طبعًا، لا نقاش فى ضرورة احترام نظم القضاء والعدالة التى اخترعها البشر عبر مسيرة التقدُّم والتحضُّر الطويلة، لكى تفصل فى نزاعاتهم وتحفظهم من شرور الفوضى وغلبة القوة على الحق، وتُنزل حكم القانون (المهم أن يكون القانون نفسه عادلًا) على الناس بغير تمييز ولا انحياز ووفقًا لأصول وقواعد وإجراءات يفترض أن تكون صارمة ومُحكمة بحيث توفِّر مقدارًا معقولًا من الضمانات الكفيلة بحفظ ميزان العدل من الاختلال ولئلا يجنح القضاة والمحاكم نحو الجور والظلم والعسف. غير أن هذا المبدأ الخطير (احترام القضاء وأحكامه) تقابله للأسف حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، خلاصتها أن النظم القضائية البشرية، لأنها كذلك فهى تخطئ وتنحرف أحيانًا وتصنع مآسى وظلمات قاسية جدا ترمى بثقلها الرهيب على الضمير.. مثال ذلك هذه الحكاية المروعة التى تناقلتها وسائل الإعلام العالمية قبل أيام عن رجل أمريكى أسود يُدعى ريكى جاكسون، أمضى 39 عامًا كاملة (أكثر من ثلثى عمره البالغ حاليا 57 عامًا) فى ظلام السجن وهو مهدَّد بتنفيذ حكم إعدام صدر ضده فى عام 1975 عقابًا له على جريمة قتل لم يرتكبها أصلًا.. لكن أخيرًا وبعد كل هذا العمر الطويل تنفَّس «ريكى» يوم الإثنين الماضى عبير الحرية الذى نسى طعمه، وقد ظهرت براءته بعدما تراجع شاهد وحيد (أسود أيضًا) عن شهادته القديمة التى استند إليها حكم الإدانة!! أما تفاصيل هذه المأساة المروعة فهى لا تقل ترويعًا، إذ إن ملخص القضية أن شابا أبيض عُثر عليه مقتولًا فى الشارع وجثته مشوَّهة بمادة كيميائية، ولم تضع الشرطة وقتًا قبل أن توجِّه بسرعة أصابع الاتهام إلى ثلاثة شباب صغار سود يسكنون المنطقة التى وقعت فيها الجريمة، من بينهم «ريكى جاكسون»، ثم جلبت طفلًا زنجيا يُدعى آدى فيرنون (كان عمره 12 سنة) وجعلته ينطق فى التحقيق وأمام المحكمة بأنه رأى الشبان الثلاثة يرتكبون جريمة القتل، وقد فاز اثنان من هؤلاء الثلاثة بالبراءة، بعدما أمضيا سنوات فى السجن وبقى ريكى وحده يكابد قسوة الظلم أغلب عمره. الشاهد فيرنون (عمره الآن 51 عامًا) بدأ رحلة التراجع عن شهادته المزوَّرة من اعتراف أدلى به أمام كاهن فى إحدى الكنائس، كاشفًا عن السر الذى أدمى ضميره على مدى سنوات وعقود، وأسر فى الكنيسة بأنه لم يرَ أبدًا ريكى جاكسون يقتل، بل لم يكن قد عرفه ولا رآه أصلًا فى حياته، وأن أول مرة وقعت عيناه عليه كانت فى التحقيق وفى أثناء جلسات المحاكمة!! أما التبرير الذى قاله فيرنون وهو يبكى بكاءً مرًّا فى المحكمة التى نظرت تراجعه عن شهادته القديمة وأصدرت بناءً على ذلك حُكمًا متأخِّرًا جدا ببراءة «ريكى»، فهو أنه وقت المحاكمة الأولى كان طفلًا صغيرًا فقيرًا وأسود البشرة، ولم يتلقَّ أى تعليم، فإذا به يواجه ضجيجًا وضغطًا هائلين من الإعلام ومن الشرطة معًا، لأن رجلًا أبيض مات مقتولًا.. وهتف متسائلًا بحزن: «أيها السادة.. هل كان بوسع طفل فى الثانية عشرة من عمره أن يصمد أمام صراخ رجال شرطة أشداء وغاضبين فى وجهه، ويقول لهم إنه لم يرَ ريكى وزميليه يقتلون ذلك الشاب الأبيض؟!». اقتنعت المحكمة بأنه لم يكن أمام هذا الطفل البائس إلا أن يستجيب للضغط ويدلى بالشهادة الزور التى ضيعت عمر «ريكى جاكسون»!! يبقى أن هذه الحكاية الحزينة التى تفضح المآسى الناجمة عن أخطاء العدالة، ليست نادرة فى النظام القضائى الأمريكى إذ تشير الإحصائيات إلى أن عدد الحالات التى انكشف فيها الظلم وحصل أصحابها على أحكام بالبراءة بعد عقود وسنين طويلة من انتظار الإعدام أو تنفيذ حكم الموت فعلًا، بلغت فى العقود الأربعة الأخيرة 148 حالة، أسوؤها وأطولها ما أصاب المسكين «ريكى». طيب، هل لهذه القصة علاقة بما يُثار أحيانًا بشأن حال العدالة ببلادنا الآن؟! الإجابة: نعم، والله ولى التوفيق.