صوتان يحسمان مقعد نقيب أطباء الأسنان بالقليوبية (تفاصيل)    المقاولون العرب تنتهي من طريق وكوبري ساكا لإنقاذ السكان بأوغندا    عز عامل مفاجأة.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 27-4-2024    حقيقة وقف خطة تخفيف الأحمال منتصف مايو.. مصدر بالكهرباء يكشف    رئيس شئون الأسرى: الاحتلال يواصل جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين    بيان مهم بشأن حالة الطقس ودرجات الحرارة اليوم السبت 27 أبريل 2024    إصابة ربة منزل إثر اشتعال النيران في شقة ب«مسجد الأنوار» بالإسكندرية (تفاصيل)    شاهد الفيديو الذي تسبب في شائعة طلاق مها الصغير وأحمد السقا    «الأسد يشعر بضيق تنفس».. 4 أبراج تكره فصل الصيف (تعرف عليها)    أزهري ينتقد تصريحات ميار الببلاوي عن طلاقها 11 مرة والأخيرة ترد في «بث مباشر» (القصة كاملة)    بيان عاجل من هيئة العلماء السعودية بشأن شروط الحج (تفاصيل)    أستاذ اقتصاديات الصحة: مصر خالية من الحصبة وشلل الأطفال ببرامج تطعيمات مستمرة    مسئول أمريكي كبير يزور لبنان.. تفاصيل    موعد مباراة بلدية المحلة وزد في الدوري المصري والقناة الناقلة    موقف محمد صلاح، تشكيل ليفربول المتوقع أمام وست هام في الدوري الإنجليزي    أسعار الذهب صباح اليوم السبت 27 أبريل 2024    بمشاركة 3 آلاف فرع ومنفذ، استمرار فعاليات مبادرة "كلنا واحد" لتوفير السلع بأسعار مخفضة    الإنترنت المظلم| كارثة اسمها "دارك ويب" بعد جريمة شبرا الخيمة البشعة.. ماذا حدث؟    سياسيون عن ورقة الدكتور محمد غنيم.. قلاش: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد.. النقاش: تحتاج حياة سياسية حقيقية.. وحزب العدل: نتمنى من الحكومة الجديدة تنفيذها في أقرب وقت    جيش الاحتلال الإسرائيلي يشن 25 غارة جوية على غزة خلال اليوم الماضي    10 معلومات عن أهمية الزيارة التاريخية المرتقبة للرئيس السيسي إلى تركيا    مواصلة الاحتجاجات في جامعة كولومبيا للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة|شاهد    علي جمعة: الشكر يوجب على المسلم حسن السلوك مع الله    هتنام بسرعة| 4 آيات حل رباني لمن لا يستطيع النوم ليلاً.. داوم عليها    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    اليوم .. الحكم في اتهام مرتضى منصور بسب عمرو أديب    انخفاض أسعار الدواجن اليوم 27 أبريل    تشكيل ليفربول المتوقع أمام وست هام.. صلاح ونونيز يقودان الهجوم    بورصة الذهب تنهي تعاملاتها الأسبوعية بخسائر تتجاوز 50 دولارًا | تقرير    إسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت ومركبات مدرعة ودبابات "ليوبارد" إلى كييف    وزير الري: الاستفادة من الخبرات العالمية فى استثمار الأخوار الطبيعية لنهر النيل    المتهم خان العهد وغدر، تفاصيل مجزرة جلسة الصلح في القوصية بأسيوط والتي راح ضحيتها 4 من أسرة واحدة    اليوم.. الجنايات تنظر محاكمة متهمي "خليه المرج"    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    دينا فؤاد: مسلسل "الإختيار" الأقرب إلى قلبي.. وتكريم الرئيس السيسي "أجمل لحظات حياتي"    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    حكم الشرع في الإسراع أثناء أداء الصلاة.. دار الإفتاء تجيب    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    وليد عبدالعزيز يكتب: السيارات وتراجع الأسعار    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    "اتهاجمت أكثر مما أخفى الكرات ضد الزمالك".. خالد بيبو يرد على الانتقادات    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    حضور جماهيري كامل العدد فى أولي أيام مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير .. صور    رسالة هامة من الداخلية لأصحاب السيارات المتروكة في الشوارع    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    قبل مواجهة دريمز.. إداراة الزمالك تطمئن على اللاعبين في غانا    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    يسرا اللوزي تكشف سبب بكائها في آخر حلقة بمسلسل صلة رحم.. فيديو    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجيب محفوظ.. «العائش في الحقيقة»
نشر في التحرير يوم 09 - 12 - 2014

103 أعوام على ميلاد نجيب محفوظ، ولم ينتهِ الحوار بعد حول أدبه الخالد، وجوانب حياته وآرائه التى تجسِّد حكمة المصرى القديم، وإبداعه المتجدد، ورغم مئات الكتب التى سوّدت عن نجيب محفوظ وأدبه ونقده وحياته، فإن ثراء التجربة المحفوظية وتعدّد جوانبها ومستوياتها دائمًا ما يغريان بالتعرُّض لها، ومقاربة جانب أو أكثر من جوانبها، تاريخًا وأدبًا وإبداعًا ونقدًا، سيرةً ورأيًا، التماسًا لحكمة أثبتت صوابها أو لرأى وجيه فى قضايا وإشكاليات ما زالت تفرض حضورها وتعانى منها مجتمعاتنا العربية والإسلامية. نجيب محفوظ بمعنى من المعانى يعد خلاصة مقطرة، صافية ومتجددة، لما قدّمته مصر للبشرية كلها، سجلًّا تاريخيًّا اجتماعيًّا أدبيًّا، يجد فيه كل مَن أراد بغيتَه وطلبَه، فأدبه ورواياته وقصصه تتسع للجميع، وترحّب بكل طالب، وتمنح نفسها راضية لكل باحث عن آفاق لا تحد من المعرفة الإنسانية.
أنام ملء جفونى عن شواردها.. ويسهر الخلق جراها ويختصم .. يكاد لا ينطبق بيت المتنبى الشهير على المتنبى نفسه قدر ما ينطبق على نجيب محفوظ. كان نجيب محفوظ صانع حكايات، و مُشيّد نماذج بشرية خالدة وضعته فى مصاف كبار كتاب الإنسانية، ومن أجل هذا وحده كانت له هذه المكانة الأدبية الرفيعة، ليس فقط فى تاريخ الكتابة العربية بل فى تراث الإنسانية الإبداعى كله.
كان محفوظ مؤمنًا بأن الأدب الذى لا يرتقى إلى مرتبة الشعر -حتى لو لم يكن منظومًا- ليس من الأدب فى شىء ، وانطلاقًا من هذه القناعة التى ظلّت راسخة وقارة فى وجدانه الأدبى والفكرى، أنجز نجيب محفوظ عبر مشواره الأدبى الذى امتد لما يزيد على ثلاثة أرباع القرن، أعماله الروائية والقصصية التى احتلت مكانها فى الأدب العربى، 55 كتابًا روائيًّا وقصصيًّا، وعددًا من المسرحيات وكتابًا مترجمًا، بالإضافة إلى الكتب التى جمعها عنه محبوه ودارسوه، وضمَّت مقالاته وحواراته وأحاديثه، وهى وحدها تشكِّل مكتبة ضخمة توازى كمًّا منجزه الإبداعى. جسَّد محفوظ فى إبداعه وحياته وسيرته وسلوكياته كل خصائص المصرى العريقة منذ فجر التاريخ التى يمكن إيجازها فى كلمة واحدة الأصالة ، بما تحتويه من تفرُّد وإحساس بتميُّز الشخصية المصرية وفطرتها السوية التى تنأى عن التطرُّف والهوس الدينى، وبما تحمله من حب للحياة وإقبال عليها، هكذا عاش نجيب محفوظ وهكذا كتب أعماله الخالدة.
موهبته ظهرت قبل ثورة يوليو.. وانتشر أدبه لنصف قرن بعدها
منذ ظهور نجيب محفوظ فى الساحة الأدبية فى أواخر ثلاثينيات القرن الماضى، وصعوده المدوى فى الأربعينيات، وإقبال النقاد على أعماله الروائية والكتابة عنها، وهو مثير للجدل بامتياز، وليس صحيحًا أن نجم محفوظ بدأ يظهر بعد قيام ثورة يوليو، ولكنه كان معروفًا ومؤثرًا، وواعدًا بشكل كبير قبل ذلك بسنوات، ويكفى قراءة الحفاوة النقدية من زاوية نقاد مرموقين فى تلك الفترة، واعتبار أن كتابات نجيب محفوظ تعتبر طفرة فى السياق الروائى المصرى والعربى، واستطاع هو فى سنوات قليلة أن يقفز من الصفوف الخلفية، ليصير فى مقدمة هذه الصفوف، وتنافس المجلات على نشر نصوصه، حتى تم احتكاره بشكل شبه مطلق لحساب مؤسسة الأهرام .
ولكن الذين أشاعوا أن نجيب محفوظ من إنتاج ما بعد الثورة، أو أن الثورة هى التى روجت له، لا يخفون أنه كان شديد الموهبة والسطوع، وأنه استطاع فى خلال أعوام قليلة أن يثبت جدارته فى ريادة فن الريادة بقوة، فقبيل قيام ثورة يوليو مباشرة، قرر نادى القصة الذى كان يرأسه يوسف السباعى أن يعيد نشر أعمال نجيب محفوظ، وكان محفوظ أحد المؤسسين لهذا النادى، وبدأ بالفعل عملية النشر هذه، ولكن قبل أن تشتعل الثورة، وقبل أن يشرع الضباط فى تسلم السلطة، وفى أول يوليو عام 1952 صدر العدد الثانى من سلسلة الكتاب الذهبى، هذه السلسلة التى كان يصدرها النادى، وكان هذا العدد عبارة عن رواية خان الخليلى ، من تأليف نجيب محفوظ.
وكان يوسف السباعى هو الذى قدّم لها بكلمة قصيرة فى الغلاف الداخلى، وبالفعل كانت هذه الكلمة، بمثابة ترحيب كبير بكاتب مبشر وجاد وله مستقبل عظيم فى الأدب المصرى، وهنا أنشر كلمة يوسف السباعى كاملة عن نجيب محفوظ، باستثناء الفقرة الأخيرة التى تتحدث عن القرّاء وعلاقتهم بالسلسلة، وأنا أنقل هذه الكلمة، لأنها ترصد بداية العلاقة بين محفوظ وثوار يوليو فى ما بعد، يقول يوسف السباعى: لم يسبق له النشر على نطاق واسع، أعنى أنه لم يتعود النشر فى الصحف الذائعة، ولم يطبع أيًّا من كتبه أكثر من ألف أو ألفين، فهو والحال كذلك قد قصر أدبه على الأدباء أو خاصة القراء، وكنت إذا ما قرأت له ثم تحدثت إلى الناس فى إعجاب عما قرأت تملكنى الضيق عندما أجد البعض لا يعرفه ولم يقرأ له.. وكنت لا أملك إلا التعريف به والإرشاد عن مؤلفاته فى حدود النطاق الضيق بالمحيط بى وإن كنت أتمنى فى قرارة نفسى أن أعرف به كل الناس وأرشد إلى مؤلفاته كل الناس.
وإنى لأشعر بغبطة وأنا أجد نادى القصة حقق لى الأمنية فقدم إليكم عشرات الآلاف من هذا الكتاب وعرّف به من لم يعرفه منكم، وأشعر أن النادى قد حقق بذلك بعض رسالته وهى تقديم الأدب لعامة القراء لأكبر عدد ممكن منهم، بل خلق جيلا جديدًا من القرّء لم يتعود القراءة من قبل... . أما فى الغلاف الداخلى الأول فقد جاءت كلمة عن محفوظ، لترصد بعض المعلومات عنه، مثل تاريخ ميلاده، والذى كان سائدًا فى فترة طويلة من الزمن، أنه من مواليد 1912، وتسترسل كلمة التعريف قائلة: ابتدأ كاتبا للأقصوصة فى مجلة الرسالة.. كتب قصصًا فرعونية فازت منها (رادوبيس) بجائزة قوت القلوب الدمرداشية، و(كفاح طيبة) بجائزة وزارة المعارف.. كتب قصصًا مصرية تصور الحياة فى الأحياء الوطنية تصويرًا دقيقًا، وفازت (خان الخليلى) بجائزة مجمع فؤاد الأول، وتعتبر قصة (زقاق المدق) من أبدع قصصه.. قصاص يمتاز بتذوقه للحياة المصرية، وتعمقه فى دقائقها.. يمتاز بين كتاب القصة بسعة اطلاعه على أصول الفن القصصى.. لم يتزوج بعد . وكانت بالفعل هذه البداية ترويجا واسعا لقيمة إبداعية وفنية وأدبية قائمة بجدارة، وكان نادى القصة الذى يضم فى مجلس إدارته طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وإحسان عبد القدوس، وغيرهم من الكتاب المرموقين، قد قرر بالإجماع إعادة نشر روايات محفوظ، وهذا اتكاء على موهبته الكبيرة التى بدأت تتقدم نحو الجمهور بخطى ثابتة.
وإذا كانت خطوة نشر أعمال نجيب محفوظ عبر سلسلة شعبية، قد لعبت دورًا فى التعريف به، والوصول بأعماله إلى نطاقات واسعة، كانت الخطوة الثانية، وذلك بعد قيام ثورة يوليو، هى نشر روايته بين القصرين مسلسلة على صفحات مجلة الرسالة الجديدة ، والتى كان يرأسها يوسف السباعى كذلك، وكان ذلك فى عام 1954، وكانت الرواية تنشر، مصحوبة برسوم شديدة الفنية للفنان الحسين فوزى، ولكن كان نادى القصة قد نشر له معظم رواياته الاجتماعية فى غضون عامين، فكانت روايات السراب و زقاق المدق و بداية ونهاية و القاهرة الجديدة فى متناول أيدى القراء.
واستثمارًا للجماهيرية التى يعشقها يوسف السباعى، ارتكب النادى أو يوسف السباعى فعلا فى غاية الحمق، وهو تغيير عنوان رواية القاهرة الجديدة ، إلى عنوان فضيحة فى القاهرة ، وهذا التغيير جاء لكسب قاعدة جماهيرية أو شعبية، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة، وهذا التغيير أغضب نجيب محفوظ جدا، ولم تكن هذه هى المشكلة الوحيدة التى سببتها رواية القاهرة الجديدة ، والتى تتناول أحداثها الحياة السياسية والاجتماعية فى ثلاثينيات القرن الماضى، وتطرح الشخصيات التى كانت منتشرة فى تلك المرحلة، ومنها نموذج الانتهازى البشع فى كل زمان ومكان، وهو شخصية محجوب عبد الدايم، والتى أصبحت من أشهر الشخصيات فى الرواية المصرية والعربية، وما إن يأتى أحد على ذكر هذا الاسم، إلا وتداعت مع ذكره كل أشكال الوضاعة والرخص، وعلى النقيض كانت هناك شخصيات أخرى، شاركت فى ثورة 1935 عندما كان الشعب المصرى ثائرًا، ويطالب باستعادة دستور 1923، هذا الدستور الذى كان نتيجة مباشرة لثورة 1919، وثمرة ناضجة لها، مهما كانت العيوب التى فيه، ولكنه كان الدستور الأعدل بين كل الدساتير التى صيغت حتى تلك الفترة. وصار نجيب محفوظ قيمة أدبية وفكرية وثقافية على المستويين العام والسياسى، رغم المشكلة التى أثارتها روايته أولاد حارتنا ، والتى نشرها محمد حسنين هيكل على صفحات الأهرام بشكل يومى عام 1959، وعندما تدخل البعض ووشى بأن الرواية فيها شىء من التجديف، وطالبوا بوقف نشر الرواية، تدخل عبد الناصر شخصيا للاستمرار فى نشرها، ولكن بعد اكتمالها فى الأهرام اجتمعت لجنة من وزارة الأوقاف، ضمت الشيخين محمد الغزالى والشيخ سيد سابق، وأقرت هذه اللجنة منع الرواية من النشر، وكانت اسم اللجنة لجنة الفتوى ، مع العلم أن الوزارة ليس لها علاقة بمصادرة الأعمال الفنية أو إقرارها، ولكن فزّاعة الفهم الخاطئ للأشياء هى التى جعلت الرواية رجسًا من عمل الشيطان، وظل هذا الرجس يطارد نجيب محفوظ، حتى بعد حصوله على جائزة نوبل، وهجوم أحد الإرهابيين الجهلة، ومحاولة اغتيال الكاتب العظيم.
إذن أصبح نجيب محفوظ محل اهتمام بالغ، فاحتفلت مؤسسة الأهرام بعيد ميلاده الخمسين، وحضر هذا الاحتفال أقطاب من الساسة والفنانين والكتاب والمفكرين، ورغم كل هذا الاحتشاد والاحتفال، فإن الدولة لم تستطع تمرير نشر الرواية، كأنها تريد أن تبتعد عن الشبهات، وأعتقد أن عدم نشر الرواية هذا، جعل من تجريم وتحريم الرواية فعلا بسيطا وعاديا، رغم شذوذ هذا الفعل بامتياز.
وظلت هذه الثنائية تعمل على كل المستويات، فالدولة والصحف والمجلات ومختلف أشكال الميديا، تقيم الاحتفالات من أجله، إلا الاقتراب من رواية أولاد حارتنا ، وتشاء الأقدار أن تكون هذه الرواية هى أحد الأسباب القوية لفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل.
ولكن المدهش أن الدولة المصرية القوية، والتى لم تستطع نشر الرواية، لم تكن وحدها هى المانعة لنشرها، ولكن نجيب محفوظ نفسه كان أحد الذين لم يوافقوا على نشر الرواية إلا بموافقة جميع الأطراف ورضاها، والأكثر إدهاشًا أن جريدة الأهالى التى تصدر عن حزب التجمع، نشرت الرواية فى خطوة شجاعة فى أحد أعداد الأهالى، إلا أن حشدًا من المثقفين والكتّاب أصدروا بيانا لتجريم نشر الرواية على هذه الصورة، رغم عدم موافقة كاتبها، والذى يقرأ البيان آنذاك سيندهش من صياغته، وسيندهش أكثر من الموقعين عليه، ولكن رفعت السعيد كتب مقالا ناريا آنذاك ضد هذا البيان وضد الموقعين عليه. ومن المدهش أن تنشر الرواية فى دار الشروق بعد مصادرتها لمدة أربعين عاما، وليكتب المقدمة والمؤخرة للرواية، اثنان من عتاة التيارات الإسلامية، وهما الدكتور أحمد كمال أبو المجد، والدكتور محمد سليم العوا، والاثنان يشيدان بالرواية، ويكتبان جواز المرور لهذه الرواية، إذن أين كان الخطأ؟ وأين كانت تكمن الجريمة؟ وعلى من تقع جريمة محاولة اغتيال نجيب محفوظ الذى لم يرفع رأس المصريين فقط بحصوله على جائزة نوبل بل إنه رفع رأس اللغة العربية جمعاء؟
هذا طرف من سيرة أعظم الكتاب والمبدعين العرب والإنسانيين، فى ذكرى ميلاده، والحديث عن نجيب محفوظ لا ينتهى ولن ينتهى، وإن كره الكارهون.
الحوارات المجهولة.. محفوظ يتمنى وجود الراديو فى عصر النبوة
على كثرة ما أجراه نجيب محفوظ من حوارات ولقاءات وأحاديث صحفية، إذاعية وتليفزيونية، التى تشكل فى مجموعها مكتبة ضخمة توازى إبداعه المنشور، فإن هناك من هذه الحوارات ما تسرب خارج دائرة الضوء، ووارته السنين، وانسحب من قائمة الحوارات واللقاءات المثبتة لنجيب محفوظ فى كل ما تم تدوينه أو تسجيله من ببليوجرافيات جامعة.
من هذه الحوارات المجهولة، أو النادرة، إذا جاز التعبير، ثلاثة لقاءات انفرد بإجرائها ثلاثة كتاب وصحفيين ونقاد من أجيال مختلفة، يعود أقدمها إلى عام 1988، وهو الحوار الذى أجراه الكاتب المسرحى والناقد الراحل ألفريد فرج، وفيه نقرأ كلاما لمحفوظ عن طبيعة المصريين وأهم ما يميزهم من خصائص أو سمات.
يقول نجيب محفوظ فى حواره مع ألفريد فرج: المصريون لطاف وأهل مودة.. يحبون الحياة ويعشقون مسراتها وبخاصة المسرات الحسية.. وفيهم شىء من طبيعة النمل.. ذلك هو دأب الواحد منهم.. وحتى لو لم تكن همته عالية.. إلا أنها همة متصلة باستمرار تثمر فى النهاية عملا ضخما.. ومن صفات المصريين العجيبة.. أنهم تمرسوا بالاستبداد.. وهم من أقوى الناس على كراهيته وعلى الصبر عليه.. إنهم يحتملونه كما يحتمل الشخص مرضًا مزمنا لا يحبه ولكن يصبر عليه.. يخيل لى أنهم من أكثر شعوب العالم إحساسا بالحاكم. وسبب ذلك أن الحاكم كان له دائما وفى كل العصور أثر فى كل تفاصيل حياتهم اليومية .
أما الحوار الثانى، فأجراه الكاتب والناقد القدير محمود عبد الشكور حول قصص نجيب محفوظ القصيرة، نشره عام 1990 فى دورية اليوم السابع التى كانت تصدر من باريس آنذاك، وربما كان الحوار الوحيد الذى خصص بأكمله عن إبداع محفوظ القصصى، صدره محمود عبد الشكور بمقدمة وافية وطويلة، نوعا ما، ألقى فيها ضوءا نقديا كاشفا على قصص نجيب محفوظ القصيرة.
فى هذا الحوار المهم، يقول نجيب محفوظ: إن الرواية من الصعب أن تقنع جريدة بنشرها، لأنك غير معروف، أما القصة الجيدة فمن السهل نشرها فى المجلات، وهذا ما نلاحظه الآن حيث أصبحت القصة القصيرة بابا ثابتا لا تخلو منه جريدة أو مجلة ، ويكشف محفوظ فى حواره مع عبد الشكور أنه بعد 1962، شعرت أننى أريد أن أكتب فى الجنس الأدبى (القصة القصيرة)، وأصبحت كتابة القصة القصيرة هدفا لى تماما مثل كتابة الرواية، وهذا ربما يفسر لك غزارة الإنتاج فى ما بعد فى المجموعات القصصية التى كتبتها فى الستينيات والسبعينيات وحتى الآن، كل ذلك بسبب انبعاث صادق فى نفسى لأهمية دور القصة القصيرة فى الأدب .
حوار ثالث، إذاعى هذه المرة، وهو من أجمل وأمتع حوارات محفوظ، أجرته معه الإذاعية القديرة نادية صالح، فى برنامجها الشهير زيارة لمكتبة فلان ، فعندما سألت نادية صالح أديب نوبل الكبير، عن الذى كان يتمنى نجيب محفوظ أن يراه فى عصره الأول وشبابه الباكر من مظاهر الحياة الحديثة وكشوفات العلم وابتكاراته مما رآه وعايشه وهو كهل كبير، أجاب نجيب محفوظ، قائلا:
عندما ظهر الراديو كان سحرا.. وعندما ظهر التليفزيون كان سحرا ثانيا.. أنا لا أتصور الدنيا بدونهما الآن، وكنت أتمنى أن لا يوجدا فقط أيام شبابى، إنما كنت أتمنى أن يظهرا ويوجدا فى شباب الإنسانية. وبخيال الروائى الفذ، المترع بالموهبة، المسكون بالعبقرية، يتساءل محفوظ عن: ماذا لو ظهر هذا الجهاز العجيب فى أزمنة غابرة من تاريخ الإنسانية، يجيب قائلا: كنا رأينا رأى العين النبى (صلى الله عليه وسلم) والصحابة كيف كانوا يصومون ويصلون.. لو كان هذا التسجيل موجودا لكان أغنانا عن أشياء كثيرة جدا وعن آراء كان الناس فيها تستنج وتخطئ، ولا تكاد تصل إلى يقين أو رأى واحد يتفق عليه الجميع! كنا رأيناهم رأى العين وسمعنا كلامهم بأصواتهم مباشرة دون وسيط أو ناقل.. تخيلوا لو كان هذا متاحا؟! .
لا أظن أن الأفكار التى طرحها محفوظ، فى حوارياته المسجلة، ومرت مرورا عابرا دون كثير اهتمام، قد طرأت على بال كثيرين من قبل!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.