاومة ما نستطيع أن نطلق عليه "الغباء الديمقراطي" المتنامي. إن الخط الدفاعي الأول يتمثل في السعي الحثيث إلي إيجاد نظام تعليمي يساعد حقاً علي تشكيل الفكر الانتقادي، وعلي وجه التحديد من خلال المواضيع المهملة إلي حد كبير اليوم في مجالات مثل: الأدب، والتاريخ، والفلسفة. وإذا كان لنا أن ننجح في صياغة وتشكيل ذلك الجمهور من المواطنين المطلعين الميالين إلي الانتقاد، والذي تحتاج إليه الديمقراطية لكي تبقي وتستمر، فلابد وأن تكف مدارسنا عن الترويج دوماً لأحدث البدع الشعبية وأن تبدأ في صقل القدرات التحليلية لدي الطلاب. إن المعوق الأكبر أمام التوصل إلي هذا الشكل من التعليم يكمن في الأجهزة الإعلامية الجماهيرية، وذلك بسبب ميلها الواضح إلي تشجيع السطحية واللهو. فالعديد من الناس أصبحوا اليوم يقضون أمام شاشات التلفاز وقتاً أطول مما يقضونه في الفصول المدرسية. وذلك النوع من السلبية التي تشجعها أجهزة الإعلام الجماهيرية يشكل النقيض المباشر للمشاركة الفعالة التي يحتاج إليها المواطن في الدولة الديمقراطية. ولكن من الصعب أن نتخيل أجهزة الإعلام الجماهيرية (باستثناء بعض الصحف ذات النوعية الراقية) وقد تحولت بإرادتها وعن طيب خاطر إلي أدوات لنظام تعليمي حريص علي تنمية وتعزيز القدرات الانتقادية لدي المواطنين. إن هذه المخاوف بشأن أجهزة الإعلام الجماهيرية ليست مجرد ازدراء متغطرس للثقافة الشعبية. فالمسألة هنا لا تقتصر علي قضية الشعبية فحسب فقد كان موتسارت موسيقاراً شعبياً في عصره، كما كانت مسرحيات شكسبير تجتذب الفقراء والأغنياء بل إنها تكمن في رفض الثقافة الشعبية للتحدي والاستفزاز. وهذا الإخفاق يؤدي إلي تفشي اللامبالاة والسلبية بين الجماهير.