فى 27 يناير 1958 نشرت مجلة «روز اليوسف» ضمن الأخبار التى تنشرها عن أحوال المشاهير والشخصيات الكبرى فى المجتمع السياسى والثقافى والفنى خبرًا يقول: «زكى طليمات تحول إلى سندباد مسرحى.. لقد عاد فى نوفمبر الماضى من تونس، وما كاد يصل حتى ركب الطائرة إلى الكويت، وبمجرد أن تنتهى زيارته هناك سيستقل الطائرة من الخليج الفارسى إلى مراكش فى شمال إفريقيا ليقدم مقترحات عن النهضة المسرحية فيها.. ومهمة زكى طليمات شاقة فى الكويت، لأنه اكتشف أن المرأة الكويتية لا تعرف السفور، ويرفض الرجال ظهورها على المسرح، ويقومون هم بدورها.. وعلى زكى طليمات أن يقنع الكويتيين بأن ظهور المرأة على المسرح ليس عيبًا، فإذا لم يفلح فى إقناعهم فعليه أن يُعلِّم الممثلين الرجال كيف يقومون بالأدوار النسائية». والذين يتتبعون مسيرة الفنان الكبير الراحل زكى طليمات، سيعرفون أنه لم ينجح فى إقناع الكويتيين بظهور المرأة على المسرح فقط، بل إنه قاد نهضة مسرحية عارمة فى دولة الكويت، بعد أن حصل الكويتون على استقلالهم عام 1961، ففى ذلك العام أنشأ طليمات فرقة للمسرح فى الكويت، ضمت الشباب الموهوب والطليعى الكويتى، وراح ليبحث عن حل لمشكلة ظهور المرأة الكويتية على خشبة المسرح، وبالفعل وجد فتاتين دخلتا مجال المسرح، والفتاتان كانتا مريم الصالح ومريم الغضبان، وكانتا الفتاتين اللتين دخلتا مجال التمثيل المسرحى فى الكويت بشكل حصرى، وقدمتا أدوارهما للمرة الأولى فى مسرحية صقر قريش ، وذهبت إليهما النجومية، مثلهما مثل عبد الحسين عبد الرضا وسعد الفرج وخالد النفيسى من الرجال. ولم يتوقف مجهود طليمات عند تأسيس فرقة المسرح الكويتى فحسب، بل إنه قام بتأسيس مركز الدراسات المسرحية هناك، وفى عام 1975 أسس المعهد العالى للفنون المسرحية فى الكويت، وكان هذا حلما بعيد المنال، لولا مجهودات زكى طليمات الرشيدة والعنيدة، والتى أسهمت فى نهضة الفن والثقافة والكويت منذ أواخر خمسينيات القرن الماضى. ولم يكن عناد طليمات قد ظهر فجأة فى تلك السنوات، ولكنه كان قائما وفاعلا منذ فترة طويلة، وكانت رحلته مع المسرح قد بدأت معه منذ الطفولة، إذ إنه كان طفلا شقيا وذا حركات مثيرة، وكان يلعب بطريقة لافتة للنظر، إذ إنه كان يقفز من الشباك، ويسير على حوافه، وكان هذا يثير الجيران والمارة، فيصفقون له، دون أن يعلم أن تلك اللحظة كانت البداية الأولى التى دفعته إلى إدمان حالة الفرجة ، ثم دخل المدرسة، واختير للتمثيل فى فريق المدرسة، ففى أحد الأيام -كما يكتب فتحى غانم- من عام 1914 كان مدرسا اسمه محمد عبد الرحيم قد كتب رواية مسرحية اسمها الممثل عن حياة دافيد جاريك الفنان الإنجليزى الذى أخرج روايات شيكسبير لأول مرة بالملابس التاريخية. وكان قبل ذلك بقليل تعرف الفتى على اثنين من زملاء الدراسة، وكانا من طلائع الفن والكتابة، وهما محمد تيمور ومحمود تيمور، وكان الاثنان من عائلة تيمور الأرستقراطية، التى كانت مهتمة إلى حد بعيد بالفن والثقافة والعلوم، وكان محمد ومحمود تيمور قد اخترعا مسرحا بيتيا فى البدروم، وكانا يقومان فيه بتمثيل بعض المسرحيات العالمية، وانضم إليهما الفتى طليمات، وصارت بينهم صداقة فنية وثقافية إلى أجل بعيد، وعندما صدر لمحمد تيمور كتاب يتضمن مقالاته المسرحية، كان طليمات هو الذى قدّم هذا الكتاب. ودخل طليمات مدرسة المعلمين ليتخرج فيها مدرسًا، وكان على وشك الحصول على الشهادة، ولكن نداهة الفن جذبته وخطفته إليها بقوة، فترك المعهد والدراسة ليلتحق بعالم التمثيل، ويكتب مقالات فى الصحف والمجلات ناقدا المسرحيات التى كانت تعرض فى ذلك الوقت، وكان أول مقال نشر له فى جريدة المقطم عام 1922، واستمر فى النقد والمشاكسة، حتى إنه هاجم جورج أبيض -وكان ينتمى إلى فرقته-، وكانت النتيجة أنه ترك الفرقة، وبقى دون عمل. وراح زكى يبحث عن عمل بالبكالوريا، فلم يجد عملًا إلا فى حديقة الحيوانات، ويكتب طليمات بأن تجربته فى حديقة الحيوانات كانت مفيدة له كفنان مسرحى إلى حد بعيد، فكان يجلس لساعات طويلة يراقب القرود فى حركاتها وإيماءاتها وأشكال تقليدها لكل ما تراه، وكذلك كان يتأمل كل الحيوانات الأخرى فى ما تفعل، ويحدد ردود فعل تلك الحيوانات عن الحب والكراهية والغيرة وخلافه، ولم يكن عمله انقطاعا عن الفن، بل كان اتصالا به ولكن بشكل آخر، وهذا يؤكد أن الفنان يستطيع أن يعيش حالته كيفما يشاء ووقتما يريد. وفى تلك الفترة أعلنت وزارة الأشغال عن مسابقة مسرحية، ولا تتعجب أيها القارئ من أن وزارة الأشغال هى التى تعلن عن ذلك، لأن دار الأوبرا فى ذلك الوقت كانت تتبع تلك الوزارة بوصفها بناية لا أكثر ولا أقل، وبالتالى فوزارة الأشغال هى التى تتولى رعاية أنشطتها، وتقدم مئات الشبان لتلك المسابقة، وينجح زكى طليمات الذى قام بدور لوريس إيبانوف أمام السيدة والممثلة العظيمة روز اليوسف، والتى قامت بدور فيدورا. وكان طليمات قد تزوج روز اليوسف، وبعد نجاحه استدعاه حسين سرى، سكرتير عام الوزارة، وسأله عن عمله، فرد عليه بأنه يعمل فى حديقة الحيوانات، فضحك سرى وقال له جملة ظلت ترن فى أذنه لزمن طويل: يعنى بتشتغل مع القرود.. اسمع أنت ممثل كويس، وهنبعتك تتعلم فى فرنسا! . وذهب طليمات عام 1925، وكانت فرنسا هى النور الذى يشع على العالم فى ذلك الوقت، وتعلم طليمات الكثير والكثير هناك، وعاد بحيوية شديدة، ليبنى المسرح المصرى، ويكون له الشأن الأول والعظيم فى ذلك المجال، وكانت من ميزات طليمات أنه لم يخلط الفن بالسياسة على الإطلاق، إلا فى الحدود التى تفرض نفسها، مثل هذا الموقف الذى تعرض له فى أعقاب عودته من بعثته الباريسية عام 1928 أمام أحمد لطفى السيد، وكان وزيرًا للمعارف فى ذلك الوقت فى وزارة محمد محمود الديكتاتورية، وكانت روز اليوسف -زوجة طليمات آنذاك- قد اعتزلت التمثيل وأسسّت مجلتها التى تهاجم الوزارة، ودار بين لطفى السيد وطليمات الحوار التالى: ■ هل تعجبك سياسة السيدة روز اليوسف؟ - أنا لا أفهم ألف.. باء السياسة. ■ مش شايف أنها ضد الحكومة؟ - كل واحد وله رأيه.. أنا متعلم فى فرنسا، وعرفت أن حرية الرأى لها احترامها، وإذا أرادت هى أن تغير رأيها وتقف مع الحكومة فهذا من شأنها. ■ أنت مسلم والرجال قوّامون على النساء. - أنا لا أعتقد أن هذا الكلام ينطبق على حرية رأى المرأة.. خصوصا إذا كان هذا الرأى فى السياسة. وبالطبع لم يعجب هذا الكلام سيادة معالى الوزير أحمد لطفى، فأنهى الاجتماع فورًا، ويبقى زكى طليمات نصيرًا للمرأة فى حياته وفى حياة الآخرين، ولذلك نجح فى إقناع الكويتيين فى ما بعد بظهور المرأة على المسرح.