توقعات بارتفاع أسعار الذهب إلى 5 آلاف دولار للأوقية في غضون عام    فيديو.. شاحنات اللجنة المصرية تعيد النازحين الفلسطينيين إلى شمال غزة    معهد فلسطين لأبحاث الأمن: اتفاق شرم الشيخ يعكس انتصار الدبلوماسية العربية    منتخب مصر المشارك في كأس العرب يختتم استعداداته لمواجهة البحرين وديا    الكرواتي زيلكو بابيتش مديرا فنيا ليد الزمالك    ماذا قال شهود الإثبات والنفي في قضية أطفال دلجا خلال جلسة استغرقت 60 دقيقة؟    محافظ كفرالشيخ يوجّه بتغيير خط مياه الشرب بقرية الرغامة    «المشاط» تبحث مع المفوضية الأوروبية جهود تنفيذ آلية تعديل حدود الكربون CBAM    قريبًا.. مصر تستقبل التوقيت الشتوي لعام 2025 هل مستعد لتغيير الساعة؟    تقديم 64 مرشحًا بأسيوط بأوراق ترشحهم في انتخابات النواب    «الري»: التعاون مع الصين فى 10 مجالات لإدارة المياه (تفاصيل)    مئات القتلى والجرحى بسبب هجمات الدعم السريع على الفاشر    موسكو: بوتين يرى أن تعزيز العلاقات مع كوريا الشمالية أمر بالغ الأهمية    «القاهرة الإخبارية»: وزير الخارجية العراقي يبحث ملف المياه مع نظيره التركي بأنقرة    منظمة العمل العربية تطالب سلطات الاحتلال بتعويض عمال وشعب فلسطين عن الأضرار التي سببتها اعتداءاتها الوحشية    رئيس جامعة السويس: إدراج الجامعات المصرية في تصنيف التايمز العالمي يعكس تطور التعليم    غدًا.. محاكمة 60 معلمًا بمدرسة صلاح الدين الإعدادية في قليوب بتهم فساد    القنوات الناقلة لمباراة الإمارات وعُمان مباشر اليوم في ملحق آسيا لتصفيات كأس العالم    سكالوني يكشف سبب غياب ميسي عن ودية فنزويلا وموقفه من المباراة المقبلة    موعد وملعب مباراة الأهلي وإيجل نوار البوروندي    المجلس القومي للمرأة يستعرض إنجازات البرنامج الوطني للاستثمار في الفتيات "نورة"    الجو هيقلب.. بيان عاجل من الأرصاد الجوية يحذر من طقس الأيام المقبلة    الداخلية تكشف تفاصيل ضبط سائق يسير عكس الاتجاه بالتجمع الخامس ويعرض حياة المواطنين للخطر    إحالة أوراق المتهمة بقتل زوجها وأطفاله الستة في المنيا إلى المفتي    الداخلية تكشف حقيقة سرقة شقة بالدقي    هدايا على السناكس.. ضبط 6 آلاف كيس عصير منتهي الصلاحية في حملة بالغربية    مصطفى هريدي يكشف لأول مرة أسباب غيابه وأسرار عن حياته الفنية والشخصية    تفاصيل لقاء السيسي بالمدير العام لليونسكو (صور)    وزير الخارجية الأسبق نبيل فهمي: هناك حرب هوية في الشرق الأوسط    أحمد مجدي: مهرجان الفيوم السينمائي يتطلع ليصبح منصة عالمية للسينما والتنمية المستدامة    إيهاب فهمي: "اتنين قهوة" يُعرض في ديسمبر | خاص    اكتشاف قلعة عسكرية جديدة من عصر الدولة الحديثة بسيناء    في 3 أيام.. إيرادات فيلم هيبتا 2 تقترب من 11 مليون جنيه    المدير التنفيذي للهلال الأحمر ل«الشروق»: خطة إنذار مبكر ورفع جاهزية الفروع استعدادا لفصل الشتاء    إجراء 10 جراحات شرجية بالليزر في مستشفى إبشواي المركزي    منها تنظيم السكر وتقليل التوتر.. 7 فوائد صحية لبذور اليقطين    إنفلونزا المعدة.. تعرف على الأعراض وطرق الوقاية من العدوى    رئيس الوزراء يتفقد مصنع "تي آند سي" للملابس الجاهزة بالقليوبية.. ويوجه بدعم التوسع في الإنتاج والتصدير    زراعة المنوفية: ضبط 20 طن أسمدة داخل مخزنين بدون ترخيص فى تلا    في اليوم العالمي للفتاة.. التعليم العالي: نحو 2 مليون طالبة في الجامعات والمعاهد العليا    «المشاط» تبحث مع المفوض الأوروبى للبيئة جهود تنفيذ آلية تعديل حدود الكربون    ويتكوف وقائد القوات الأمريكية يزوران جنود الاحتلال فى غزة.. صور    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 11-10-2025 في محافظة الأقصر    الرباعة سارة سمير بعد التتويج بثلاث فضيات ببطولة العالم: دايمًا فخورة إني بمثل مصر    العرفاوي: لا ندافع فقط في غزل المحلة.. ونلعب كل مباراة من أجل الفوز    عاجل- الدفاع المدني في غزة: 9500 مواطن ما زالوا في عداد المفقودين    حان وقت تغيير ساعتك.. كيف تواجه تحديات التوقيت الشتوي؟    إحالة أوراق عامل ونجله لمفتي الجمهورية لقتلهما شابا في قنا    «التضامن» تبحث مع مدير مشروع تكافؤ الفرص «EOSD» بالوكالة الألمانية دعم مشروعات الحماية الاجتماعية    انتخابات النواب: رقمنة كاملة لبيانات المرشحين وبث مباشر لمتابعة تلقى الأوراق    الأزهر للفتوى: حرق قش الأرز حرام لما فيه من إفساد في الأرض وإضرار بالنفس والبيئة    الرعاية الصحية: تعزيز منظومة الأمان الدوائي ركيزة أساسية للارتقاء بالجودة    منها «القتل والخطف وحيازة مخدرات».. بدء جلسة محاكمة 15 متهما في قضايا جنائية بالمنيا    أسعار الدولار اليوم السبت 11 أكتوبر 2025.. وصل لكام؟    تعرف على فضل صلاة الفجر حاضر    «رغم زمالكاويتي».. الغندور يتغنى بمدرب الأهلي الجديد بعد الإطاحة بالنحاس    فتاوى.. بلوجر إشاعة الفاحشة    فتاوى.. عدة الطلاق أم الوفاة؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسائل هيكل التي لم تصل
نشر في الشروق الجديد يوم 21 - 02 - 2016

مثلي، قد تتفق أو «تختلف» مع بعض ما ذهب إليه «الأستاذ» من «آراء»، ولكنك لا تملك أن تختلف مع حقيقة أن رجلا؛ لم يرفع غير قلمه سلاحا حاربته دولٌ وجماعات، وحاربه ملوكٌ ورؤساء .. فهل هناك دليلٌ على «قيمة الكلمة» أكثر من ذلك.
في سبتمبر 2013، وفي عيد ميلاده التسعين، آثرت ألا أكتب «كغيري» عن الرجل، بل عن «قلمه» وما كَتب. مدركا حقيقة أن كلنا فى النهاية ذاهبون، ولا يبقى من كل منا من أثرٍ غير ما عمل أو قال أو بحكم المهنة «ما كتب». ومذكرا بأنك سواء اتفقت معه أو اختلفت، فللرجل مع الكلمة باع، وتاريخ .. «وأثر»، ستون كتابا، ومقالات لا حصر لها، وحوارات ولقاءات ووقائع تحقيق: أمام المدعى الاشتراكى (صيف 1978) ثم أمام رئيس هيئة الفحص والتحقيق في مسألة أموال مبارك المهربة (مايو 2011)
علي طاولتي «بقلم محمد حسنين هيكل أو بصوته» نصُ محاضرةٍ في معرض الكتاب (1995)، ومقالٌ في «وجهات نظر» (يونيو 2000) تحت عنوان «حديث مستطرد عن السياسة الداخلية»، ثم نص لمحاضرة الجامعة الأمريكية الشهيرة (أكتوبر 2002). ثم شريطان مسجلان لحديثين؛ أحدهما في «قناة الجزيرة» في يونيو 2005.والثاني في قناة CBC في أبريل 2015 وأخيرا كتابه الأخير (من جزئين) عن «مبارك وزمانه .. وما بعد زمانه».
وأحسب أن في سطور هذا كله، وعباراته المكتوبة أو المنطوقة «رسائل لم تصل» .. وأخشى أنها مازالت «لم تصل» إلى من يهمه الأمر.
كيف صرنا إلى ما صرنا إليه في هذا البلد الصبور الطيب؟
قبل عشرين عاما كاملة، وفي محاضرته «الاستثنائية» في معرض الكتاب (لم يُدع بعدها أبدًا)، لخصَ هيكل أو لعله شخَّص الأمرَ كله في عبارة شاعت وصفا وتلخيصا: «سلطة شاخت في مواقعها..» ويومها بدأ حديثه بمحاولة توصيف الأحوال في مصر توصيفًا موثقا وبالأرقام. ملاحظًا أنه «ومع أن كل الناس يستطيعون ملامسة الحقيقة في معايشتهم لحياة كل يوم، فإن هناك إلحاحا زائدا عن كل حد لتلوين الصور وتزويقها».
اقتصاديا عاد هيكل في توصيفه يومها للأحوال في مصر إلي أرقام رسمية مأخوذة من مراجع معتمدة أولها مرجعية البنك الدولي. لينبه إلي «حقائق اجتماعية تتصل بهذه الحقائق الاقتصادية وتترتب بالضرورة عليها». منها أن البطالة في مصر زادت زيادة مخيفة والأخطر أنها تنتشر بين خريجي الجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة وهي «كتلة تعلمت وتهيأت للعمل في بلد يعتبر التعليم فيه وسيلة وحيدة للصعود الاجتماعي». ويعني ذلك في نهاية المطاف أنها بطالة مدركة واعية قابلة لأن تتحول إلي شحنة غضب عارم يشعر أن مجتمعه يسلبه حقا كان يحسبه في انتظاره. (بالمناسبة كانت مانشتات الصحف أيامها (1995) تتحدث عن وعد رئاسي بتوفير 5،4 مليون فرصة عمل في السنوات الست «الرئاسية» القادمة. في حين كان خبر في صفحة داخلية يتحدث عن أن مسؤولي إحدي المحافظات حين نشروا إعلانا يطلبون فيه «خفراء للمقابر» يعرفون القراءة والكتابة، فوجئوا أن من بين المتقدمين ألفًا وخمسمائة من خريجي الجامعات، أحدهم يحمل درجة الماجستير)
يومها أيضا صدم هيكل مستمعيه «قلقًا علي مستقبل الاستقرار الاجتماعي في مصر» بعرض تقرير وضعته مجموعة دولية عن المؤشرات الطبقية الجديدة في مصر، مقارنا بين قمة الهرم الاجتماعي الضيقة شديدة الثراء، وقاعدته الفقيرة شديدة الاتساع، متخوفا «أننا أمام وضع لا مفر من التسليم بأنه بالفعل مخيف لأن النار قريبة من الحطب بأكثر مما تحتمله سلامة الأحوال في مصر»، وملاحظًا أن هناك «حالة من خلل التوازن راحت تعتري المجتمع المصري وتهزه بقسوة .. وأن هذا التناقض الحاد بين الفقر والغني سبب شعورا بالاستفزاز يصعب تجاهله، خصوصا وقد بدا تركيز الغني غير مبرر، وأيضا غير مشروع. ثم إن حصار الفقر بدا هو الآخر غير مبرر وغير شرعي».
وبعد أن يرصد ما جري للطبقة الوسطي في مصر، يعرب هيكل يومها عن قلقه لجموح أسباب العنف وموجباته. فالسلام الاجتماعي في أي وطن ليس مسألة حض علي فضيلة الصبر، وليس مسألة نص قانوني يغلظ العقوبات علي مخالفة مواده.. «إنما السلام الاجتماعي مطلب مركب، وهو مشروط بشرعية السلطة، مشروط بمشروعية الثروة، مشروط بحقوق المواطنة، مشروط بإحساس المساواة بين الناس وإن تفاوتت الكفاءات أو حتي الحظوظ..».
حديث الاقتصاد، والذي هو في التحليل النهائي انعكاس السياسة علي حياة الناس اليومية، لم يغب عن مقال هيكل في «وجهات نظر» (يونيو 2000) عن «السياسة» في مصر. والذي أشار فيه إلي ملاحظات مقلقةٍ عن المناخ الذي تتوالد فيه ظواهر منها ما هو دعائي لا يغني ولا يسمن من جوع، ومنها ما يعمل وإن ببطء علي تآكل تماسك هذا البلد وحيويته:
1 أن أرقامًا غير دقيقة يجري ترويجها، بجرأة بالغة … ولهذا مخاطره مهما كان إغراء الأرقام البراقة. «إذ تَتَحَوَّل إلي نوعٍ من خداع البَصَر».
2 أن حديث المشروعات العملاقة ملأ الدنيا وشغل الناس، وصعد بسرعة إلي رأس قائمة الأولويات، وفي الصدارة منه «مشروع توشكي».. والذي تبين لاحقا أيضا أن إغراء التصريحات البراقة حوله كان غالبا.. وربما خادعًا.
3 أن ظاهرة تفاقمت في الحياة الاجتماعية المصرية، وتمثلت في تكالب علي الاستهلاك «مُتَوَحِّش»، بدت بعض مظاهره في أفراحٍ تتَكَلَّفَ ما بين مليونين إلي خمسة ملايين من الجنيهات وبينها ما زاد علي ذلك وأحياناً بكثير!
4 أن سباقا موازيًا بدا علنيًا لتخاطف أموال النظام المصرفي والحصول علي أكبر ما يمكن الحصول عليه منها، وتحويله إلي الخارج.. ثم الهرب.
•••
لم تكن رسائل هيكل «المبكرة» والعلنية عن مناخات اقتصادية هي بالضرورة مهددة ليست فقط للسلام الاجتماعي، بل وللنمو الاقتصادي ذاته هي الوحيدة التي لم تصل «إلى من يهمه الأمر»، إذ بدت «رسائل السياسة» التي تواترت بعد ذلك أكثر قابلية للإزعاج … والتجاهل.
يدافع هيكل في «الجزيرة» 2005 عن «تغيير بات ملحًا». ويرد علي الذين يرفضونه بدعوي «الاستمرار والاستقرار» بالتأكيد علي أن «الاستقرار الحقيقي هو مسايرة متغيرات الزمن» مشيرا إلى مجموعات المصالح «المتشابكة» التي تستولي بسلطتها أو بنفوذها علي الإدارة ثم علي الحكومة ثم علي الدولة كلها. محذرا من مناخ يعمل على نمو ظاهرة أسماها «One Man Show»،
حديث «التغيير الملح» هذا كان قد مهد إليه بمقال في «وجهات نظر» يونيو 2000 منبها إلى خطورة أننا في عالمنا العربي ورغم وجود ما أسميناه أنظمة جمهورية، نتحدث في واقع الأمر عن «الولاية» ولا نتحدث عن الإدارة، وهنا المشكلة. اذ أن تلك مفاهيم تنتمي لزمن لم يعد يعيش فيه أحد. ولم تعد تصلح في أزمنة الدساتير والقوانين والمواثيق والعهود الإنسانية الكبري ، وفي أزمنة جري فيها ترويض أعتي الأنظمة الملكية، ووقع إرغامها علي أن تضيف «الدستورية البرلمانية» لاحقة بالملكية في الوصف وسابقة عليها في الحقيقة! ثم قضت علي الملكية أن تكون محصورة في المراسم لا تتجاوزها إلي سلطة الحكم.
إذ إن العالم «المتقدم» ينبهنا هيكل يعرف ويتصرف علي أساس أن السلطة تفويض مؤقت من شعب يملك الولاية بمعني السيادة في حوزته، ثم هو يُفَوِّض بالانتخاب الحُرِّ بعض تنظيماته وأفراده بإدارة شئونه السياسية، مُتَعَرَّضين طول الوقت للحساب باعتبارهم «إدارة لا ولاية». وهكذا فإن الكل:
يُحاوِر «الإدارة» وبالشدة أحياناً كما حدث للرئيس «كنيدي» بعد محاولته الفاشلة لغزو كوبا سنة 1961.
ويُعارِض «الإدارة» كما حدث للرئيس «جونسون» بسبب حرب فيتنام.
ويُحاكِم «الإدارة» كما حدث للرئيس «بيل كلينتون» بسبب تصرفات شخصية تجاوز بها حدود اللياقة ولو لم يتجاوز حدود القانون في قضية «مونيكا لوينسكي».
ويعزل «الإدارة» كما حدث للرئيس «ريتشارد نيكسون» لأنه خَدَعَ الرأي العام الأمريكي وكذب عليه كما حدث في فضيحة «ووترجيت»!
•••
رغم أهمية «ووضوح» الرسائل التي لم تصل (ولعلها لم تصل بعد) في 1995، و2000، 2005، ربما كانت محاضرة الجامعة الأمريكية بالقاهرة أكتوبر 2002 هي الأكثر أهمية إذ ربما كما أشرت هنا من قبل لم تكن فقط «الكلمة» الأولى التى تُنَبه مبكرا الى خطورة مشروع التوريث الذى كان، بل لعلها قدمت، ومبكرًا أيضًا إطارا «فكريًا» وضروريًا لفهم حركة التاريخ «والشرعية» فى بلادنا. وكيف أن قصورا فى فهم، أو بالأحرى مواكبة هذا التطور الذى حكى عنه عالم الاجتماع الأشهر ماكس فيبر، أو «الاكتفاء بمظهره دون جوهره» كان سببا مباشرا فى انهيار نظام مبارك وحزبه، ومن بعده مرسى وجماعته، رغم اختلاف الألوان والمشاهد والظلال؛ حنكة وحمقًا، غرورا ومراوغة. بل لعلى لا أبالغ إن قلت أن قصورًا «نخشاه» فى فهم حتمية التطور تلك ربما يحكم أيضا نهاية أي نظام حالي أو لاحق، إن لم يع الدرس ويستلهم العبر.
يتحدث هيكل بوضوح عن «الديموقراطية التي لا ينبغي أن تتأخر» مهما كانت دعاوى أو حجج من اطمأن إلى وجودٍ في الحكم، أو من اقترب من وهج سلطة لا يريد لموازينها أن تتغير.
ففى الغد أحدُ احتمالين (والكلام هنا للأستاذ في محاضرته): إما صورة تتكرر بها الصور على نحو ما، أو انه، إذا صدق الوعد والعهد، باب مفتوح لتطور صحى تستقيم به الأمور وتستقر الحقوق … وفى محصلة ذلك ومغزاه ان مصر الآن وليس غدا، فى حاجة الى رؤية للهوية أمينة، والى سند فى المرجعية أصيل، والى شرعية تؤسس لزمن، يستحيل قبوله امتدادا متكررا لشرعية الرجل الواحد، أو لدعاوى حزب مهما اعتبر نفسه ديمقراطيا.
ومن المحقق ان الوقت حان وزيادة، للانتقال الى الدرجة الأعلى فى مراحل الشرعية «الحقيقية». لأن مصر بكل ما حققت، تجاوزت، وينبغى لها أن تتجاوز، مرحلة الشرعية الأبوية التقليدية، إلى شرعية دستورية حقيقية
ثم منبها يومها الى «تحديات زمان جديد لا تحتمل إستراتيجية الانتظار وسياسة التأجيل»، يأخذنا هيكل عبر محاضرته الى عدد من الملحوظات، أهمها:
أن مجرد التواجد فى الحكم ليس كافيا فى حد ذاته لاضفاء الشرعية على أى تنظيم أو نظام.
أن المطلوب ليس نقلة من رجل إلى رجل وإنما من عصر إلى عصر أى من شرعية تستوجبها الظروف إلى شرعية يتطلبها المستقبل. وبالتالى: من الفرد الى المجموع، ومن الحاكم إلى الدستور ومن الصورة إلى القانون.
أنه لا مكان للارتجال. فالارتجال ثغرة ينفذ منها المجهول فى زمن لا يتحمل الثغرات، ولا ينتظر المصادفات ولا يقبل مناورة تؤخر جواب كل سؤال إلى الدقيقة الأخيرة من الساعة الأخيرة، ثم تضيع الفرص ومعها حق الاختيار.
•••
في كتابه الأخير، وأحاديثه التلفزيونية الأخيرة، كانت ربما رسائله الأخيرة:
عن التكامل والتناقض في ثنائية الأمن والأمان، ينبهنا هيكل إلى خطورة أن يصبح «لأمن» النظام وأمن الرئيس الأولوية على الشعور «بالأمان» الذي يمكن أن توفره سياسات عادلة اقتصادية وسياسية واجتماعية، لا احتكار فيها لسلطة ولا تمييز فيها لصاحب سطوة أو نفوذ. ويُذكرنا في كتابه الأخير «مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان» بكيف أخذ هاجس الأمن «بالتنصت» على حياة الناس الخاصة ومحادثاتهم الهاتفية لأن يصبح «ثقافةَ نظام» (بعض من تلك التسجيلات وجدت طريقها أخيرًا إلى شاشات الفضائيات وصفحات الصحف). كما يُذكرنا بكيف وصلت هيستريا الولاء والإجراءات الأمنية أيام السادات مثلا (وهو ما تضاعف أيام مبارك) إلى درجة رصد «حوافز» ومكافآت خاصة لرجال الشرطة المكلفين بحماية موكب الرئيس. وأن تتميز هذه المكافآت عن غيرها بأن توضع في أظرف خاصة عليها شعار رئاسة الجمهورية، تُذكر من يتسلمها ولو بالإيحاء أنها من «ولي النعم»!! وكيف لم تفلح هذه الإجراءات في الحيلولة دون أن تضرب المقادير ضربتها يوم 6 أكتوبر 1981 «بواسطة ضابط في القوات المسلحة، بيده رشاش من صنع روسي، وفي جيبه مسدس من صنع أمريكي!! (هيكل: مبارك وزمانه، ص: 176)
وكما عن هاجس الأمن، يحكي لنا هيكل أيضا في كتابه الممتع والمؤلم في آن، عن «هاجس البروتوكول» (ص: 199) وكيف أن الشكل لا الموضوع (وطول «البساط الأحمر») كان دوما الشاغل الأول لرجال الرئيس (!)
ثم كان في أحاديثه التلفزيونية الأخيرة أن ذكرنا بما نعرف من أن نظام مبارك لم يسقط بعد، داعيًا من صار في السلطة إلى «الثورة على نظامه». وهو الحديث الذي كان من الطبيعي أن يفتح عليه نيرانا من نظام بدا قد عاد واستقر. كما بدا أن داخل هذا النظام من أراد مبكرا أن يدفع بقلم «الأستاذ» المؤثر إلى مربع الحياد، عبر رسالة إزعاج مبكرة بسؤال أمام «قاضي تحقيق» اهتم «بدقة» الأرقام التي هربها مبارك (لا بكيفية استعادتها). ثم كان أن طال التحذير مشاعر إنسانية يعرفها كل أب، مع حملات إعلامية بدت منظمة وإن اختفى منظموها.
……………….
ثم يبقى أنه فضلا عن أن هناك من اعتقد أن بإمكانه «تأميم» الرجل، فقد كان للأسف أن لحق بصاحب القلم ما لحق منطقتنا كلها من رياح «استقطاب» تعصف بكل رأي «آخر»، منذ انقلب صدام على العروبة بجريمة غزو الكويت (1990) وحتى انقلب من انقلب في غير قطر عربي على «ربيع» حاول شباب العرب أن يغرسوا أزهاره في صحراء قاحلة تيبست أحجارها، وشخوصها، وقصورها. فنسي البعض ما كتبه عنه عبد الوهاب المسيري في مذكراته، وما كتبه عنه طارق البشري في وجهات نظر (أكتوبر 2003)، كما نسي آخرون ما قاله زمن مبارك، ثم تأييده المطلق لما جرى في 25 يناير في كتابه الأخير عن مبارك وزمانه
•••
وبعد..
فقد كان الأستاذ، منذ أن كتب لقارئه رسالته الشهيرة «استئذان في الانصراف» (سبتمبر 2003) يحرص دائما على أن يؤكد على أن هناك جيلٌ يملك وحده المستقبل. وله وحده الحق في أن يقرر ماذا يريد لأيامه القادمة .. وأن يفعل.
أما نحن «فأيامنا خلفنا» كما قال غير مرة. وعليه، فليس لنا أوعلينا غير أن نقول «كلمتنا» ونمضي .. وقد كان.
……………….
في مسجد سيد الشهداء، في قلب القاهرة القديمة جالسين في انتظار صلاة الجناز، تصادف أن كان بجواري شاب يبدو عشرينيا. ثم كان عندما تبين مجاورَه أن مال علي هامسا: «قل لمصر بالراحة علينا. لم نعد نحتمل».
أرجوكم، اقرأوا رسائل هيكل، وترفقوا بالمستقبل.
لمتابعة الكاتب:
twitter: @a_sayyad
Facebook: AymanAlSayyad.Page
روابط ذات صلة:
هيكل: «استئذان في الانصراف»
هيكل: محاضرة الجامعة الأمريكية
طارق البشري: محمد حسنين هيكل .. لمائا؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.