ما يحدث فى سيناء الآن أكبر من خطأ وأفدح من خطيئة، ويرتقى إلى مقام الخيانة العظمى كاملة الأوصاف. وليس لأحد عاقل أن ينخدع بالتصريحات الرسمية الملوثة، وهى تؤكد - كالعادة- أن كل شىء تمام، وأن الوضع تحت السيطرة، بينما لا سيطرة فى شرق سيناء لغير الجماعات الإرهابية التكفيرية، والتى تفرض سطوتها، وتنفذ عملياتها فى وضح النهار، وتستهين بقوات الجيش والشرطة، والتى تحولت إلى وضع الرهائن، تقيم غالبًا حول المنشآت الرسمية، ومن نوع مبنى المحافظة ومديرية الأمن وأقسام الشرطة، ولا تجرؤ على التحرك خيفة القتل المفاجئ، وتجهل خرائط المنطقة كأنها قوات احتلال أجنبى(!)، وهو ما أضعف ثقة المصريين من أهالى سيناء فى قوات الشرطة المذعورة، بل وأوهن تقديرها لقوات الجيش نفسها، وهذه حالة تنذر بتدهور مضاعف، فثمة جماعات مجهولة ومعلومة تتحكم فى الوضع، وصلات الجماعات المريبة ممتدة مع جهاز «الموساد» الإسرائيلى من وراء الحدود، ثم إن صلاتها على الجانب الآخر ممتدة إلى مؤسسة الرئاسة المصرية، وعبر وسطاء ينتمون لأحزاب سلفية وجماعات إسلامية، وتجرى المفاوضات رأساً مع مكتب الرئيس مرسى، وقد سبق أن ذهبت وفود وساطة فى سيارات الرئاسة الرسمية، ثم إن مرسى كلف مساعده السلفى بوساطة أحدث، وهى القصة ذاتها التى ترددت فى اجتماع لمرسى مع من يسمون أنفسهم بعلماء السلفية، والمعنى ببساطة أن ثمة اعترافًا رسميًا بجماعات الإرهاب فى شرق سيناء، وأن مرسى ينظر لهؤلاء بوصفهم رفاقًا فى التيار الإسلامى، وحتى لو كانت الرؤى والمصالح مختلفة، ومقابل الاعتراف الواقعى لمرسى بجماعات الإرهاب فى شرق سيناء، وإقامته لخطوط اتصال ومفاوضات وساطة بدعوى الوعظ والإرشاد، فوق هذا السلوك المشين من رئيس منتخب للدولة المصرية، فإن أوامر مرسى الرسمية لقوات الدولة الرسمية مشكوك جداً فى أمرها، فقوات الجيش تدعم تعزيزاتها فى شرق سيناء، لكنها تبدو فى وضع احترازى عاجز جداً، فليست هناك على ما يبدو أوامر صارمة باقتحام أوكار الإرهابيين، وليست هناك على ما يبدو من تكليفات بالقضاء على الجماعات المريبة، ومرسى كما هو معروف فى وضع القائد الأعلى للقوات المسلحة، وامتناع القوات عن فرض السيطرة والقضاء على الإرهابيين، واستعادة سيناء بكاملها لسلطة الدولة لا سلطة الإرهاب، هذا الامتناع قد لا يصح تفسيره إلا بغياب الأوامر، أو بوجود أوامر بالتريث وكف إطلاق النار، والتفسير مفهوم، فلا يمكن لمرسى أن يجمع بين سياستين فى نفس واحد، أى أن يفاوض جماعات الإرهاب المنتمية إلى تياره الإسلامى، وأن يحاربها فى آن واحد، فما خلق الله لرجل من قلبين فى جوفه، وقلب مرسى بالطبيعة مع هوى جماعاته. نعم، ما يحدث فى سيناء الآن جريمة خيانة عظمى كاملة الأوصاف، والضحايا ليسوا فقط من قوات الشرطة والجيش، والذين تساقط العشرات منهم قتلى وجرحى، ودون مقدرة على تعقب الجناة، ولا على الثأر لدماء الشهداء، وبما أضعف ثقة الأهالى فى قوات الدولة المصرية، وتركهم نهبًا للفزع من جماعات القاعدة وأخواتها، فالأمر جدّ لا هزل فيه ولا مصادفات، وثمة سلطتان الآن فى شرق سيناء، سلطة واقعية متزايدة النفوذ لجماعات الإرهاب، وتستقوى بصلاتها الظاهرة والخفية مع مؤسسة الرئاسة، ومع الرئيس مرسى بالذات، فيما تذوى السلطة الافتراضية للدولة، وتتحول قواتها المرابطة حول المنشآت إلى صور للزينة، وإلى موضوع سخرية الأهالى الخائفين على حياتهم وممتلكاتهم، وكل ذلك يجرى ببركات الرئيس مرسى، والذى يأخذ أوامره وتوجيهاته من مكتب إرشاد جماعة الإخوان، ويتنكر لقسمه الرئاسى، ويتذكر فقط بيعته لمرشد الإخوان، ويسارع بعملية تحطيم الدولة تمهيداً للأخونة اللاحقة، فجماعات الإرهاب لا تعد خطراً فى تفكير قيادة الإخوان، بل هم رصيد إضافى قد يلجأ الإخوان إليه عند الحاجة، وإقامة خطوط وتواصل مع الإرهابيين قد تكون مفيدة للإخوان، وهو ما يتصرف مرسى على أساسه، ويتعهد لهم بالحفاظ على وجودهم وسلاحهم، ومقابل عدم إحراجه بالتوالى السريع للعمليات، والوعد بإضعاف ثقة الجيش المصرى بنفسه، و«خض ورج» قيادته الحالية لدفعها إلى مواضع حرج، وتمهيداً على مايبدو للاستغناء القريب عنها، وتسريحها بالمعروف أو بدون معروف، وتنصيب قيادة تكون أكثر سلاسة وطاعة للإخوان، وهو ما يفسر إحباط عمليات الجيش، والتى يقول مرسى إنه يتولى قيادتها بنفسه(!)، وتحويل قوات الجيش إلى ما يشبه «الفيل الأعمى»، وبغير معلومات مخابرات دقيقة تيسر عملها وتنير طريقها، وتحويل الخطة «نسر» إلى الخطة عصفورة، وإرباك قيادة الجيش بالأوامر السياسية المريبة المتضاربة، والتى تصدر بتنسيق كامل مع الإسرائيليين والأمريكيين، فقد سبق أن دفع الجيش بأعداد كبيرة من المدرعات والدبابات إلى شرق سيناء، ثم صدرت أوامر مفاجئة بسحبها تنفيذاً لتعليمات الإسرائيليين، وهو المشهد نفسه الذى يتكرر الآن، إذ يجرى الدفع بقوات ودبابات ومدرعات، ثم يجرى سجنها فى أطواق تحيط بالمنشآت العامة، وقد لا تكون من مفاجأة إذا تكررت الخيبة مرة أخرى، وإذا صدرت أوامر مرسى بسحبها مجدداً، فقد كان تفريغ سيناء من السلاح المصرى هدفاً إسرائيلياً ثابتاً، وهو ما حدث بعد توقيع معاهدة العار المعروفة باسم معاهدة السلام، كانت تلك خيانة كامب ديفيد، والتى لا تمحى بمجرد العودة الرمزية لقوات ومعدات تابعة للجيش، بل بفرض السيطرة كاملة على أراضى سيناء، وفرض الأمن كاملا لأهالى سيناء، وفرض سيادة الدولة المصرية حتى حدودنا الدولية، والقضاء المبرم على الإرهابيين وجواسيس إسرائيل، وحرمان إسرائيل من امتياز نزع السلاح المصرى فى سيناء، وهو ما لا يبدو أن مرسى يريده ولا جماعته الإخوانية، أو بالدقة لا توجد أمارات على أنّه يريده، وبقدر ما توجد أمارات خطر على خطط عكسية تماماً، تنفصل فيها سيناء عملياً عن المجموع والبدن المصرى، ويتحول فيها وجود الدولة المصرية إلى «خيال مآتة»، لا يخيف أحداً، ويتحول شرق سيناء بالذات إلى منطقة نفوذ مشترك للإسرائيليين وجماعات الإرهاب، وهو ما تساعد سياسة مرسى على تنفيذه بالقصد أو بدونه، فهو يفضل التفاوض مع الإرهابيين شركائه فى تياره «الإسلامى»، ويلجأ لشل يد الجيش وجهاز المخابرات، ويبعث برسائل تطمين إلى الإسرائيليين، ويريد أن يثبت جدارة سيادته برعاية السادة الأمريكيين المحتلين لمصر. وباختصار، ثمة خيانة عظمى تتم الآن فى سيناء، وسياسة الرئيس مرسى لا تبدو بعيدة عنها، والصمت على ما يجرى هناك جريمة، والمطلوب: تحرك عاجل قبل أن نصحو ذات يوم قريب على خبر انفصال سيناء. نشر بالعدد 622 بتاريخ 12/11/2012