عندما كنت طبيبا صغيرا فى ريف المنيا كنت أستيقظ فجرا، أقف أحيانا فى شرفة الوحدة الصحية على أطراف البلدة، أشم أنفاس الصباح الندية، حيث السكون بلا حد والأرض راقدة تحت طبقة من الندى الشفيف، ثم يبدأ موكبهم الصباحى فى الزحف، طابور طويل من فلاحى القرية ونسائهم وعيالهم وحيواناتهم، يسيرون جميعا من القرية الهاجعة تحت النخيل، يتجهون إلى الأرض التى تنتظرهم، يسيرون فى صمت مهيب جدير بالمهمة التى يسعون إليها، مهمة الغرس والزرع، هكذا يبدأ كل يوم من أيام التقويم المصرى مبكرا لأن هذا هو الوقت المناسب لغرس البذور حين تكون أرحام الأرض طرية مهيأة للإخصاب، وهو وقت الرى لتهبط المياه الباردة على جذور الزرع المستكينة دون أن تحرقها، هذا هو الوقت الذى وهب الحياة لهذا الوادى على مدى آلاف السنين، موكب صغير وصامت يكسوه البؤس أحيانا ويحركه الجوع غالبا، ولكنه كان دائما وسيظل أهم من طوابير جيوش الفاتحين، ومن استقبالات الملوك والرؤساء، فالفلاحون هم مادة البعث الأول، ينهضون بعد كل وباء فيدفنون موتاهم، ويبقون رغم كل فيضان ليحرثوا أرضهم، ويصمدون بعد كل غزو ليضمدوا جراحهم. دامت مصر وبقيت لأن الفلاح ظل محافظا على جذوة الحياة بداخلها، يلعب مع القدر والطبيعة لعبة الموات والبعث. لكنه الآن لا يعيش فى أفضل أيامه، وربما كان يعيش أسوأها على الإطلاق منذ عهد الفراعنة، فهو محاصر، مهدد بالإفلاس من جهة، ومن تبوير أرضه من جهة أخرى، ويوشك أن يهجر أرضه ومهنته، ولحظتها لن يجوع وحده، ولكننا سنجوع جميعا معه، فهو السند الرئيسى فى تلك الظروف الصعبة، ولو تخلى عنا فلن يقف أحد بجانبنا، ولكنه يقاسى كثيرا بسبب السياسات الحكومية المتضاربة، ومن الأخطاء التى تُرتكب فى حقه، فالمسؤولون يخدعونه دون رحمة، ويوجهون إليه ضربات تجعل حياته صعبة، فبعد أيام قليلة من الاحتفال بهذا العيد الوهمى المسمى عيد الفلاح، ورغم وعود أكبر المسؤولين بتحسين ظروف حياته، فوجئ بزيادة سعر الأسمدة إلى 33% فوق سعرها المرتفع أصلا، لم يبالِ أحد بشكواه من ارتفاع سعر الأسمدة، وكيف أنها تتسلل من الجمعيات الزراعية لتباع فى السوق السوداء بأسعار مضاعفة، وبدلا من أن تدعمه الحكومة وتساعده فوجئ بها تتحالف ضده مع أصحاب المصانع وحفنة من التجار الجشعين تحت شعار خادع أنها تعمل من أجل توفرها دوما. وقبل أن ترتفع الأسمدة ارتفعت أسعار السولار وأصبحت إدارة ماكينات الرى عملية باهظة الثمن، ووسط التهليل الذى صاحب رفع الدعم عن المحروقات والشماتة فى أصحاب السيارات التى تنهب أسفلت المدن، ولم يتذكر أحد ماكينات الفلاحين التى يجب أن تدور قبل أن يموت الزرع عطشا. وقبلها كان وزير الزراعة الأسبق، وقد ابتلانا الله حقا بسلسلة مخزية من وزراء الزراعة، قد طالب الفلاحين بزيادة زراعات القطن الطويل التيلة الذى كان العالم يتهافت عليه قديما، وذلك حتى يصدره ويستورد بدلا منه القطن القصير التيلة الذى تستخدمه معظم المغازل المصرية. وأطاع الفلاحون أحلام الوزير، رغم أن القطن من الزراعات المكلفة والتى تجهد الأرض، ولكن الوزير فقد منصبه فجأة لسبب غير معلوم، وجاء وزير آخر ليسحب وعود الذى سبقه ويترك القطن مثل مقلب ساخن ليشربه الفلاحون. خدعة حكومية أخرى كلفتهم غاليا، حتى إن البعض منهم أحرق الجَمْعة الرابعة للقطن وهى ما زالت فى الأرض. وقبلها أيضا تلقى الفلاحون أكثر من وعد حكومى بأن يتم إسقاط الديون الموجودة على صغار المزارعين حتى يتحرروا من عبء فوائدها، وحتى الآن لا يبدو أن هذا الأمر قد تحقق، وما زال هناك نحو 300 ألف فلاح يعانون جميعا من كابوس الحجز على أرضهم لحساب بنك التسليف. وقبل ذلك ودائما، هناك مشكلات البذور التالفة التى تفرض عليه وتفسد زراعته، الكيماويات والمبيدات المسرطنة التى تسمم أولاده وبهائمه دون أن تؤثر على الآفات، فى مقابل ذلك فكل دعم كان يقدم إليه كان يضيع، يتبخر وسط دهاليز الفساد الحكومى، فالفلاح محاصَر بعدة كيانات وهمية تدّعى أنها تحميه وتدافع عن مصالحه ولكنها لا تفعل أكثر من أنها تستغله، هناك اتحاد تعاونى مركزى يمثل أكثر من ستة آلاف جمعية زراعية، لا يفعل شيئا غير أن يتقاضى منهم الرسوم، ويحوّلها إلى بدلات وحوافز لموظفيه مكافأة لهم على إصدار القرارات الخاطئة، ماذا كان يمكن أن يفعل بهم المماليك أكثر من هذا؟ ملكية الفلاح للأرض هى مجرد ملكية اعتبارية، فهو يزرع من أجل الآخرين، وكلما زادت غَلَّته كان هذا فى صالحنا نحن، لأن محصوله سريع التلف ولا يستطيع أن يخزّن منه إلا القدر اليسير وعليه أن يبادر ببيعه سريعا، والأسعار التى يبيع بها متدنية دوما لأن فارق الأسعار الضخم يذهب إلى جيوب التجار، وكل قرش يكسبه يعيد استثماره مرة أخرى داخل البلد، عليه أن يعمل حتى آخر لحظة من عمره لأنه لا يملك معاشا، وأن يموت واقفا على قدميه لأنه لا يملك تأمينا صحيا، الفلاح المصرى على وشك الانقراض، وإذا لم تتدخل الدولة لإنقاذه وتكفّ عن إيذائه فسوف نفقد الظهر الذى نرتكن إليه، سنفقد خط دفاعنا الأخير.