إن بعضا مما ينقصنا نحن المصريين كى نتقدم هو الفراغ من الكلام والفراغ إلى العمل ، والفراغ من الأحلام والجد فى العمل ، نعم ، فإن من آفات العصر الكلام والأحلام ، انظر إلى كل حدث يلم بمجتمعنا ، وانظر إلى كل خطب يعترض حياتنا ، ثم انظر بعد ذلك إلى ردة فعلنا تجاه هذا الحدث وطريقة مواجهتنا لذلك الخطب ، فلن تر إلا كلاما واستكثارا من الكلام ، وجدلا وإغراقا فى الجدل ، لافرق فى ذلك بين حدث بسيط وخطب جلل ، ورغم أن الإسلام قد نهى عن الجدل والكلام فيما لا فائدة منه ولا طائل من ورائه ، لما فى ذلك من ضرر ، تجدنا مغرقين فيهما ، فما من أمر يظلنا إلا أوسعناه جدلا وقتلناه كلاما . والعمل سبب الإنتاج والتقدم ورقى الأمم ، لذلك أمر به الإسلام وحث عليه لما فيه من الفائدة والخير ، فلم تتقدم أمة يوما بكثرة كلامها ولا بجدال أبنائها ، ولست أقصد بذلك الكلام النافع المفيد كالعلوم النظرية وما يؤرخ لأمة فى ناحية من نواحى حياتها أو يعبر عن أحداثها وملماتها ، فيما يسمى بالأدب والتاريخ ، وإنا أقصد إلى الكلام غير المفيد مما لا يؤرخ ولا يعبر ، ذلك الذى تجرى به ليل نهار ألسنة العامة وكثير من الخاصة ، وهو القيل والقال والتحسين والتقبيح والمدح والذم والتعليق والتاييد والإنكار ، وما إلى ذلك مما لا يغنى ولا يفيد وليس من شأنه التقديم ولا التأخير . وآفة أخرى أصابتنا هى الأحلام ، لا تقل خطرا ولا ضررا عن الكلام ، لكنها ليست خطرا على الإطلاق ، وإنما الخطر كل الخطر والضرر كل الضرر فى الاحلام المنفصلة عن الواقع ، المجردة عن العمل المنبتة الصلة به ، فما ظنك برجل أخذ يحلم بأبهى النتائج وأسمى الغايات ، ثم قعد عن العمل ، أتراه يصل إلى نتيجة من نتائجه أو يحقق غاية من غاياته ، أما أنا فلا أشك فى أنه لن يحقق غاية ولن يصل إلى نتيجة . والأحلام الخائبة لا تتوسل فقط لتحقيق الغايات الخاصة والوصول إلى النتائج الشخصية كلتاهما ، وإنما المعضلة فى حياتنا أنها تنبسط فى أغلب الأحيان ليراد بها أن تكون وسيلة لتحقيق الغايات والنتائج العامة ، كالحلم بأن تكون بلدى متقدمة ديمقراطية ، وبأن يكون رئيسها هذا وليس ذاك ، لكن كيف لبلدنا أن تتقدم دون عمل ، وماذا يفيدك أن يكون رئيسها هذا أو ذاك وأنت قاعد فى مكانك لا تبرحه ، بل ماذا يمكن أن يقدم لك هذا الرئيس أو ذاك إن لم تقم بدورك المنوط بك ؟ ، اعلم أنك إن لم تعمل فستكون عبئا على هذا الرئيس أيا من كان ، وإذا لم يعمل غيرك فسيكون عبئا كذلك على هذا الرئيس ، وستضاف هذه الأعباء بعضها إلى بعض حتى تثقل كاهل الرجل ، وتضطره فى النهاية إلى الفشل ، ثم المحاسبة منك ومن غيرك ، وأنتم الأعباء ، ثم اللوم والعذل ، وربما سيلحقه العار جراء رئاسته ، ويلحق أهله وذويه ، وليس السبب تقصيرا منه ولا رغبة عن تقدم الدولة والنهوض بها ، وإنما السبب أنت وأمثالك من المتكلمين الحالمين ، الراغبين فى التقدم والنهوض الراغبين مع ذلك عن العمل والجد فيه ، وقد يكون الرجل كفئا ، عزم على الجد والاجتهاد ، وأضمر الإخلاص ، ولم يدخر طاقة ، غير أنه رزق بخاملين لا عمل لهم ولا جد ولا اجتهاد ، إذا بهم يغرقونه ثم يغرقون ، فتجده بين عشية وضحاها مأخوذا بذنب لم يقترفه ، بل اقترفته أنت ومن سواك . وإنى لأشفق على كل رجل ذى عزم وهمة يعرض له هذا الأمر منك ومن أمثالك الخاملين ، ومن الذين يزينون له هذا الأمر ويرغبونه فيه ، ويلحون عليه فى توليه ، أشفق عليه منكم ، ومن أن يخدع عن نفسه ، فما أسرع الأيام ، ويا لعجبى منا نحن المصريين ، فما أشد تمسكنا بالرجل نريده حاكما ونحمله على الحكم فرحين به مهللين له ممجدين ، ثم ما أشد إنكارنا وتنكرنا له إذا ما أدارت له الأيام ظهرها ، ورغبتنا عنه وزهدنا فيه ، وما أشد نكايتنا به إذا ما تمكنا منه وحيل بينه وبين السلطة والحكم . وإذا فإنى أدعوا المصريين إلى التخلى عما لا فائدة فيه ولا طائل من الكلام والجدل ، وعن الأحلام مجردة عن العمل ، وإلى التريث والأناة فى اختيار الرئيس ، وأدعوا من يقدم على أن يكون رئيسا إلى التريث كذلك والأناة ، فما أرفع رفعنا إلى السماء ، وما أخفض خفضنا فى الأرض ، ما أسرع حبنا وأشده ، وما أبغض بغضنا وأقواه ، وليكن هم هذا وذاك الوصول إلى النتيجة وتحقيق الغاية ، بالفراغ إلى العمل والجد فيه ، عسى أن نرى هذا البلد متقدما يوما ما .