يوسف الشارونى هذه الرواية جمالها في بساطتها : أسلوباً وموضوعاً. الأحداث والشخصيات تتحرك بين القرية والمدينة ، وهي في روايتنا القاهرة. ومحور الرواية بطلتنا بركة التي ليست لها أخوات إنما قريبات وزميلات وصديقات ، واتخذت المؤلفة منها عنوانها لروايتها من تيتمها في طفولتها حتي وفاة والدها وزوجة والدها في حادث. وهكذا تنتهي روايتنا التي تسير أحداثها كأنما في خط ينتهي بما بدأت به وهو الموت ، بدأت بموت أم بركة فكفلتها جدتها وخالها ، وانتهت بمصرع أبيها وزوجة أبيها في حادث فكفلت بدورها أخويها الصغيرين من زوجة أبيها معلنة ربنا لا ينسي أحداً (كوثر عبد الدايم ، بركة وأخواتها ، سندباد للنشر والتوزيع ، القاهرة 2010 ، ص234) ، وبين تلك البداية والنهاية تروي لنا المبدعة كوثر عبد الدايم تطور بطلتها من الطفلة حتي الزوجة لتكون محور روايتها معبرة عن وضع المرأة المهمشة لاسيما في الطبقات المتواضعة التي تعيش بين ريفنا والمدينة. وتفتتح المؤلفة روايتها بتعريفنا بالبيئة التي تعيش فيها بطلتنا بعد أن نقلها والدها حسين أفندي من القاهرة التي كانت تعيش فيها معه إلي قرية كفر عنتر التي لا تبعد كثيراً عن القاهرة ، لتعيش فيها مع جدتها بهانة ، أم أمها والشيخ أحمد نسيب والدها وابن عمته . وتقدم لنا المؤلفة عالم القرية المصرية بما يغلب عليه من فقر اقتصادي وفكري ، فقد وقع اختيارها علي أسرة غير ميسورة ، فهي لا تملك أرضا وكل دخلهم من دكان صغير يبيع فيه الشيخ أحمد حلوي للتلاميذ والأطفال وبعض الأدوات المدرسية إذ كان قريباً من المدرسة الابتدائية. ورغم أن هوايته كانت القراءة إلا أنها في مستوي فقره الاقتصادي إذ كان كل اهتمامه بعالم الجن والعفاريت. وهذا هو الفقر الفكري لأمثال الشيخ أحمد الذي لا ينمو إلا في بيئة تعاني بدورها فقرا فكرياً حيث إن أهل القرية في المقابل يعتقدون أنه وضع يده علي سر تسخير الجن (ص6) سواء لطلب متعة أو الإضرار برجل أو امرأة ما دام هناك مقابل مجز ، ومع ذلك فإن هذا السر الذي وضع به يده عليه لم يمنع وفاة زوجته. أما حسين فقد عاد إلي منزله بالقاهرة حيث كان يعمل في ورشة خراطة يشكّل منها قطع الحديد علي النحو الذي يريده صاحب الورشة طبقاً لتعاقده مع التجار. وكان حسنين حاذقا في مهنته حتي أطلقوا عليه حسنين صلب . وتبدأ مبدعتنا في تعريفنا بمستوي العلاقات الاجتماعية في ريفنا المصري ، فالشيخ أحمد يلقن ابنه عبد الحليم وهو يكبر بركة بسنتين أو ثلاث أي أن عمره لا يزيد علي ثماني سنوات ومع ذلك فإن والده يأمره ألا يلعب معها ولا يخاطبها إلا لضرورة ، وفي المقابل فإن الجدة أوصته أن تعتبرها أختك وتساعدها إذا طلبت المساعدة ، وأذاب حديث الجدة تعليمات الأب الصارمة (ص7) مما يدل علي أن تعليمات الذكورة الريفية تختلف عن توجهات الأنوثة الريفية ، وأن التوجهات الأخيرة تقاوم الأولي ولا تستسلم بها . ثم تطلعنا مبدعتنا علي طقس مكاني هو ما تطلق عليه صناعة الخبز في الريف ، وتفضيل الريف في ذلك الوقت وقبل وصول المياه النقية في المواسير علي الشرب من مياه النهر التي تجلبها تفاحة وتصبها في الزير ، كما تحطينا علما بما تفطر به أبناء هذه الطبقة : العسل الأسود والجبن القريش لكن التركيبة السكانية لريفنا المصري لا تنحصر في تلك الطبقة المتواضعة، إذ لا تلبث مبدعتنا أن تطلعنا علي الطبقة المقابلة : العمدة وزوجته وقضاياهم التي تعتبر ترفا لا تعرفه الطبقة المقابلة ، فزوجة العمدة قلقة لأن زوجها يتودد إلي إقبال إحدي مدرسات المدرسة الابتدائية. مشاكل تتفق وتلك الطبقة التي يؤهلها مستواها الاقتصادي لمثل هذا النوع من القضايا . ولقد كان الشيخ أحمد نسيب حسنين ابن عمته ووالد بركة هو همزة الوصل بين هاتين الطبقتين. فقد لجأت إليه زوجة العمدة لإفساد العلاقة المحتملة بين زوجها والمدرسة إقبال وذلك عن طريق تسخير الجن لتنفيذ هذه المهمة نظراً لاهتمامه بعالم الغيب والجن والعفاريت . وتقدم لنا مبدعتنا صورة من الداخل للأسرة من هذه الطبقة ، فرأفت أحد الابنين يعلن أنه عائد إلي مسكنه بالقاهرة حيث تخرج من جامعتها ليري أصدقاءه ، بينما تتصل الابنة بأمها من المدينة الجامعية بالقاهرة تبلغها أنها لن تحضر هذا الأسبوع لإنشغالها بعمل بحث ، ولم يبق إلا عصام الذي يلاحظ العمال في الأرض ، أما إحسان هانم فتقترح علي زوجها العمدة أن تقيم مشروعاً صناعياً يخدم القرية ويستثمر عائد الأرض (ص13) . ثم تصبح بركة تلميذة في المدرسة الابتدائية ويتسع عالمها عن الجدة والخال والعم لتصبح لها صديقات بالمدرسة وتعي معني اسمها بركة من القول خير وبركة ص18) ويتزوج حسنين والد بركة وتنجب زوجته توءمين مني ومحسن(ص22). ثم تطلعنا المبدعة علي عقلية قطاع من أهل الريف بالنسبة للمرأة حين نقرأ أن إسماعيل رغم أنه حاول بكل طاقته أن يتعلم أولاده لكنهم خذلوه ، بعد أن أخرج بناته من المدرسة رغم أنه متعلم ومعاه البكالوريا لكن عقليته كأي فلاح آخرة البنات الزواج(ص25). لهذا فإن بركة لم يزعجها أن تتوقف عن الدراسة بعد الابتدائية. ليس هذا فقط في العقلية الريفية المتواضعة ، بل حتي عند تناول الطعام تحرص مؤلفتنا علي أن تذكر لنا أن الخال كان يأكل إما قبلهم أو بعدهم هكذا تعود(ص27). كما نقرأ أن إسماعيل عم بركة يملك عشرين فداناً كتبها لأبنائه الذكور ومنعها من الإناث(ص28). ونغادر الواقع إلي الفانتازيا التي تطعَّم بها مؤلفتنا روايتها تعبيرا عن عالم هؤلاء البسطاء الذين يتشكل عالمهم الذي يعيشون فيه من هذا المزيج الواقعي والفانتازي حين تقرأ أن الشيخ أحمد الذي يستعين بالجن في معاقبة البشر ومكافاتهم قد تزوج الجنية هاموش تراني لكن غيرك لا يراني(ص30). بينما بركة أصبحت علي عتبة الشباب واقتربت من نهاية مشوار المدرسة الابتدائية (ص30) وكأية فتاة مراهقة رأت في عبد الحليم ابن خالها فارس أحلامها (ص31). ولا تنسي كوثر عبد الدايم الكرم الريفي عند حصاد البرتقال وإرسال إسماعيل أقفاصاً من الجريد ملأي به لإهدائها لأقربائه ومعارفه ومن بينهم عمه عبد الرحمن بالقاهرة والد بركة . كما تطلعنا علي جانب من الحياة الخاصة لمدرَّستنا إقبال حين نعرف أنها كانت خطيبة لضابط الجيش حسام الذي استشهد في الحرب مما سبب لها كارثة جعلتها لا تفكر في الارتباط بغيره. وبتلك الإشارة عرفنا أن أحداث روايتنا وقعت في السبعينيات أو بعدها من القرن الماضي . أصّرت بركة علي زيارة والدها في القاهرة وقد أصبحت في الثانية عشر من عمرها ، ويدهش القارئ كيف توافق الجدة علي ذلك لمجرد أن سكن عبد الرحمن عم بركة ليس بعيداً عن محطة أوتوبيسات السفر بالقاهرة ، علي أن يوصلها عبد الرحمن إلي بيت إبن عمه أبيها حسنين. وفي القاهرة شاهدت التليفزيون لأول مرة لأن الكهرباء لم تكن قد وصلت بعد إلي قريتها ، كما زارت حديقة الحيوان ، وفي بيت أبيها رأت أخويها التوأمين ووالدتهما زوجة أبيها . وتتطور بركة حين تدرك ذات يوم أنها أصبحت امرأة ، بذلك وكمعظم فتيات طبقتها المصريات تعلن كاتبتنا أن بطلتنا بهذا التطور الأنثوي فقدت حريتها كطفلة. وفي مقابل هذا التطور السلبي علي المستوي الشخصي كان هناك تطور آخر إيجابي علي مستوي القرية وهو الاستعداد لوصول المياه النظيفة عن طريق تركيب المواسير وإعداد دورة المياه والمطبخ . أما بركة فقد جعلت تقارن بينهما وبين صديقتها عزة التي تكمل تعليمها ، أبوها موجود ميسور الحال وأمها في صحة جيدة لا تحتاجها لأعمال البيت. أما هي فلها الله ليس أمامها إلا الزواج. هي تعرف أنها مجرد أن تصل إلي سن الزواج سوف يزوجها أبوها أو خالها لأي رجل ، ربنا يستر. (ص70) بينما استعد البيت لإدخال المياه والكهرباء أي أن هناك تخلّفا في التطور الاجتماعي في مقابل تطور حضاري في وسائل المعيشة من جهة أخري تتطور الأمور بوفاة بهانه جدة بركة (ص87) وفي الصباح كانت بركة تهرول خلف أبيها حاملة صرّة بها ملابسها مع والدها حسنين إلي حيث يعيش مع زوجته وابنيه الصغيرين فلم يكن هناك داع لأن يتركها في القرية بعد وفاة جدتها (ص90) . وأود أن أنهي كلماتي بثلاث ملاحظات : أولها : أن الشخصيات مقدمة في روايتنا تقديما مميزاً بأبعادهم العمرية وسلبياتهم وإيجابياتهم ووظائفهم وعقلياتهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض ودرجات القرابة أو الصداقة أو العداوة إن وجدت ... إلخ . ثانياً : الكاتبة تأخذ راحتها في الحوار فهو أحيانا خليط من الفصحي والعامية في الحوار الواحد ، مثال ذلك تسأل بركة : والعيش الفينو الجدة : ما له ؟ بركة : أتصنعينه أيضاً (ص9) . مثال آخر : ابتسم إسماعيل قائلاً : يمكن أنا مطمن علي وداد في بيت زوجها . قالت الزوجة : لسه بدري لازالت صغيرة . قال إسماعيل في ابتهاج : لقد طلبها أخي مصطفي لابنه عبد الله . قالت الزوجة : عبد الصمد ولد كويس كما أن أخلاقه كويسه ، عقبال أخواتها في حياتك (ص47) . وبينما هناك حوارات كلها بالفصحي هناك أخري كلها بالعامية مثل الحوار الذي دار بين عبد الرحمن وابنته عفاف ، واشترك في الحوار الحاج إسماعيل (ص67). ثالثاً : هناك أكثر من خطأ بين مطبعي ولغوي ، وهذه مسئولية الناشر صديقنا خليل الجيزاوي وقد بلغت هذه الأخطاء 85 خطأ وهو رقم بالغ . وختاماً فإنني أهنئ مبدعتنا كوثر عبد الدايم وأتمني لها مزيداً من الإبداع مستفيدة من ملاحظات قرائها .