كما لم يظهر تليفزيونيا إلا فى عدة لقاءات مع رئيس أركان الجيش الفريق قايد صالح، فضلا عن استقبال 4 ضيوف أجانب للبلاد خلال هذه الفترة، ولم يعقد سوى اجتماعين فقط لمجلس الوزراء خلال عام 2013، حيث ينص الدستور على ترأسه هذه الاجتماعات للموافقة على سن أى قانون!! وربما هى المفارقة، أن بوتفليقة الذى قال عام 2012: «لقد أنهى جيلنا مهمته»، وهو ما فهم وقتها أن الرجل لم يعد ينتوى الترشح، مازال يعانى من تبعات الإصابة بجلطة فى المخ أفقدته بعض وظائفه الحسية، ومطالب بتقديم شهادة طبية معتمدة تقول إنه فى صحة جيدة، وهو أمر سيطعن فى مصداقية أوراقه، كما أن عليه تقديم أوراق ترشحه بنفسه للمجلس الدستورى، وإذا ما استخدم القانون فى تفويض شخص ليقوم بذلك، سيواجه عقبة لا يمكنه تفاديها، تتمثل فى أداء اليمين الدستورية بعد الفوز بالانتخابات. إذن ما الذى يدفع برجل لا يستطيع أداء اليمين الدستورية أن يتولى مهام الرئاسة؟ واقع ما يحدث فى الجزائر سياسيا واجتماعيا واقتصاديا يوضح تماما أنها تعانى من خلل فى بناء الدولة ذاتها، التى تمثل المؤسسة العسكرية فيها العمود الفقرى، وتليها «جبهة التحرير» بحضورها التاريخى فى بنية الجيش والدولة معا، فيما تأتى عائدات النفط المتزايدة خلال العشرية الأخيرة خصوصا كطرف ثالث يكمل الترويكا التى رسمت شكل الدولة ومؤسساتها، ومن ثم هيمنت عليها. والجزائر الجمهورية العربية الوحيدة - تقريبا - التى لم تتأثر بما عرف بالربيع العربى وإرهاصاته أو تداعياته يرى أن شرعيته مستمدة من «ثورة أسطورية» ضد الفرنسيين، وهى شرعية ثورية مستمرة وإن طالت أكثر من خمسين سنة، فرغم جسامة الخسائر التى فرضتها مواجهات التسعينيات الدامية، إلا أن تماسك ترويكا الحكم أعطاه قوة إضافية. لكن هذه القوة آخذة فى التراجع بفعل متغيرات العصر كسبب أساسى، وما أسماه مولود حمروش رئيس الوزراء الأسبق ب«هيمنة الحرس القديم» وعدم القابلية للتغيير كسبب آخر. فالجيش مثلا بكل أهميته فى بنية الدولة بدأ يفقد الكثير من هيبته، وطالت الشبهات قادته، ليس فقط عند حد التورط فى العمل السياسى، بل وصلت إلى حد تبادل الاتهامات بالاختلاسات المالية. وكان الاتهام الأبرز من عمار سعدانى أمين عام جبهة التحرير الوطنى وأحد أهم رجال الرئيس، موجها ضد الفريق محمد مدين المشهور ب«توفيق» قائد المخابرات العسكرية، واتهمه بالوقوف وراء ما يعرف بحملة «فضائح وأكاذيب» التى تطعن فى الأوساط المقربة من الرئيس بهدف منعه من الترشح للرئاسة، كما لم يفوته أن يعدد إخفاقات «توفيق» المتتالية ملمحا إلى ضلوعه فى بعض الجرائم، كاغتيال الرئيس الأسبق محمد بوضياف عام 1992، ومحاولة اغتيال بوتفليقة نفسه عام 2007. هذا الصراع فى رأس السلطة بين الرئاسة وعدد من قيادات الجيش، بدأ مع محاولات بوتفليقة إحداث تغييرات فى أعلى هرم المؤسسة العسكرية بهدف وضع حد لحالة الالتصاق التوأمى بين الجيش والسلطة فى البلاد، وهو ما أرجأ إعلان قرار بوتفليقة بعض الوقت، ثم فرض ترشيحه فى النهاية، وفرضت قواعد اللعبة إرجاء الخلاف نفسه، وإن بقى دون حل، فلم يعد أمام هرم السلطة إلا التجديد لبوتفليقة كحل ارتضاه المتصارعون قبل أن تفرضه الضرورة!! القرار البوتفليقى أثر بشكل مباشر على خريطة المرشحين والأحزاب والقوى السياسية، فحركة النهضة قاطعت الانتخابات مسبقا، وكذا حركة مجتمع السلم التى أكدت أنها كانت تتوقع ترشح بوتفليقة، وانضمت لهم جبهة العدالة والتنمية، والسلفيون أيضا عبر حزب «الصحوة الحرة» غير الرسمى، بسبب اتفاق النظام على تمرير مرشحه بعيدا عن الشرعية الشعبية، ما يعنى مقاطعة التيار الإسلامى فى عمومه هذه الانتخابات، كما هدد بمقاطعتها المرشحان أحمد بن بيتور، رئيس الوزراء الأسبق، وجيلالى سفيان، رئيس حزب «جيل جديد». إلا أن المرشح الأبرز على بن فليس وزير العدل الأسبق، مازال يراهن على قدرته إكمال السباق معتمدا على تحالفات انتخابية متعددة، آخرها اتفاقه مع حزب «حركة الإصلاح الوطنى» وهو الحزب الوحيد ذو المرجعية الإسلامية والمكون لتكتل «الجزائر الخضراء» الذى قرر المشاركة فى الانتخابات، مع التأكيد أن هذا الدعم لا يهدف شق صف الإسلاميين، وإنما يهدف كما يرددون «لوضع الجزائر على سكة الحرية وإرجاع الكلمة للشعب»، كما أعلنت جبهة النضال الوطنى دعمها بن فليس باعتباره الوحيد القادر على توحيد صفوف الجزائريين. الواقع الجزائرى يقول: إن قرار بوتفليقة سيعقبه على الأغلب فوز الرجل فى الانتخابات المقررة فى إبريل المقبل لأسباب عدة، منها حصوله على دعم الغالبية العظمى من الأحزاب الجزائرية، وأيضا الانقسامات الحادة فى صفوف المعارضة وفشلها فى التوحد خلف مرشح، وأخيرا تخوف الجزائريين من التغيير الذى ربما يؤدى إلى الفوضى، كما حدث فى بلدلان مجاورة، وهو ما يعنى توافقا عاما فى المزاج الجزائرى على إرجاء التغيير، وبالتالى تصبح شعارات الاستقرار الذى يمثله بقاء بوتفليقة ضرورة!! هذا التوافق وضع الجزائر أمام خيارين، إما أن يكون قرار بوتفليقة غير نهائى ويهدف تشتيت المعارضة، حيث إن إعلان بديله الآن لن يكون قادرا على الحسم مثله، والمقصود هنا انسحاب الرجل فى اللحظات الأخيرة بعد تمهيد الطريق أمام مرشح جديد تتوافر فيه شروط الترويكا ويخلق حوله قدرا من الإجماع. الاختيار الثانى أن يكمل الرجل السباق وينتقل من «مرشح الإجماع» فى انتخابات عام 1999 حين انسحب 6 مرشحين أمامه عشية التصويت، إلى «مرشح حال العجز السياسى» الذى تفرضه الضرورة. نشر بعدد 690 بتاريخ 3/3/2014