للنشطاء السوريين قول مأثور منذ منتصف القرن الماضى، وهو «مصر اليوم.. سوريا غدا»، فى إشارة واضحة إلى أن ما يحدث فى مصر، سرعان ما تتأثر به سوريا. وعكست الأشعار والأغانى والترانيم الشعبية نفس هذا القول المأثور، منذ قصيدة أمير الشُّعراء أحمد شوقى، تضامنا مع انتفاضة الشعب السورى ضد الاحتلال الفرنسى لبلاد الشام، التى تبدأ ببيت أصبح يحفظه ويتغنى به كل مُناضل من أجل الحُرية للأوطان، والكرامة للشعوب، والذى تقول كلماته: سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ/ وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ جَزاكُمْ ذُو الجَلالِ بَنِى دِمَشقٍ/ وَعِزُّ الشَرقِ أَوَّلُهُ دِمَشقُ وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ/ بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ إِذَا مَا جَاءَهُ طُلاَّبُ حَقٍّ/ يَقولُ عِصابَةٌ خَرَجوا وَشَقّوا دَمُ الثُوّارِ تَعرِفُهُ فَرَنسَا/ وَتَعلَمُ أَنَّهُ نورٌ وَحَقُّ كتب شوقى هذه القصيدة العصماء منذ نحو ثمانين عاما، ولكن كلماتها تصف نفس المشهد الدامى لسوريا اليوم مع فارق واضح ومُخجل. وهو أن الاحتلال الفرنسى كان أرحم بالشعب السورى من حاكم سوريا المُستبد بشار الأسد. ولا يمكن تفسير تلك القسوة بإحساس الحاكم بعدم الانتماء لشعبه، أو أسوأ من ذلك عدم انتماء الشعب لنفس الوطن، أو فى كلمات أخرى أن الرجل والشعب ليسا من نفس الأصول، وربما يكون ذلك لأن الانتماء «الإرثى» الأول لآل الأسد ليس للشعب السورى، أو حتى للأمة العربية رغم أن صعودهم السياسى كان مُرتبطا بهذا «الادعاء». فكيف كان ذلك؟ ينتمى آل الأسد وأخوالهم من آل مخلوف إلى الطائفة «العلوية النصيرية»، وهى فرقة دينية هاشمية من فرق المذهب الشيعى، أحد المذاهب الثلاثة الرئيسية للإسلام وهى السُّنة، والشيعة، والخوارج. وخلال القرون الثلاثة التالية لظهور الإسلام تفرّع كل من المذاهب الثلاثة، إلى فرق، وكل فرقة إلى جماعات. وكانت الأصول، أى قيادات المذاهب الثلاثة فى البداية، تستنكر أى مجموعة تخرج عن طوع قادة المذهب، وبنفس المنطق كانت كل مجموعة تستنكر كل من وكل ما يتفرع عنها. وأحيانا كانت تنشب صراعات عقائدية، بل وحروب طاحنة بين الأصول، ثم بين فروع الأصل الواحد. وضمن تلك الصراعات والحروب عدم الاعتراف بشرعية إسلام أى من فروع الفروع، بل واحتقار هذه الفروع بعضها لبعض. وكانت الفرقة التى ينتمى إليها آل الأسد فى شمال غرب سوريا، قُرب مدينة اللاذقية، تُسمى «النصيرية»، وهى، كما سبقت الإشارة، أحد فروع المذهب الشيعى، الذى ظل كبار عُلمائه ينكرون شرعية هذه الفرقة النصيرية، إلى أواخر القرن العشرين. بل ولم يتم الاعتراف بها بواسطة قيادات المذهب الشيعى فى مدينة «قمْ» الإيرانية، والنجف العراقية، إلا منذ بضع سنوات، ولأسباب سياسية فقد كان آيات الله والزُّعماء الإيرانيون يبحثون عن حُلفاء فى صراعهم ضد صدام حسين فى الرُّبع الأخير من القرن العشرين. وكانت سوريا هى أحد الحُلفاء القلائل لإيران.. وانتهز آل الأسد، الذين يحكمون سوريا منذ عام 1970، الفُرصة ليحصلوا من قادة الشيعة فى إيران على صك الاعتراف بشرعية فرقة العلويين النصيرية، كإحدى فرق الشيعة. ولكن الأمور قد تجاوزت هذه الاعتبارات المذهبية معنويا، إلى مرحلة قبيحة من الصراع الوجودى بين الطائفة العلوية النصيرية، التى لا تتجاوز 15 فى المئة من الشعب السورى، والأغلبية السُنية التى تزيد على 80 فى المئة. وتُشير آخر التقارير الميدانية من داخل سوريا إلى أن الصراع المُسلح مع نظام الأسد، قد تدهور إلى صراع طائفى بين أبناء طائفته من العلويين، وجيرانهم من السُّنة فى العديد من أحياء المُدن السورية. وهو أمر جد خطير، حيث إن سوريا لم تشهد مثل هذه الصراعات الطائفية طوال القرنين الأخيرين. وأغلب الظن أن نظام آل الأسد، وقد استنفد كل ما كان فى جُعبته من أوراق أخرى، لجأ إلى هذه الورقة الأخيرة، وهى الورقة الطائفية. فقد أوحى لأبناء الطائفة أن مصيرهم مُرتبط بآل الأسد.. وأنه إذا سقط آل الأسد، فإن أبناء الطائفة العلوية سيتم ذبحهم عن آخرهم.. ولأن أبناء الطائفة لا يملكون ولا يتعرضون لإعلام بديل.. ولأن الأغلبية السُنية نفسها ليس لديها إعلام مُستقل عن إعلام الدولة السورية التى يتحكم آل الأسد فى كل أجهزتها ومفاصلها، فإن أبناء الطائفة يُصدقون هذه الأضاليل. وتقوم المُعارضة السورية خارج البلاد، التى يقودها من باريس، عالم الاجتماع السورى، الدكتور بُرهان غليون بمجهود أسطورى لدعم المُقاومة المُسلحة من ناحية، وتعبئة الرأى العام العربى والعالمى من ناحية ثانية، والاستعداد لطرح الملف السورى على الأمم المُتحدة، بعد مرور عشرة شهور على المُبادرة العربية، التى لم يعرها آل الأسد بالا، واستمروا فى قتل وتشريد أبناء المُدن السورية الباسلة من درعا وحماة إلى حمص والحسكة. لقد التقيت إخوة سوريين من الذين يعيشون فى المنفى، سواء فى أوروبا، أو أمريكا، أو العالم العربى. وهم عاتبون أشد العتب على صمت الشعوب العربية، والشعب المصرى خصوصا عما يحدث فى سوريا. وكانت إحدى رسائلهم «أن الصمت العربى يقتل أبناء سوريا». فليهبّ أبناء مصر وليبيا وتونس الذين تحرروا من الطُغاة فى بُلدانهم خلال عام 2011، لنُصرة أبناء الشعب السورى فى نضاله العادل من أجل الحُرية والكرامة والديمقراطية. وإنها لثورة سورية حتى النصر.