كان السادات يستخدم شرعية يوليو من خلال الانتساب إلى تنظيم الضباط الأحرار، ومن ثم استناده إلى المؤسسة العسكرية، التى ظلت أحد مراكز ومصادر التجنيد للنخبة السياسية، مع البيروقراطية، والتكنوقراط وغيرهم من الموالين للنظام، وفات هؤلاء أن شرعية يوليو تهاوت مع هزيمة يونيو. فى ظل الصراعات الدامية بين النظام والقوى الإسلامية السياسية الراديكالية -الجهاد والجماعة الإسلامية وأشباههما ونظائرهما- تم اغتيال السادات يوم 6 أكتوبر بكل دلالته وتوظيفاته فى بناء شرعية نظامه. من ناحية أخرى أخذت الشرعية الساداتية فى التآكل بعده، فى ظل رئيس جمهورية أسبق لم يكن يأبه بمسألة الشرعية كأساس لحكمه ولنظامه. اعتمد حسنى مبارك على استخدام رمزيات شرعية يوليو ومفاهيم الإصلاح الاقتصادى والخصخصة، والاعتماد على الولاياتالمتحدةالأمريكية، ودول النفط، ومواجهة الجماعات الإسلامية، الراديكالية، والدمج الجزئى للإخوان المسلمين فى بعض المؤسسات السياسية.. كانت الشرعية ومصادرها تتهاوى، مع انتشار شبكات الفساد السلطوى عند قمة النظام واستباحة المال العام، والاستخدامات الأداتية لمفهوم دولة القانون والحق، وخصخصة وتوريث الوظائف الحساسة فى عديد من المجالات، وسعيه لتوريث رئاسة الجمهورية لنجله جمال مبارك، فتح النظام الباب نحو حريات مرنة للرأى والتعبير، فى ظل انسداد الأفق أمام تطوير النظام السياسى والحزبى فى اتجاهات إصلاحية على نحو أدى إلى ظهور انتقادات عميقة لبنية النظام ونخبة الحكم وسياساته وفساداته، وضعف كفاءته وإنجازاته وبروز زواج كاثوليكى بين رجال الحكم، ورجال الأعمال. كان الإسلام السياسى الراديكالى وجماعة الإخوان المسلمين يشككون فى شرعية النظام من منظور دينى تأويلى، ويجحدونها. من ناحية أخرى كان انهيار دولة القانون وضعف فاعليته، وانتشار الفساد وشبكاته عند القمة وامتداده شعبيًّا تشكل تعبيرًا مكثفًا عن ضعف الدولة ومؤسساتها وسلطاتها، والأخطر الأزمة بالغة العمق فى نظام الشرعية. من هنا كان استخدام المجلس العسكرى الأول لشرعية يوليو، تعبيرًا رمزيًّا عن سعيه لإثبات سند شرعى لدى الطلائع الثائرة للطبقة الوسطى - الوسطى المدنية فى القاهرة أنه يمثل شرعيةً ما مستمرة، لكن الواقع الاجتماعى والسياسى لم يكن يأبه كثيرًا بما يسمى بشرعية يوليو، ومن ثم شرعية حضور المؤسسة العسكرية فى قلب السياسة المصرية المتغيرة. بعد 25 يناير - 11 فبراير 2011 بدا الصراع ضاريًا بين طلائع العملية الثورية، حول الشرعية الجديدة المتمثلة فى الانتفاضة الثورية، ومن ثم الشرعية المؤسسة للنظام الجديد، وبين الدولة التعبوية ومؤسساتها الواهنة. حاولت جماعة الإخوان والسلفيون والجماعات الإسلامية الأخرى أن تؤسس شرعية أخرى تمثلت فى تعديلات دستور 1971 فى مارس 2011 وما بعد من انتخابات مجلسى الشعب والشورى -على سند من قوانين غير دستورية، كما قضت بذلك المحكمة الدستورية العليا- ثم انتخاب رئيس الجمهورية السابق د.محمد مرسى. اعتمد الإخوان والإسلاميون السياسيون على شرعية صناديق الاقتراع حينها، وعلى شرعية الميدان، أو شرعية سياسة الشارع الثورية حينًا آخر. المراوحة بين كلا الشرعيتين كانت تعبيرًا عن نمط من البراجماتية السياسية بين الشرعية المؤسسة لعمليات الانتقال السياسى، وهى شرعية العملية الثورية فى يناير 2011 التى شاركوا فيها قليلًا، وبين عملية الحشد والتعبئة الدينية وشق المجتمع و«الأمة» المصرية رأسيا على أساس الانتماء الدينى، ومن ثم بدا اضطرابهم بين كلا الشرعيتين فاقم من أزمة شرعية صناديق الاقتراع أنها ذات طابع إجرائى محض، وفاقم منها الانقلاب الدستورى فى 22 نوفمبر 2011 ووضع دستور الغلبة فى 2012 بكل ما اعتراه من عدم توافق وطنى عام، وتديين نصوصه فى مجتمع متعدد، ومن ثم لم تستقر هذه الشرعية المثلومة والمجروحة فى العمق. بعد أحداث 30 يونيو 2013 سعى بعض أركان النظام السابق، والسلطة المؤقتة فى المرحلة الانتقالية الثالثة، وأجهزة الإعلام الصاخبة أن تفرض شعارًا من الدخان الكثيف حول شرعية 25 يناير 2011 لصالح ما يسميه بعضهم بشرعية 30 يونيو 2013، لتشكل الظهير الشرعى لعودة كاملة لفلول النظام السابق والمستمر، وذلك فى محاولة لاستبعاد الطلائع الجيلية الشابة التى ذهب بعض من أفرادها استشهادًا، من أجل بناء شرعية مؤسسة لنظام ديمقراطى يعتمد على الحرية والكرامة الإنسانية أساسًا، وفى ضوء تحققها يمكن إنجاز العدالة الاجتماعية. إن محاولة النظام القديم/ الجديد نسيان شرعية الميدان وشرعية العملية الثورية فى يناير 2011، تمثل سياسة الكراهية للطلائع الجبلية الشابة ومعهم بعض مفكرى جيل السبعينيات وما بعد ورغبة فى تأسيس نظام يعتمد على أحداث 30 يونيو 2013 وما بعد، ترتيبا على ذلك سنشهد فى أعتاب انتخاب رئيس الجمهورية الجديد عودة إلى أسطوانة مشروخة حول شرعية صناديق الاقتراع، و30 يونيو وإشارات عابرة للشرعية المؤسسة ليناير. والسؤال هل تؤدى انتخابات رئيس الجمهورية إلى بناء شرعية جديدة، أم أن المسألة أعقد وأكثر تركيبًا وتعقيدًا من صناديق الاقتراع وخطاب شرعية 30 يونيو وما بعدها؟! هذا ما سوف نتناوله فى المقال القادم.