تمسح «هانم» ببطن يدها سطح المرآة، وتفتش عن أحلامها الرومانسية فى مستقبل يتجاوز طموحات هدى شعراوى، وحفلات سيدات العمل الخيرى الباحثات عن دور فى مجتمع لا يزال يفرك عينيه بعد نعاس طويل. ابنة حى الحسين الشعبى تحارب معركتها مع «الأميرة ذات الهمة» ورومانسيات «ست الحسن»، تريد أن تكون مثل بطلات الروايات التى تقرأها، لمَ لا؟ فهى تجيد القراءة رغم أنها لم تذهب يومًا إلى أى مدرسة، لقد تعلمت بالحب والتطلع، تعلمت بمحاكاة أخيها سلام، كانت ذكية وراغبة، تجلس بجوار سلام بالساعات لتحفظ كيف يشكل الحروف بأصابعه وينطقها بلسانه، وبعد أن أجادت القراءة قرأت كل ما لديه من دواوين الشعر والروايات. رسمت صورة فارس الأحلام فى الخيال، أفندى طويل، وسيم، أنيق، يجيد الإنجليزية تتعلق بساعده ويصحبها إلى مسرح جورج أبيض، مثل هوانم الطبقة الراقية، أليست «هانم» حتى ولو بالاسم؟ ذات صباح، دخل عليها والدها الحاج عبده ليبلغها بقدوم العريس، احمر وجهها خجلا، فابتسم الأب وقال: تاجر غلال على خلق يتعامل معى منذ سنوات وأعرفه جيدا، يعيش فى قرية باسوس بمحافظة القليوبية، لم تكن مواصفات العريس تروق لها، كانت بعيدة تماما عن أحلامها، لم يكن لديها رد، فصمتت، اعتبر الأب أن السكوت علامة الرضا، وبارك لها مقدمًا. هبت هانم واقفة وهى تقول لوالدها بخجل: بس أنا مش عايزة أبعد عنكم يابا، أنا مش هاقدر أعيش بعيد عنكم فى بلد تانية. قال الأب: اللى فيه الخير يقدمه ربنا، وعزم أمره على مناقشة حسنين فى هذا الأمر، واتفق معه أن يعيش مع هانم فى بيت العائلة قرب الجامع الأزهر، وأبلغ هانم بذلك، فارتاحت قليلا، وتم الزواج من تاجر الحبوب الريفى الذى لا يقرأ ولا يكتب. ومع العِشرة اكتشفت هانم مدى طيبة حسنين، واحترامه لها، حتى إنه كان يستمتع بحديثها، ويجلس معها بالساعات وهى تقرأ له الكتب والروايات والجرائد، وتستمع له وهو يحكى لها عن تذبذب أسعار الغلال، وكيف ارتفع سعر إردب الفول فربح من ذلك جنيهًا كاملًا، لم تكن هانم صاحبة عصمة، لكنها كانت صاحبة طموح وهدف فى الحياة، وعرفت كيف تؤثر فى حياة زوجها بحكمتها وأدبها وثقافتها. وفى ليلة خريفية معتدلة من شهر سبتمبر، استيقظ أهل البيت على صراخ هانم، فقد جاءها المخاض فجرًا، ساعات قليلة وانطلقت زغرودة مصحوبة بصيحات الداية والنسوة فى بيت الحاج عبده «ولد... ولد».. هتسموه إيه؟ محمد بإذن الله، على اسم سيد الخلق، جد سيدنا الحسين. كان محمد أول فرحة لأمه، كبر الرضيع، وبدأ يجلس فى مندرة الجد الحاج عبده سلام ليحفظ القرآن على يد الشيخ قاسم مع أطفال العائلة، وكلما كان يحفظ سورة يمنحه جده قرش صاغ بحاله، أو قطعة حلوى، فيعود لوالدته مبتهجًا ويضع فى كفها القرش، كانت هانم تحتضن ابنها، وتمسح على شعره، وتطبع قبلة على خده، وهى تقول له بحب: شاطر يا محمد، عارف يا محمد أنا نفسى تبقى أفندى تلبس بدلة شياكة وتشتغل فى الحكومة، يارب يا ابنى تفرح قلبى، وتعزنى فى كبرى. كان محمد يتمنى أن يكبر سريعًا ليحقق أمنية أمه ويسعدها. حياته فى بيت جده لم تكن ميسورة ولا ناعمة ولكنها مستقرة، كان جده يصطحبه معه إلى مجالس القرآن التى تضم علماءً وقراءً من أمثال الشيخ على محمود، والشيخ على حزين والشيخ محمد رفعت، والشيخ عبد الفتاح الشعشاعى. كان محمد يضيف على تلك الجلسات الكثير من التفاصيل من وحى خياله، وحين يقصها على أقرانه تصبح أسطورة، فلقد ورث عن أمه أسلوبها الساحر فى الحكى. والده كان مشغولا بالتجارة وأكل العيش، أولاده الكبار من زوجته الأولى صابحة لم يدخلوا مدارس فكانوا يعاونونه فى تجارته، ولكن هانم كانت حاسمة معه: «ولادى لازم يتعلموا»، وافق الأب على تعليم محمد فى الأزهر، كان ذلك أقصى ما يفكر فيه، لكن هانم كانت تفكر فى التعليم الحديث والمدارس الأميرية، وما إن سافر والده حتى سارعت بالاتصال بشقيقها ليساعدها فى تقديم أوراق محمد لمدرسة خليل أغا. لم يكن لدى هانم ما تدخره، رغم ذلك استطاعت أن توفر مبلغًا من مصروف البيت، كانت تريد لابنها أن لا يكون أقل من زملائه، أخذته وذهبت به إلى دكان فى وسط البلد اسمه «بلاتشى» لشراء بدلة المدرسة، وجلس التلميذ الصغير متأنقا بين زملائه فى سنة أولى بمدرسة خليل أغا الابتدائية. عرف محمد أهمية اليونيفورم، وكيف أنه يجب دائمًا أن يحافظ على مظهره، فهو جزء من الصورة التى حرصت الأم عليها، ولقد ظل حريصًا على أناقته وارتداء البدلة، بعد ذلك وطوال حياته. فضل محمد مدرسة التجارة المتوسطة حتى ينهى الدراسة سريعًا ويساعد أسرته، انتقل من عمل إلى آخر، حتى وصل إلى جريدة «الإيجبشن جازيت»، ومنها إلى مجلة «آخر ساعة» التى كانت بداية رحلة النجاح والشهرة. مرت السنوات، وكبرت أمنيات «هانم»، فقد نبتت أجنحة الأحلام وحملت محمد إلى أعالى السماء بين نجوم الصحافة والسياسة فى العالم، لف بقاع الأرض، وقابل الملوك والرؤساء والسفراء، وأصبح أشهر من نار على علم.. محمد الصغير صار كبيرا احتفل أول من أمس بعيد ميلاده الحادى والتسعين.. إنه الأستاذ محمد حسنين هيكل.. الصحفى الأسطورة.. ألف رحمة وتحية للأم العظيمة صانعة الأسطورة.