بلور هنرى كسينجر خبراته فى السلطة فى مقولة تتسم بالذكاء والعمق، مفادها أن السياسى فى السلطة ليس لديه وقت للقراءة، وإنما يستهلك الرأسمال الثقافى الذى راكمه قبل الوصول إليها. هذا إذا كان ثمة تكوين سياسى ورأسمال خبراتى، وعمل سياسى خصب لدى هذا السياسى أو ذاك، بالإضافة إلى تشكل رأسمال ثقافى لديه، يساعده على رهافة الحس السياسى، وحساسية التحليل للمواقف وتقديرها، ورؤية تاريخية تشكل مستودعًا للخبرات تجعله قادرًا على التنبؤ، وتجاوز الأخطاء الكبرى أو الصغرى الأسباب التى تؤدى إليها. مقولة هنرى كسينجر البليغة تصدق على الطبقات السياسية راسخة التكوين والخبرة والمهارات والأخيلة فى النظم الديمقراطية الغربية، بل وفى نظم أخرى، تشكلت بها مدارس سياسية لدى الأحزاب والأيديولوجيا والصراعات الفكرية والاجتماعية والإنجازات الكبرى، على نحو ما يشير إليه المثال الهندى، بالإضافة إلى كهنة السياسة ودروبها فى اليابان، وفى الصين وسنغافورة.. إلخ. منذ دخول السياسة إلى المعتقل، أو إلى الموت الإكلينيكى، أو موت السياسة منذ أكثر من ستين عامًا مضت، والتجريف السلطوى للمواهب والألباب المصرية مستمر، ولا يزال كما كشفت وبوضوح مراحل الانتقال منذ 25 يناير 2011 وما بعد.. ويبدو أن المؤشرات تشير إلى هذه الاستمرارية، إلا إذا كانت هناك إرادة وعزم سياسى على تصفية ميراث السلطنة السياسية، واستبعاد أخطر جماعة على التطور السياسى المأمول لمصر، وهم «المديوكر» -من هم أقل من المتوسط عمومًا- و«المنيوكر» -الأقل من الحد الأدنى- وهم مجموعات رديئة المستوى ومحدودة الذكاء، لكنهم يمتلكون ميراثا مرا تشكل منذ نهاية الناصرية وتطوروا كميا، وزادت رداءتهم وخبراتهم فى كيفية استبعاد الكفاءات والمواهب من بين أبناء النخبة المصرية. من ثم هؤلاء قادرون بثقافة النفاق السياسى والسوقية أن يشوهوا الكفاءات، والأخطر الالتفاف على أى تطور يؤدى إلى استبعادهم من المشهد. من هنا نحن أمام طبقة من خدم السلطة -أيًّا كانت- قادرة وذات فاعلية على التلون والاستمرار، واستطاعت أن تشكل ما أسماه مصطفى الأشرف عالم الاجتماع الجزائرى «حقل الرداءة»، حيث تغرق السلطة والحكام والإدارة والنخب فى عالم من الرداءة والسطحية والتفاهة. إمبراطورية التفاهة والأذى تتشكل من جيوش فى بعض أروقة الحكم والمعارضات وجهاز الدولة، ورجال الأعمال والإعلاميين والصحفيين، ووراءهم عشرات الآلاف من حاملى الشهادات ما بعد العليا، والملايين من خريجى التعليم المنحط، وهكذا تم ترييف التعليم، والسياسة ومفاهيمها على نحو ما شهدناه من ظاهرة ترييف السلطة والإدارة والثقافة والقيم، طيلة أكثر من أربعة عقود مضت، ولا تزال تتمدد. وترييف السياسة والعقل المصرى ليس قدحا فى الفلاحين أو الأرياف، وإنما ظاهرة تعكس سؤالا لماذا تدهور نظام القيم وأنماط السلوك، وترييف المدن والأفكار وأنماط التدين الشعبى وسيادة الطقس والشكل الدينى على مضمون الإيمان والتدين العميق، والعلاقة المتثاقلة مع الزمن، ما كرس النزعة القدرية والميثولوجيا، وتراجع الإيمان بالمعرفة والعلم وثقافة المسؤولية. هل نستطيع أن نؤسس لشرعية جديدة ومصادر نظام التجنيد السلطوى تعتمد على ذات المصادر التقليدية فى نظام يوليو 1952، من البيروقراطية، «التكنوقراط»، والعسكريين، والشرطة، والقضاء؟ هل يمكن تأسيس شرعية سياسية فى ظل استمرارية كراهية السياسة والسعى لحصرها فى قمة النظام وفق المنطق الهيراركى وسياسة الأوامر من أعلى إلى أسفل؟ هل يساعد على تجديد الشرعية السياسية استمرارية جماعة «حريم النظام»، من الوجوه النسائية التى يتم توظيفها واستخدامها «كمكياج سياسى» فى السلطة؟ هل يستمر استخدام الدين سياسيا فى بناء الشرعية وكإحدى أدوات النظام فى الصراع السياسى على نحو ما ساد طيلة المرحلة من يوليو 1952 إلى الآن؟ هل تتأسس شرعية جديدة بناء على استخدام الشعارات والمتخيلات السياسية الكبرى حول الهوية، والقومية، واستخدام لغة تمجيد الذات الوطنية، واستدعاء التاريخ وتوظيفه وتأويله على هوى السلطة الجديدة فى المديح لمصر وتاريخها «وفضائلها» «وأمجادها»!؟ إلى آخر هذا المرض المصرى العضال الذى يعكس أزمة ثقافية، وسوسيو - نفسية مستمرة، ودلالة على إحساس عميق ودفين بعدم الإنجاز والضعف؟ هل يمكن بناء نظام جديد للشرعية فى ظل انقسامات رأسية حادة وفى ظل أزمات الاندماج الوطنى، والاجتماعى؟ هل تؤدى نزعة الإقصاءات إلى المساعدة على بناء الشرعية؟ إن التركيبة البراجماتية والخلفية الوظيفية فى الفكر والخبرة والممارسة قد تؤدى إلى اهتمام رئيس الجمهورية الجديدة وتركيزه على ملفات مهمة وضرورية وخطيرة كالأمن، والاقتصاد والتسليح والسياسة الخارجية، وأزمات الطاقة والكهرباء والمياه، وظواهر الفقر إلى آخر تلال المشكلات المتفاقمة، ومعه الحق إلى حد ما.. لكن قبل ذلك وفى أثنائه وبعده عليه أن يعود إلى ملف أزمات الشرعية، ربما يكون لديه من الوقت القليل كى يتابع تاريخها، ويحاول أن يتجاوز مسألة شرعية الإجراءات والانتخابات أيا كان حجم المشاركة، ونسبة النجاح، لأن المسألة تتصل بالبيئة السياسية وضغوطها، والأمن، والمزاج السياسى السائد قبل وفى أثناء الاقتراع وبعده، ومن ثم يستطيع أن يخرج من الإطار الضيق لشرعية الصناديق وبعدها تغير المزاج السياسى وتقلباته وعواصفه وأعاصيره لدى المصريين، ومن ثم الانفتاح على رحابه واتساع الشرعية الجديدة الديمقراطية التى تكرس دولة القانون والحريات وحقوق الإنسان والوحدة الوطنية المصرية.. كيف؟ هذا، سوف نحاول الإجابة عنه فى المقال القادم.