يبدو أن الصراعات الرمزية حول الشرعية تمثل، ولا تزال، إحدى علامات مراحل الانتقال السياسى فى مصر، منذ 25 يناير 2011 وما بعد، فى المرحلة الانتقالية الأولى بدا واضحا آنذاك، وكما كتبنا أن الصراع بين شرعية العملية الثورية، وشرعية نظام يوليو 1952. وكان طرفا الصراع يتمثلان فى المجلس العسكرى ومراكز القوى فى النظام الذين تمسكوا بشرعية يوليو، ومن ثم الدور القيادى الذى لعبه تنظيم الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر وصحبه، والرئيس الأول للبلاد اللواء محمد نجيب، ومعهم بعض من أبناء الفئات الوسطى - الوسطى، والوسطى - الصغرة الذين رأوا أن «الحركة المباركة» بتعبيرات هذه المرحلة تشكل شرعية جديدة بعد تقوض شرعية النظام شبه الليبرالى، وما حمله من اختلالات هيكلية فى بنيانه الاجتماعى شبه الإقطاعى و«شبه الرأسمالى» واتساع الفجوات الاجتماعية بين القلة الحاكمة عند قمة النظام الاجتماعى من أبناء مجتمع النصف فى المئة بتعبير ناصر الأثير، وبين الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع المصرى. من ناحية أخرى شكل انسداد التجربة السياسية والحزبية على كبار ملاك الأراضى الزراعية، وباشاوات التجربة الرأسمالية الهشة والمبتسرة، أحد أكبر مصادر الغضب السياسى، والجروح البنائية للشرعية. استمرت أزمات شرعية النظام الجديد آنذاك منذ بداية تشكل معالمه مع بدء التسلطية السياسية من خلال قانون العزل السياسى، ومحاكمات الثورة، وهو الأمر الذى أدى إلى تجفيف بعض من بقايا الحيوية والديناميكية السياسية التى ارتبطت بالتعددية الحزبية والسياسية والفكرية لمصر شبه الليبرالية، والتجمع شبه المفتوح على مصادر إنتاج الأفكار والأيديولوجيات ومدارس الفكر والعمل السياسى. تشكلت شرعية يوليو حول المشروع الاجتماعى الناصرى - قانون الإصلاح الزراعى وتعديلاته، والتأميمات، والسياسات الاجتماعية حول الحق فى العمل، والإسكان، والصحة، واتساع قاعدة التعليم، وكاريزما ناصر، وسياسة الاستقلال الوطنى، وعدم الانحياز، والدور المصرى المؤثر والقائد فى مواجهة الاستعمار الغربى، ومحاربة الأحلاف السياسية، وفى إفريقيا والعالم العربى. تشكلت حول هذه السياسات، والتغير الاجتماعى قاعدة تأييد للنظام من «الطبقات» الوسطى - الوسطى، والوسطى - الصغيرة، ونمط من الإجماع النسبى والرضا العام. مع ذلك ظلت الشرعية السياسية ترتكز على المزاوجة بين مفهوم المواطنة الاجتماعية، ومواجهة التحدى الإسرائيلى، وتوظيف الدين -الإسلامى والمسيحى- كأحد مصادر الشرعية فى ظل استخدامه فى مشروع التنمية من ناحية، وكإحدى أدوات نظام السياسة الخارجية. هذا النمط من الشرعيات كان مثلومًا بالعديد من الأعطاب، على رأسها غياب نظام ديمقراطى، يعبر من خلاله المصريون عن إرادتهم واختياراتهم ومصالحهم الاجتماعية بحرية من خلال الآليات الديمقراطية. من هنا لعب الإعلام وأجهزة الدولة الأيديولوجية دورًا مؤثرًا تحت عديد الشعارات الكبرى، وعلى رأسها الديمقراطية الاجتماعية، وأشكال من التنظيمات السياسية الواحدة -هيئة التحرير والاتحاد القومى، والاتحاد الاشتراكى العربى- التى ارتكزت على مفاهيم التعبئة الاجتماعية والسياسية، ودور مركزى لرئيس الجمهورية جمال عبد الناصر ثم السادات بعد ذلك. لا شك أن استخدام الدين عمومًا ومعه المؤسسات الدينية الرسمية أدى إلى تنشيط جماعة الإخوان المسلمين وجماعات إسلامية أخرى فى إنتاج خطاب مضاد يعتمد على استخدام نمط من التفسيرات والتأويلات الإسلامية للتشكيك فى شرعية نظام يوليو بمقولة إنه انقلاب عسكرى، وحينًا آخر مع المصادمات العنيفة معه، إلى جحد شرعية النظام. مع هزيمة يونيو 1967 الساحقة، ظهرت أزمات الشرعية بقوة وتأثير بعد سقوط الشعارات الكبرى للنظام، ومن ثم نستطيع القول إن شرعية يوليو، والنخبة الحاكمة ومصادر تجنيدها تهاوت فى ميادين القتال. بعد وصول السادات إلى السلطة ومعركته مع مجموعة 15 مايو 1971 استمر فى استخداماته لمصادر الشرعية السابقة «ثورة يوليو» 1952، وحركة 15 مايو والإسلام السياسى. بعد حرب أكتوبر 1973 بنى شرعية حكمه على بعض نتائجها والانفتاح على الغرب والولايات المتحدة، ودول النفط وعلى استخدام مكثف للإسلام فى مواجهة خصومه السياسيين، متمثلين فى الناصريين وقوى اليسار الماركسى وبعض الليبراليين. كان استخدام الإسلاميين فى مواجهة القوى السياسية الرافضة والناقدة للسادات ونظامه وسياساته، أحد أكبر مصادر الخطر على نظامه كله الذى كان يحمل فى أعطافه جروحًا عميقة فى نظام الشرعية، سرعان ما ظهرت فى الإقصاءات السياسية لخصومه، وتزايد اعتماده على الآلة الأمنية التى تضخمت، بالإضافة إلى تزايد الانقسامات الاجتماعية، وبروز الفتن الطائفية واشتداد عود الجماعات الإسلامية السياسية التى كانت تحمل تصورًا دينيًّا وتأويليًّا كشرعية بديلة.