ثمة سؤال يتردد فى بعض أوساط القلة المفكرة والقلقة حول مصير مصر ومستقبلها خلال الفترة الماضية لماذا لم يتقدم مرشحو الرئاسة منذ البداية ببرامج سياسية شاملة تتضمن رؤى وفلسفة ثورية أو إصلاحية جزئية أو شاملة. ولماذا تتشابه فيما بينهم لغة الشعارات المعممة الأقرب إلى إيقاعات الطبل الأجوف التى مللناها طيلة أكثر من أربعين عاماً مضت؟ لماذا يطرح بعضهم مقولة ألا حاجة لبرامج انتخابية تحت دعاوى الضرورات؟ أو أنها مجرد نافلة انتخابية؟ هل نحن إزاء استمرارية لغياب الرؤى وثقافة البرامج السياسية الكبرى التى ترمى إلى تغييرات وتحولات وتجديدات وإصلاحات بنيوية فى الدولة وهياكلها وسلطاتها وأجهزتها، ومعها النظامان السياسى والاجتماعي؟ أم أن الحس العملى مازال مسيطراً ومعه ثقافة اليوم بيوم السياسية التى تكرست طيلة عقود فى ظل التسلطية السياسية المستمرة؟ ولا أحد يسائل أحداً!، حيث التواطؤات على الصمت!، وغياب الشفافية وتدفق المعلومات الصحيحة من أجهزة الدولة إلى «المواطنين»، حتى تولدت وتدافعت موجات الشك بين الأجيال الجديدة الخارجة من أرحام ثورة المعلومات والاتصالات، ومواقع التفاعل الاجتماعي، وبين أجيال كاملة تعانى شيخوخة المعارف، وتآكل الروئ الضحلة القمعية، وبين حركة جيلية جديدة وجدت مستقبلها وآمالها غامضة. إن الشيخوخة السياسية والجيلية المسيطرة ، هى نتاج لسياسة اللا سياسة كما قلناها مراراً وتكراراً وتشكل حالة من الأنانية والأثرة الجيلية لبعض من أجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية وأجيال الستينيات وبعض موالى السلطة واقنان أجهزتها من أجيال أخري، ذهبوا وراء مصالحهم الضيقة، وانصاعوا لها دونما موقف نقدى لإصلاح نخبة الحكم، نعيش فجوة معرفية وخبراتية ورؤيوية كبرى بين رموز الشيخوخة الفكرية والسياسية - فى غالب مواقع العمل الوطني - إلا من رحم ربي، وبين ما يحدث حولهم وداخل المجتمع المصري، حياتنا مترعة بالركود السياسي، وضعف المعرفة السياسية، والوهن الشديد لأحزاب تعيش فى الماضي، وغالبها فاقد للرؤية والبرامج السياسية، كيف يمكن الحديث عن ثقافة الرؤى السياسية والبرامج والسياسات لدى هؤلاء؟! أو الاهتمام لديهم بالدراسات المستقبلية، اللهم إلا قليلاً من بعض الباحثين الجادين ذوى القدرة والكفاءة والمعرفة؟ من البدهى القول تبَّا للبداهة - حيث لا يوجد طلب سياسى واجتماعى على الموهبة والمواهب والكفاءات تتدهور مستوياتها تدريجياً، ويخفت وهجها، ويعيش أهل الموهبة والكفاءة أسرى المرارة، واليأس والقنوط وهيمنة الإحساس العدمى باللا جدوي، وبأن الدولة والنظام والشعب فى غالبه غير قابل للتجديد أو الإصلاح. عندما تترك نخب الشيخوخة جاثمة عند قمة النظام التسلطى وتهمل أمور الدولة والسياسة والصالح العام ومراكز العلم والمعرفة، وتبحث عن مصالحها وإعادة إنتاج ذاتها، وتجنيد الموالى والأتباع والزبائن وإقصاء الكفاءات وقتل الأجنة الموهوبة تؤدى سياسة اللا سياسة إلى الفوضى والاضطراب وتقزيم المدن وثقافتها، وتراجع رأسمالها التحديثى والحداثى المدينى التاريخى، ويتمدد ترييف الفكر والقيم وتنتشر أنماط السلوك الريفى وضروب من العشوائية، وترييف المؤسسات الجامعية ومراكز البحث، ويتدهور من ثم التعليم والصحة والثقافة والإعلام والاقتصاد!! من هنا يبدو الحديث عن الضرورات التى لا تتطلب رؤى وبرامج علمية منضبطة، خطيراً فى دلالاته وتعبيراته، والأخطر أن إعداد البرامج المتسرعة على نحو ما نري، هو تعبير عن نمط من «الفهلوة السياسية» وثقافة الارشاد والمرشدين السياسيين التى تتكامل مع ذهنية المرشدين الدينين التقليديين التى أدت إلى سيادة ثقافة دينية وضعية ساندت الطغيان والتسلط السياسى فى البلاد، والأخطر لغة العنف اللفظى والسلوكى ونزعات الانقسام الاجتماعى والفكري، والأخطر.. الأخطر استمرارية سياسة اللا سياسة والغرف المغلقة، ولغة الهمس فى أذان أصحاب القوة والقرار فى لحظة انتقالية ومؤقتة بامتياز! بينما قوى الحيوية والتغيير القادم بقوة لا محالة حاضرة فى مكان آخر داخل حنايا المجتمع المنكسر والدولة الفاشلة التى تلوح فى الأفق السياسى المضطرب. أن التلكؤ فى طرح الرؤى والبرامج السياسية، يعنى غياب الإيمان بالعلم والمؤسسية، والاعتماد على موارد أخرى للقوة والحضور السياسى للمرشحين بديلاً عن مخاطبة عقول المصريين، ومغازلة عواطفهم وقلقهم السياسى حول مستقبلهم ومداراته الغامضة، ومن ثم توظيف للخوف، أكثر من استثارة الحمية القومية وجسارة الخروج الضارى إلى المستقبل المفعم بالحيوية. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح