انتخاب أحمد أبو هشيمة عضوا بمجلس أمناء التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي    بايدن يعرب عن أسفه لمقتل فلسطينيين بقنابل أمريكية الصنع في غزة.. ويحذر إسرائيل.. عاجل    مصدر مطلع: مصر تواصل جهودها لوقف إطلاق النار وهناك إشارات لنضوج الاتفاق    «المصريين الأحرار»: بيانات الأحزاب تفويض للدولة للحفاظ على الأمن القومي    عاجل.. فيفا يفاجئ الأهلي بخبر سار قبل نهائي أفريقيا    جريمة تهز العراق، أب يقتل 12 فردا من عائلته ثم يتخلص من حياته (صور)    حقيقة تعديل جدول امتحانات الثانوية العامة 2024.. اعرفها    معلومات عن ريهام أيمن بعد تعرضها لأزمة صحية.. لماذا ابتعدت عن الفن؟    ملف رياضة مصراوي.. تأبين العامري فاروق.. تأهل ريال مدريد.. وقائمة الزمالك    الزمالك يشكر وزيرا الطيران المدني و الشباب والرياضة لدعم رحلة الفريق إلى المغرب    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 9 مايو في محافظات مصر    زعيمان بالكونجرس ينتقدان تعليق شحنات مساعدات عسكرية لإسرائيل    إبراهيم عيسى: الفكر السلفي معطل للاقتصاد المصري وخطر على الدولة    بالصور.. حميد الشاعري في عزاء والد طليقته    محافظ الإسكندرية يكرم أبطال سلة الاتحاد عقب فوزهم بكأس مصر    صفقة سوبر على أعتاب الأهلي.. مدرب نهضة بركان السابق يكشف التفاصيل    ميدو يوضح رأيه في اعتراض الزمالك على حكام نهائي الكونفدرالية    بعد إصدار قانون التصالح| هذه الأماكن معفاة من تلك الشروط.. فما هي؟    إعلام فلسطيني: غارة إسرائيلية على حي الصبرة جنوب مدينة غزة شمالي القطاع    إعلام إسرائيلي: تصريح بايدن حول وقف شحنات الأسلحة "زلزال قوي" للعلاقات بين البلدين    التابعي: الزمالك يمكنه حصد الكونفدرالية وأنصح هذا اللاعب بعدم التهور    6 طرق لعلاج احتباس الغازات في البطن بدون دواء    أحمد موسى: محدش يقدر يعتدي على أمننا.. ومصر لن تفرط في أي منطقة    محمد فضل: جوزيه جوميز رفض تدريب الأهلي    عيار 21 الآن بعد الزيادة.. أسعار الذهب بالمصنعية اليوم الخميس 9 مايو بالصاغة (آخر تحديث)    توفر مليار دولار سنويًا.. الحكومة تكشف أهمية العمل بجدول تخفيف الأحمال (فيديو)    إنتل تتوقع تراجع إيراداتها خلال الربع الثاني    ارتفاع ضحايا حادث «صحراوي المنيا».. مصرع شخص وإصابة 13 آخرين    العظمى بالقاهرة 36 درجة مئوية.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الخميس 9 مايو 2024    "الفجر" تنشر التقرير الطبي للطالبة "كارولين" ضحية تشويه جسدها داخل مدرسة في فيصل    سواق وعنده 4 أطفال.. شقيق أحمد ضحية حادث عصام صاصا يكشف التفاصيل    تعرف على سعر الفراخ البيضاء والبيض بالأسواق اليوم الخميس 9 مايو 2024    رئيس هيئة المحطات النووية يهدي لوزير الكهرباء هدية رمزية من العملات التذكارية    نبيل الحلفاوي يكشف سبب ابتعاد نجله عن التمثيل (تفاصيل)    برج الأسد.. حظك اليوم الخميس 9 مايو: مارس التمارين الرياضية    محمود قاسم ل«البوابة نيوز»: السرب حدث فني تاريخي تناول قضية هامة    مندوب الجامعة العربية بالأمم المتحدة: 4 دول من أمريكا الجنوبية اعترفت خلال الأسبوع الأخير بدولة فلسطين    استشاري مناعة يقدم نصيحة للوقاية من الأعراض الجانبية للقاح استرازينكا    وزير الصحة التونسي يثمن الجهود الإفريقية لمكافحة الأمراض المعدية    محافظ الإسكندرية يشيد بدور الصحافة القومية في التصدي للشائعات المغرضة    وزير الخارجية العراقي: العراق حريص على حماية وتطوير العلاقات مع الدول الأخرى على أساس المصالح المشتركة    وكيل الخطة والموازنة بمجلس النواب: طالبنا الحكومة بعدم فرض أي ضرائب جديدة    بالصور.. «تضامن الدقهلية» تُطلق المرحلة الثانية من مبادرة «وطن بلا إعاقة»    «زووم إفريقيا» في حلقة خاصة من قلب جامبيا على قناة CBC.. اليوم    عبد المجيد عبد الله يبدأ أولى حفلاته الثلاثة في الكويت.. الليلة    مستشهدا بواقعة على صفحة الأهلي.. إبراهيم عيسى: لم نتخلص من التسلف والتخلف الفكري    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لنا في كل أمر يسراً وفي كل رزق بركة    دعاء الليلة الأولى من ذي القعدة الآن لمن أصابه كرب.. ب5 كلمات تنتهي معاناتك    التحالف الوطنى يقدم خدمات بأكثر من 16 مليار جنيه خلال عامين    طالب صيدلة يدهس شابا أعلى المحور في الشيخ زايد    رئيس جامعة القناة يشهد المؤتمر السنوي للبحوث الطلابية لكلية طب «الإسماعيلية الجديدة الأهلية»    متحدث الصحة يعلق على سحب لقاحات أسترازينيكا من جميع أنحاء العالم.. فيديو    الكشف على 1209 أشخاص في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    أيهما أفضل حج الفريضة أم رعاية الأم المريضة؟.. «الإفتاء» توضح    رئيس«كفر الشيخ» يستقبل لجنة تعيين أعضاء تدريس الإيطالية بكلية الألسن    أول أيام شهر ذي القعدة غدا.. و«الإفتاء» تحسم جدل صيامه    بالفيديو.. هل تدريج الشعر حرام؟ أمين الفتوى يكشف مفاجأة    حزب العدل: مستمرون في تجميد عضويتنا بالحركة المدنية.. ولم نحضر اجتماع اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



‎الأستاذ هيكل .. عبقرية الحياة
نشر في التحرير يوم 23 - 09 - 2014

جمال الجمل نختلف مع هيكل ولا نختلف عليه. هذا المدخل الذى يحاكى تعبيرات الأستاذ، يفتح مجالًا لنقاش حر ومنفتح مع أفكار هيكل، ويتسامح مع أى انتقادات لآرائه، ويسمح بتقويم مسيرته فى الصحافة والسياسة، ويبتعد بشخصيته عن حصانة القداسة، وبمحبيه عن تبعية الدراويش. حرصَ «الجورنالجى» منذ السطر الأول فى قصة حياته أن يعطى النقاد والمختلفين أقصى حقوق النقد والتعليق لكل ما ينشره أو يمارسه فى الشأن العام هيكل «جورنالجى»، لا يحبذ المواعظ والخطب الأخلاقية، والكلام المرسل، وعبارات الإنشاء البلاغية، فهو ابن الواقع، سليل الانفتاح الليبرالى، وطُموح التحديث فى الثلاثينيات والأربعينيات، صنع مجده عبر مسيرة شاقة لمطاردة الحقيقة، واصطياد الخبر، والاجتهاد فى توثيق الأحداث المثيرة للجدل، رافعًا راية البرجماتية بلا خجل، ومنتصرًا للعقل، والنقد، والتطلع للمستقبل. تقدير هيكل للثقافة والأدب ينبع من منطقة عميقة فى شخصيته منذ الطفولة والشباب المبكر حيث تربى على قراءة الأدب بتشجيع من الأم والخال هذه النزعة الواقعية لا تصلح لتصنيع «نبيا»، ولا تتسق مع فكرة العصمة من الخطأ، والتحصين ضد النقد والاختلاف، لذلك حرص «الجورنالجى» منذ السطر الأول فى قصة حياته، أن يعطى النقاد والمختلفين أقصى حقوق النقد والتعليق، لكل ما ينشره أو يمارسه فى الشأن العام، واحتفظ بجانب من حياته الخاصة بعيدًا عن مساحات النشر، متمنيًا عدم الزج بها فى حلبة الصراع السياسى أمام بوابات القصر أو داخل ممرات الصحف، وحتى عندما يحدث ذلك، يلزم الجورنالجى الصمت، فلا يرد ولا يعلق على مهاجم أو منتقد، مهما طال الهجوم، ومهما تطرف أو تطرق. هذا الملف إذن ليس محاولة للدفاع عن رجل اختار أن لا يدافع عن نفسه، لكنه «وقفة موضوعية» لإظهار جانب من قيمة وقامة كاتب صنع تاريخه بقلمه واجتهاده، كما أنه «وقفة عاطفية» لتقديم لمسة تكريم، ومشاعر تقدير، وتحية واجبة فى عيد ميلاد شاب مصرى بسيط انطلق من القاهرة الشعبية مضيئًا فى سماء الصحافة العربية والعالمية.
* مع نجيب محفوظ: ملامح فى مسيرة التكوين

فى الضفة المقابلة لنجيب محفوظ فى القاهرة الفاطمية وُلدَ محمد ابن الحاج حسنين هيكل تاجر الحبوب فى خريف 1923، بعد عقدين من ميلاد محفوظ، جمعت بينهما سمات المكان المضمخ بعبق التاريخ، والزمان الذى تتصارع فيه قيم الأصالة مع محاولات التحديث، لكن «المقابلة» استمرت فى ظروف النشأة وانعكاساتها على الشخصيتين، فالحاج حسنين، كان بعيدًا عن سمات شخصية «سى السيد» التى تشكلت حولها حياة وأدب محفوظ، والسيدة هانم سلام (والدة محمد) كانت النموذج المقابل للست أمينة زوجة سى السيد، مسلوبة الإرادة والحقوق، فهى متعلمة وطَموحة، وتنتمى إلى تيار التحديث الذى كان يدب فى أوصال «القاهرة الجديدة». كانت الأم هى مفتاح تشكيل شخصية محمد، والموجه الأساسى لمسار حياته، وساعدها فى ذلك شقيقها سلام، فقد أصرت على تعليمه تعليمًا نظاميًّا فى مدرسة رسمية، ولم تكتفِ بحفظه للقرآن ومحو أميته الأبجدية، وغرست فيه بذور الطموح والالتزام والنظام، وعندما تخرج فى مدرسة التجارة المتوسطة، بدأ حياته العملية والتحق بعمل بسيط، تعرف من خلاله على زميل قوى البنية، كان يهوى الصحافة، وهكذا انضمت الصدفة إلى الاجتهاد والطموح لتفتح طريق الشهرة والمجد للاسم الثلاثى الذى سيصير بعد سنوات أسطورة الصحافة العربية: محمد حسنين هيكل. المفارقة بين حياة هيكل ومحفوظ، عادت لتجمعهما فى الحياة العامة، فقد فتح الصحفى الكبير مساحة نشر فى «الأهرام» للروائى الكبير، ونشأت علاقة مودة وتقدير برغم اختلافات المشارب والتوجهات السياسية، كان هيكل قوميًّا منتميًا لمشروع عبد الناصر، بينما ظل محفوظ وفْديًّا ليبراليًا، أقرب إلى الفرعونية، والنظر إلى مصر خارج حدودها، كما كان هيكل صحفيًّا يهتم بالأخبار والسياسة، بينما كان محفوظ موظفًا فى الصباح صعلوكًا فى المساء، مبدعًا تقدميًّا فى الخريف والشتاء، بيروقراطيًّا صارمًا بقية العام، ولا أحد يعرف على وجه اليقين سر احتفاء هيكل بمحفوظ وكبار المثقفين والأدباء فى تلك الفترة، مهما تباعدت الأهواء والانتماءات، يقول الخبثاء إن هذا الاهتمام مجرد وسيلة من النظام استخدم فيها هيكل لاحتواء تمرد المثقفين وأصواتهم العالية، خصوصًا بعد أزمة مارس وما تلاها، مما دفع هيكل لنشر مقالاته عن هذه الفترة فى كتاب «أزمة المثقفين»، ويقول آخرون إن تصرف هيكل مجرد شطارة صحفية، واستمرار لسياسته فى احتكار النجوم، والمنافسة بينه وبين صديقه اللدود مصطفى أمين و«أخبار اليوم»، لكننى أرى أن تقدير هيكل للثقافة والأدب ينبع من منطقة عميقة فى شخصيته منذ الطفولة والشباب المبكر، حيث تربى على قراءة الأدب بتشجيع من الأم والخال، وقدم فى شبابه المبكر تجارب نادرة فى كتابة القصة القصيرة نشر بعضها فى مطلع الأربعينيات، لكن يبدو أن الصحافة التهمت هذه الميول، وتغذت على الموهبة الأدبية، ووظفتها لصالح الكتابة الصحفية، وهو ما يبدو واضحًا فى أسلوب هيكل الذى يتماس مع أسلوب محفوظ فى تقنيات الوصف، ورسم الأجواء وملامح الشخصيات. فهل كان هيكل أديبًا اختطفته الصحافة، فظل يعوض ذلك الافتقاد برعاية الأدباء؟ سؤال يحتاج إلى بحث واستقصاء جاد.
* مع جمال حمدان: عناق الجغرافيا والتاريخ
‎ على مسافة خمسة كيلومترات وخمس سنوات من قرية باسوس، حيث تعيش عائلة محمد حسنين هيكل، وُلد جمال حمدان فى قرية ناى بمحافظة القليوبية (فبراير 1928)، اهتمّ والده مُدرِّس اللغة العربية الأزهرى بتحفيظه القرآن، واستكمال تعليمه، حتى تخرَّج بتفوق فى قسم الجغرافيا بكلية الآداب عام 1948، وعُيِّن معيدًا فى جامعة القاهرة، ثم سافر فى بعثة إلى بريطانيا، حصل خلالها على الدكتوراه فى فلسفة الجغرافيا من جامعة «ريدنج»، وبعد عودته إلى مصر حقّق نجاحًا أكاديميًا وشهرة بين المثقفين، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1959، لكنه قدَّم استقالته عام 1963، احتجاجا على تخطِّيه فى الترقية إلى وظيفة أستاذ، وخرج من الجامعة ليعيش فى صومعة العزلة، متفرّغا لدراساته الجغرافية، وأهمها «شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان». مرة أخرى يتقاطع هيكل مع مثقّف وعالم كبير، هو الدكتور جمال حمدان الذى يعتبر أن الجغرافيا مدخل أساسى لصناعة التاريخ. كانت القضية عند هيكل شائكة، فقد علّمته السياسة وسفريات الصحافة وحواراتها مع العلماء والزعماء أن الحضارة تولد من جدلية العلاقة بين الجغرافيا والتاريخ، وأن القرار السياسى والعسكرى لن يصدر صحيحا أبدا إذا تجاهل الخرائط، فالخرائط صارت أكثر من «وصف معلوماتى للتضاريس والأماكن»، ودخلت فى لغة الخطاب السياسى بتعريفات أوسع تشمل برامج العمل وخطط المستقبل وآفاق حل الأزمات. تخيلوا أن هيكل بكل أناقته ينحنى نحو أسفلت الشارع ويمسك حجرًا صغيرًا ثم ينظر حوله قبل أن يقذف نافذة شقة جمال حمدان الكائنة فى الدور الأرضي.

من هذا الاهتمام بدا هيكل يتابع دراسات حمدان منذ تخرّجه وانتشار خبر نبوغه وتعريفاته للجغرافيا، ولما صدر الجزء الأول من موسوعة «شخصية مصر» تلقفه هيكل، وقرأه بتركيز شديد، واعتبره واحدا من الأسس التى يجب أن يعتمد عليها مشروع تحديث المجتمع المصرى. وسأل هيكل عن حمدان، وتألّم من فكرة اعتزاله، وقرر أن يقتحم هذه العزلة ويزوره فى صومعته الضيقة بشارع «هارون» قرب ميدان المساحة بالدقى، ويحكى الكاتب عبد الله السناوى هذه القصة التى سمعها من رئيس تحرير مجلة «الهلال» الأسبق، مصطفى نبيل، والذى رتّب لهيكل زيارة حمدان ذات ليلة. تخيّلوا أن هيكل بكل أناقته ينحنى نحو أسفلت الشارع ويُمسك حجرا صغيرا، ثم ينظر حوله قبل أن يقذف نافذة شقة جمال حمدان الكائنة فى الدور الأرضى، فقد طرق مصطفى على الباب بشفرة معينة، لكن حمدان لم يفتح، وتعلّم هيكل طريقة الطرق التى اتفق حمدان عليها مع عدد محدود من الأصدقاء الذين يسمح لهم بالزيارة، لكن الباب ظلّ مغلقا، ورفض هيكل اقتراح مصطفى بترتيب موعد آخر، وتصرف بطريقة المراسل العسكرى والصحفى المقاتل، ورشق النافذة بالحجارة، ربما يكون حمدان نائما فيوقظه الصوت. وبالفعل فتح حمدان الباب بحذر، كان يرتدى روبا أحمر فوق بيجامته التقليدية المخططة، وشعر هيكل بالفزع من المكان المهمل الغارق فى الفوضى، فسأل حمدان: ليه كل ده؟ لماذا هذه العزلة وإسهاماتك مراجِع كبرى للباحثين والمثقفين؟ لماذا تفعل ذلك بنفسك وأنت الآن مؤثّر لحدود لا تتصورها فى التفكير العام؟ هل تعيد فكرة الرهبنة المصرية بالعزلة فى الخلاء ولكنك منعزل فى فوضى؟ واقترح هيكل استكمال اللقاء فى مكان آخر يصلح للحوار، ربما يتأثر حمدان بروعة الحياة الطبيعية فتُغريه بالعودة إليها. فى الفندق الفخم المطلّ على النيل على بُعد أمتار من صومعة حمدان، نظر عالم الجغرافيا إلى السيجار فى يد هيكل، وباغته بالسؤال: لماذا تتصرف كلورد بريطانى رغم أنك كنت صديقا لعدو بريطانيا جمال عبد الناصر؟ ردّ هيكل بابتسامة، وناول حمدان سيجارا وهو يقول: جرَّب، وأخذ حمدان السيجار، وصار ينفث الدخان فى الهواء، وهو يتأمل النيل، وبدأ خيط المناقشات عن عبقرية المكان وحركة التاريخ، وفى نهاية اللقاء اتفق هيكل مع حمدان على شيفرة معينة تُيسِّر له الاتصال بالتليفون الأرضى، بحيث يردّ حمدان مطمئنا، فلم تكن خاصية إظهار الرقم قد دخلت مصر، وكانت الشيفرة رنة واحدة، ثم يقطع الخط، ويتصل رنتين، ثم يقطع الخط، ليرد حمدان فى الثالثة. اتصل هيكل وردّ حمدان، واتفقا على لقاء فى مكتب هيكل قرب مكان الموعد الأول، وجاء حمدان حاملاً نسخة من «شخصية مصر»، عليها إهداء بخطه لهيكل، لكن الموت الغامض وضع حدّا للقاء الجغرافيا والتاريخ، وإن ظل تقدير هيكل لجمال حمدان واضحًا فى أسلوب مشترك، يذكّرنا بتقديره لمحفوظ والحكيم والأدباء والمثقفين، والذى يعكس صورة راقية للجوانب الأصيلة من ثقافة وتكوين هيكل. ومن نماذج تعبيرات هيكل الأسلوبية التى يشترك فيها مع جمال حمدان، والتى تعتمد على الثنائيات والسجع الخفيف، والتضاد، وتقابل المعانى، تعبيره عن حالة التخلف التى سيطرت على المجتمع طوال القرون الوسطى، وحتى صدمة اللقاء الحضارى مع مجىء الحملة الفرنسية إلى مصر، حيث كتب: «نام مجتمعنا على وهم ليصحو على كابوس»، وفى وصفه للجامعة العربية منتصف التسعينيات كتب: «بيت العرب صار مثل القصور المسكونة بالأشباح، يدخل إليه الناس بالخطأ، ويخرجون منه بالهرب»، وعن فترة الانفتاح الساداتى عقب نصر أكتوبر، حتى فترة مبارك، وما صاحبها من تبعية واختلاط أوراق كتب: «أخذتنا أهواء وتلاعبت بنا مطامع، ثم غلبتنا حقائق حياة وحقائق زمان»، ومن أشهر عباراته التى احتوت على ثنائيات تُشبه أسلوب حمدان فى شخصية مصر فسّر مأزق مصر قائلا: «خلطنا بين الثوابت والمتغيرات، الاستراتيجية والتكتيك، القيم والنزوات، الأصالة والتقهقر، التجديد والتقليد الأبله للآخرين». نتيجة: هكذا كان هيكل وسوف يظلّ جسرا تلتقى عليه الأفكار مهما تباينت، يجمع عقول مصر مهما تنوّعت، فالاختلاف ثراء، والتنوع مطلوب، والمنافسة حماس، والمشاركة واجب، والأمل ضرورة، والوطن يتسع للجميع. هذه الأسس هى سر عبقرية هيكل، وشبابه، واستمراره، فى الجغرافيا والتاريخ، ولا مكان فى الجغرافيا والتاريخ لمن لا يحترم قوانين الحياة.
المقدمات الهيكلية
محمد هشام عبيبه يبدو الأستاذ هيكل عصيًّا على الإلمام بتفاصيله. هو بحر متسع، كلما تصور المرء أنه أمسك بأطرافه اكتشف أن النهايات لا تزال بعيدة. ثم إنه فوارٌ ومتجددٌ مثل الموج؛ كلما ظن أحد -عدو أو صديق- أن رحلته انتهت إلى شاطئ أو إلى صخرة -ما أكثرها فى رحلته- عاد مالحًا ولاذعًا وقويًّا ومفاجئًا من حيث لا يتوقع أكبر العرَّافين فى هذا الكون. الأستاذ كتب مقدمات لنحو 35 كتابًا مزجت السياسة بالتاريخ بالأدب بعشقه الأول «الصحافة»
كُتبت وسَتُكتَب آلاف السطور عن هيكل الصحفى والكاتب، والسياسى والاستقصائى وصانع العظماء وهادم الأساطير، عابر الحدود والعقود والعهود، المطلع والخبير، خالق المصطلحات الخالدة، النجم الكاريزمى الذى تنتظره المطابع بشوق المحبين، وتعانقه الكاميرات بلهفة هوليوودية. ثم إنه رغم ذلك سيبقى منه ظلٌ غامض، وطرف غير مرئ، وجانب يحتاج إلى الاكتشاف.
هنا، -على سبيل الاحتفال بيوم ميلاده - محاولة لقراءة زاوية من الزوايا الهيكلية، ملمحٌ يعكس رؤيته للدنيا والبشر وما تصنعه الأقدار، يقرأ الأستاذ بألف مما يقرأ آخرون، هذا ما نعرفه قطعًا، ويكتب بسحره الخاص الذى لا يعرف أسراره أحد سواه، هذا ما ندركه جيدًا، لكن ما الذى يدفع هيكل لأن يرتبط اسمه بكتاب غير كتابه، ومؤلف بغير قلمه، مقررًا أن يكتب مقدمة؟ هذا سر آخر نحاول فك بعض منه.
تكشف المقدمات الهيكيلية عن الروابط الإنسانية التى جمعته برفاق الرحلة مثل إداورد سعيد وعبد الوهاب المسيرى
على امتداد سنوات عمله الصحفى المديد الذى تجاوز السبعين عاما، كتب الأستاذ مقدمات لنحو 35 كتابا، والمتأمل فى خريطة هذه الكتب يكتشف أنها تعكس جزءًا من روح هيكل نفسه، تلك الروح التى تمتد بطول الأرض الراسخة من المحيط الأطلسى إلى الخليج العربى، المطلعة الشغوفة المهمومة والمهتمة بالرصد والفحص والتبشير بالجديد الموجع منه قبل المفرح، هكذا تجد الأستاذ كتب ثلاث مقدمات لكتب أنجزها أو صدرت عن منجز «درة المفكرين العرب» إدوارد سعيد، وهو أمر لم يتكرر قط مع غيره هكذا لما يكتب قائلا: «إنّ إدوارد سعيد يبدو، بوجهه الملىء بمعاناة نبيلة، شبيه باللوحات العظمى التى تجسّد آلام السيّد المسيح»، فى تقديمه لكتاب «إدوارد سعيد رواية للأجيال- تأليف محمد شاهين» يصبح من الصعب على القارئ أن يفصل بين الأصل والتشبيه، قبل ذلك كتب هيكل مقدمة لكتاب إدوارد سعيد الأهم «غزة- أريحا سلام أمريكى» الصادر عن دار المستقبل العربى 1995، الذى مثّل ذروة هجومه على اتفاقية أوسلو، قال هيكل فى المقدمة، معظمًا من جهود إدوارد سعيد فى البحث عن الحقيقة وسط الركام «على جسور الانتقال من ألف ثانية بعد الميلاد إلى ألف جديدة ثالثة، يعيش الفكر العربى حالة تيه على أرضية فيها كثير من فراغ ووحشة الربع الخالى وكثبان رماله المتحركة. مثل كتبه: فإن مقدمات هيكل تفتح أبوابًا وتحرك النفوس والقلوب وتترك طنينا فى الرأس لا يهدأ والتيه العربى لا يلوك الكلمات فقط، وإنما هو يكتبها أيضا حين يقعده الدوار، لكنها أبجدية الغربة والمنفى، تغمس أقلامها أحيانا فى محابر ملأى بماء لا يترك أثرًا، أو ملأى بنفط لا يصنع غير بقع، أو ملأى بخمر لا يرسم غير تصاوير سراب، تزيد من ضيعة الزمان والمكان!» هنا لا يحتفى هيكل بإدوارد سعيد ومنجزه وحسب، بل يعرى الكاذبين والراقصين وبائعى الأوهام بطريقته الخاصة التى تعف فى معظم الوقت عن اصطياد الأشخاص وتهتم بكشف المواقف. فى مقدمته لكتاب «50 عاما على ثورة 1919» كتب: «إن تاريخ مصر الحديث تعرض لحملة من سياط التعبيرات المطلقة والسهلة» وفى مقدمته لكتاب «50 عاما على ثورة 1919» للدكتور أحمد عزت عبد الكريم، يكتب هيكل العصارة لمن يريد أن يفهم ويعتبر، يقول: «إن تاريخ مصر الحديث تعرض لحملة من سياط التعبيرات المطلقة والسهلة، تدمغ الماضى إجمالا، وتظن أنها بذلك ترضى الحاضر، ناسية أن الحاضر مهما كان اختلافه عن الماضى، ولد فى أحشائه وبدأ فيه وبالتالى فإنه ليس هناك ذلك الانغلاق الكامل بين (عهد بائد) و(عهد جديد) قام على أطلاله». على أن الأستاذ هيكل لم يكتب مقدمات فى أوجاع السياسة أو دروب التاريخ وحسب، الأديب بداخله الذى أزاحته إلى الظل معارك الصحافة والسياسة، كان يجد روحه ذاهبة إلى ذلك العالم الخاص، فكتب مقدمة «عبارة غزل» قصص لفريدة الشوباشى، ومن قبلها مقدمة لمسرحية سعد الدين وهبة الأخيرة «المحروسة 2015» التى كتب أنها أثارت فزعه عقب الانتهاء من قراءتها، ويبدو أنه كعادته كان يستشرف المستقبل، إذ إن المسرحية الأزمة -صدرت فى كتاب عام 1995- لم تجد رقيبًا شجاعًا يوافق على تحويلها إلى عرض مسرحى حتى يومنا هذا، ثم إن هيكل كتب مقدمة لا يمكن لسواه أن يكتبها عن «مربعات الأبنودى» التى ننشرها يوميا هنا فى «التحرير» فى عام صعود وهبوط الإخوان قبل أن يجمعها فى كتاب يؤرخ لعام عصيب. «أظن أن اندفاعات جيلنا بكل أوهامه وأحلامه نشأت من إحساس بأن الحدود سقطت» «ذهبت إلى ميادين فلسطين لأول مرة وكل ما لدينا خيالات ودفاتر ورق أبيض من زوائد لفائف طباعة الصحف». تكشف المقدمات الهيكلية أيضا عن الروابط الإنسانية التى جمعته برفاق الرحلة، فقد كتب عن الموسوعى، د.عبد الوهاب المسيرى مقدمة لكتاب «فى عالم عبد الوهاب المسيرى»، وكتب أيضا مقدمة لكتاب «فى حضرة محمد عودة»، ثم روى جزءًا من بواكير حياته الصحفية فى مقدمته للكتاب المثير للجدل «أنا وبارونات الصحافة» لجميل عارف؛ كاشفًا -وبحذر معتاد- عن طبيعة علاقته بصاحب الكتاب الذى يؤرخ لجانب غير مرئى عن تلك المساحة الرمادية للصحافة المصرية فى سنوات الثورات والانقلابات والانقلابات المضادة. مثل كتبه، فإن مقدمات هيكل تفتح أبوابًا وتحرك النفوس والقلوب، وتترك طنينا فى الرأس لا يهدأ إلا بمزيد من القراءة والبحث والتفكير، وإذا كانت المساحات لا تسمح بأكثر مما نعرض من مقدمات تتشابك مع عصور وعهود ومواقع وشخصيات وتاريخ متدفق وأزمات حاضرة، فالأكيد أن البحر لا يزال عصيًّا على لمس حدوده، والموج -كعهدنا به- مفاجئًا وقويًّا.
أنا وبارونات الصحافة
حينما طلب منى الصديق القديم والكريم الأستاذ جميل عارف أن أكتب مقدمة لكتابه، كان ردى -على الفور- بالقبول بحرارة وحماسة، فجميل عارف رفيق أيام خوال تعود إلى أواخر الأربعينيات، حينما كنا وسط السحابات الوردية للصبا جيلًا جديدًا خطفت أحلامه مهنة «البحث عن المتاعب» فأعطاها نفسه، وقبلت بدورها عطاءه وأخذت عمره كاملًا لم تترك فيه بقية! وأظن أن اندفاعات جيلنا بكل أوهامه وأحلامه نشأت من إحساس بأن الحدود سقطت بين الدول والقارات، وأن العالم المفتوح أمامنا أصبح «عالما واحدا»، وكانت تلك صيحة عالية فى «أعقاب الحرب العالمية الثانية، ترددت أصداؤها عبر القارات والمحيطات، وكانت تلك بالضبط حروف الشعار الذى اختاره مرشح الرئاسة الأمريكية (وندل ويلكى- سنة 1944 أمام روزفلت)، لبرنامجه الانتخابى عن (دنيا ما بعد الحرب) ونشره فى كتاب تحت عنوان (عالم واحد)». وأتذكر أننى بعد فترة تدريب وممارسة فى جريدة «الإيجيبشيان جازيت» ورئيس تحريرها فى ذلك الوقت هو الصحفى البريطانى المتميز «هارولد إيرل»، حملت معى إلى الصحافة العربية فكرة المراسل الحربى أو السياسى المتجول، وأتذكر أننى عرضتها على ثلاثة من الكبار الذين أتيح لى أن أعمل معهم فى ذلك الوقت، والذى بدت فيه طلائع القلاقل فى الشرق الأوسط بداية من فلسطين. كان أول مَن عرضت عليه الفكرة هو الأستاذ محمد التابعى، وكان رفقه بشبابنا هو الذى جعله يستقبل اقتراحى بحذر، وكان ظنه أن الجرائد المصرية ليست مهيأة بعد للتعامل مع هذا النوع من النشاط الصحفى. وكان الثانى هو الأستاذ كامل الشناوى، وكانت عواطفه هى التى أملت عليه رأيه، ومؤداه أنه «ليس هناك ما يدعو عاقلا بالغا ورشيدا إلى الزج بنفسه طواعية وسط أزيز الرصاص ودوى القنابل لكى يكتب تحقيقًا أو مقالًا!». وكان الأستاذ على أمين هو الذى قبل الفكرة بحماسته التجريبية اليقظة مع إشارته إلى مخاطر المغامرة، ثم إلى تكاليفها المحتملة، وفى أى حدود؟ وأتذكر أننى ذهبت إلى ميادين فلسطين لأول مرة مع الزميل والصديق الراحل محمد يوسف، كبير مصورى «أخبار اليوم» فى ذلك الوقت، وكل ما لدينا تصورات وخيالات، ودفاتر ورق أبيض من زوائد لفائف طباعة الصحف، ومجموعة كاميرات وعدسات، وثلاثون جنيهًا مصريًّا، لنا نحن الاثنين، وكان تقديرنا أن نظل فى ساحة الصراع شهرًا أو أكثر إذا استطعنا، وأن نبعث برسائلنا! من هناك، ولست أعرف حتى الآن كيف فعلناها، لكنى أعرف أننا قضينا ليالى متوالية فى خيام المقاتلين فى يافا وحيفا، ومشينا ليالى أخرى على الأقدام مسافة أربعين كيلومترًا ما بين القدس إلى بيت لحم، متسللين بجوار مستعمرات إسرائيلية نشيطة بسلاحها ونيرانها، مزدحمة بجنود «الهاجاناه»، وهى المنظمة الصهيونية العسكرية التى تحولت فى ما بعد إلى جيش إسرائيل، ثم إننا قضينا ليالى قليلة فى فندق فيلادلفيا القديم فى عمان، ثم وجدنا أن سعر الغرفة -وهو وقتها خمسون قرشًا مصريًّا- يزيد على حدود الاعتماد المخصص لرحلتنا، فاختصرنا الإقامة فيه قاصدين إلى الخيام مرة أخرى، مع جماعات المتطوعين للقتال على أطراف «الخليل». لم نكن نشعر بتعب ولا ضيق، فقد كانت رسائلنا مكتوبة ومصورة على الصفحات الأولى فى القاهرة، تثير اهتمام الناس وتجعلنا -بأوهام شبابنا- نشعر رغم حياتنا فى الخنادق بأننا محلقون فى آفاق النجوم! وكان جميل عارف واحدًا من طلائع ذلك الجيل، مشى، وجازف، وكتب من مواقع عديدة وبعيدة، وأعطى من نفسه وفكره، وكانت الظروف قد أخذت كلا منا إلى طريق، وتباعدت الطرق، ومع ذلك فقد كنت أتابعه حيث ذهب شاعرا -طول الوقت- أنه زميل سلاح، ورفيق خندق واحد فى يوم من الأيام، وطرف علاقة صداقة وود لا يتأثران بالغياب، وإن طال وبالبعاد، وإن امتدت السنين. وكنت أراقب أحواله من مواقع مختلفة، شاعرًا على نحو ما أنه يستحق أكثر مما وصل إليه، مشفقًا عليه أحيانا من مزاجه المرهف دائمًا، والحاد أحيانًا، والذى كان يقوده مرات عديدة إلى معارك داخل المهنة ساقته إليها الظروف، وعلى أى حال فإن جوانب من هذه المعارك موجودة فى فصول هذا الكتاب، ومنها يستطيع القارئ أن يرى ويسمع ويحكم. وأعترف أننى بعد أن قرأت بعض الفصول من هذا الكتاب، وقد قبلت كتابة مقدمة له، سألت نفسى: متى يصبح لأى كاتب أن يقدم عملًا لزميل له أو لصديق؟. وتداعت على فكرى حالات يصح فيها، أو لعله يجوز! قلت لنفسى: يصح أو يجوز إذا كان صاحب العمل الأصلى غائبا لسبب أو لآخر عن الساحة -لكن ذلك والحمد لله- ليس صحيحا فى حالة جميل عارف، فهذا الصديق العزيز حاضر، وحضوره بارز ومؤثر. ثم قلت لنفسى: يصح ويجوز إذا كان موضوع العمل الأصلى يحتاج إلى مَن يلفت النظر إلى أسراره، ويفض مغاليق النصوص ويفتح أبوابها للفهم، وذلك أيضا ليس صحيحا فى حالة جميل عارف، فعمله الجديد أسرار تبوح بحكاياتها ونصوص متدفقة من الأبواب والنوافذ أيضا. وقلت لنفسى أخيرا: يصح أو يجوز إذا كان موضوع العمل متفقا فى توجهاته ومقاصده مع كاتب مقدمته، ومن ثم فقصده أن يعزز ويؤكد، لكن هذا أيضا ليس صحيحا فى حالة هذا الكتاب، الذى أقدم له.. وبرقته الطبيعية فإن جميل عارف استشعر ذلك فى موقفى، فإذا هو يبادر متطوعا بالقول: «تستطيع أن تكتب مقدمتك لكتابى بالخلاف معى»، والغريب أن ذلك أيضا ليس صحيحا، فلا أنا مختلف مع الكتاب ولا أنا متفق معه! وإذن ماذا؟ إذن ما الذى أقدم له؟ الحقيقة أننى أقدم لرجل، رجل أخلص فى كل الأحوال لرؤاه واجتهاداته سواء اتفقنا أو اختلفنا عليها. ورجل عاش كثيرا مع الناس ومع الأحداث، وقد روى تجربته معهم من موقع نظره، وهو مسؤول عنها، وكلهم يستطيع أن يناقشه ويحاوره. ورجل يروى حكاياته حية ومشوقة وبأسلوب فيه الكثير من الحيوية والشباب، وهو شىء نادر فى ما نقرؤه هذه الأيام حتى لشباب الصحفيين والكتاب. وإذن فإننى أكتب مقدمتى للرجل، ثم للعمل بعده. أكتبها حفاوة بصديق قديم، وأكتبها ترحيبًا بعودة غائب عنا لسنين.. وأكتبها وفى مشاعرى ذكريات أيام خلت، وحكايات شباب طارت ذات يوم فى آفاق النجوم. كتاب "أنا وبارونات الصحافة"، المؤلف "جميل عارف"، الدار العربية للنشر- 1993
وجيه أباظة.. صفحات من النضال الوطنى
عندما يرحل معارفنا وأصدقاؤنا من حياتنا وعالمنا، وحين تمضى السنون بعد رحيلهم، ويقوم الزمن بدوره ويسحب الحوادث والأيام وراء الضباب، تتبقى باستمرار لمحة من وجودهم تظل خضراء مورقة ومزهرة وعطرة أيضًا! لمحة واحدة تبقى دائما، تتحدى الموت وتثبت أن الحياة أقوى منه.. صحيح أن الحياة هى البداية، وأن الموت هو النهاية، لكننا ننسى أن الحياة تمارس فعلها بالتدفق وأن الموت يمارس فعله بالخطف.. وننسى أنه منذ حدثت معجزة الخلق الأعظم، فإن بلايين الكائنات تموت، لكن بلايين أكثر منها تولد، ولهذا تواصلت الحياة من ينبوعها الواحد -رغم كفاءة الموت- على تعدد أسبابه. وهناك من يتصورون أن ما يتبقى من الراحلين عنها فى حياتنا هو دموعنا فى وداعهم أو ذكرياتنا معهم. ولست أظن أن ذلك دقيق رغم تجربتى مع لفحات الحزن ونفحات الذكرى. لفحات النار تبرد مع الأيام ونفحات الذكرى تشحب بعدها. وإنما قصدى إلى شىء آخر باق بعد الرحيل، وبعد الأحزان والذكريات جميعها. ■ ■ ■ ما أقصده يصعب التعبير عنه، ولكنى أحاول. أقول إن ما يتبقى من الحياة بعد الرحيل هو «المثال» الذى كانت عليه تلك الحياة فى حالة وجودها الكامل. وكلمة «المثال» لا يجب أن تختلط بالتعبير المعروف عن «المثل الأعلى». كما أن كلمة «المثال» تختلف عن معنى «التمثال». «المثل الأعلى» فى اعتقادى إلهى، لا يبلغه البشر مهما حاولوا، وإن كان مطلوبًا منهم دائما أن لا يكفوا عن المحاولة. و«التمثال» معنى آخر مختلف، وهو خلق إنسانى من حجر أو معدن يصور رجلًا أو رمزًا وفقا لخيال فنان. وأما «المثال» فشىء آخر. «المثال» -فى ما أظن- دور وفعل وتأثير إنسانى يضيفه فرد إلى الحصيلة العامة لتجربة مجتمعه، أشبه ما يكون بالعصارات التى تصنع الخلايا وتدخل ضمن موروثاتها.. شىء أشبه بما يسميه علم الأحياء بال«جينات»: الخلايا التى تحمل سر الحياة وتبرمج خصائصها وتنقلها إلى أجيال دون نسبتها إلى تسلسل محدود وأبوة مباشرة. ■ ■ ■ وكان وجيه أباظة واحدًا من هذا النوع من الناس، الذين استطاعوا أن يجعلوا من أنفسهم «مثالا» بالمعنى الإنسانى الحى، الذى حاولت شرحه. ■ رجل يستطيع أن يقوم بكل مهمة تسند إليه -ويجعلها حياته- ما دامت هى مسؤوليته. ■ ويستطيع أن ينجح فيها بشهادة كل الناس، وبغير أن يمن أو يتعالى. ■ ولا يصطدم فى أدائها مع الآخرين، وإنما يحفظ لهم حدودهم مع حدوده. ■ وفى أدائه فإنه لا يأمر ولا يقرر، وإنما يجعل كل من حوله يشعرون بأنه فى نفس الوقت أمرهم وقرارهم معه. ■ ثم هو فى ذلك كله بشر يصيب ويخطئ، لكنه فى كل الأحوال قادر على أن يواجه كل تجاربه بفرح وبثقة وبتفاؤل! وكانت أول مرة لقيت فيها وجيه أباظة سنة 1948 وهو مساعد لقائد سلاح الطيران، وأنا صحفى عائد من ميدان القتال فى فلسطين، وكان كلانا يشعر أن الوطن مقبل على اختبار عسير. وكانت آخر مرة لقيت فيها وجيه أباظة سنة 1993 وهو رجل أعمال ناجح، وأنا صحفى ترك وسط الساحة إلى حافتها وكان كلانا يشعر أن الوطن مقبل على اختيار عسير، وبين اللقاءين مسافة نصف قرن تقريبا. كان كما عرفته دائما، على وجهه الابتسامة نفسها، كما كانت فى شباب العمر بقيت إلى آخره. وكان فيه نفس النشاط، مع الحركة باستمرار، وإذا كنت لا تعرف إلى أين هو ذاهب بهذه الهمة فهو على وجه اليقين يعرف. ومع أنه حدثنى عن مرضه، فقد أحسست أن ملامحه تعكس سيطرته على الألم، بأكثر مما تعكس سيطرة الألم عليه. وأخذتنا الذكريات إلى تلك الأيام، وعدنا إليها معا بالفكر، ولم تكن عودة إلى أطلال أو أشجان، أو حتى حنينًا إلى زمان مضى، وإنما كانت العودة كما هى طبيعة «وجيه» بالفرح والثقة والتفاؤل. تذكرنا رحلة أخذنى إليها وجيه أباظة قبل الثورة إلى منطقة قناة السويس، وقت اشتداد المقاومة الشعبية ضد قوات الاحتلال البريطانى. وكان هو - رغم وجوده فى قيادة الطيران- واحدًا من الذين أخذوا على عاتقهم مع آخرين من الضباط مهمة تزويد المقاومة بالسلاح. وذات ليلة فى مدينة بلبيس جاءنى وجيه فَرِحًا بمجموعة صور التقطت من داخل المواقع البريطانية، وقد ظهرت على جدار فيها عبارة بالطباشير الأبيض تقول: كتائب التحرير مرت من هنا -وأبديت له أن الصورة لا تثير حماستى- واندهش وقلت: «إذا كان لدى كتائب التحرير وقت لتكتب بالطباشير على حائط أنها مرت من هنا، فقد كان الأولى أن تلقى هناك قنبلة تؤكد مرورها (من هنا) من دون حاجة إلى الطباشير». وقد رآنى وقتها متعسفًا. وذكَّرته بما سمعته من جمال عبد الناصر فجر يوم 23 يوليو 1952، وكنا فى المبنى الذى أصبح مقرًّا لقيادة الثورة، وهو قبلها مقر رئاسة أركان الحرب، ثم هو الآن مقر وزارة الدفاع، وتناهى إلىّ صوت أزيز طائرات. وسبق جمال عبد الناصر تساؤلى بإجابته: «هذا وجيه أباظة يعلن قيام الثورة من الجو». وتذكرنا معا ما حدث فى سبتمبر 1955 حين أراد جمال عبد الناصر أن يسبق إلى إعلان سر صفقة السلاح مع الاتحاد السوفييتى، وكانت بالفعل متغيرًا استراتيجيًّا خطيرًا فى منطقة الشرق الأوسط، ووراءها إلى منطق حلف الأطلنطى شمالا، وإلى آسيا شرقا. عرف جمال عبد الناصر أن سر الصفقة تسرب، وأن هناك مبعوثًا يمثل الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور قادم إليه بالطائرة مباشرة من واشنطن لكى يسأله عن صحة الموضوع. وكان رأى جمال عبد الناصر أن يسبق هو ويذيع. فهو لا يريد إذا سئل فى الموضوع أن ينكر - بينما الحقيقة على وشك أن تُعرف- وذلك شىء لا يرضاه لنفسه. ثم هو لا يريد أن يكون أول تأكيد منه بحدوث الصفقة مقدمًا إلى مبعوث أمريكى، حتى وإن كان مبعوثًا من رئيس الولايات المتحدة، وذلك شىء لا يرضاه لبلده. وواجهته معضلة: أين يتكلم.. وأن يعلن؟ ولم يجد حلا إلا وجيه أباظة وهو وقتها مدير الشؤون العامة للقوات المسلحة، وقد قال وهو يجد الحل: «إن وجيه أباظة عنده بالتأكيد فى كل يوم مناسبة وفى كل ساعة تجمع.. وأستطيع أن أذهب إليه وأعلن من عنده ما أريد». وقد كان.. وتذكرنا أيامًا كان فيها محافظًا للقاهرة ومحافظات أخرى غيرها، وكان جمال عبد الناصر يعتقد بمقدرة وجيه أباظة على خوض أى تجربة، ويقول: «إن وجيه يعيش كل مهمة يؤديها، وكل مهمة يؤديها تعيش فيه». ثم يضيف جمال عبد الناصر: وهو أيضا ليس واحدًا من هواة المشكلات.. وفى كل بحر ألقيته فيه وصل إلى الشاطئ، وانتظرنى هناك بلا شكوى.. وبلا خطب! ■ ■ ■ بقيت نقطة أخيرة، وهى أننى سعيد بأن أبناء وجيه أباظة لم يحولوا أباهم إلى كرافتة سوداء تتدلى من رقابهم سنين تطول أو تقصر، وإنما هم بدلا من ذلك حاولوا أن يساعدوا هذا الشىء الذى يتبقى من الراحلين بعد الأحزان وبعد الذكريات.. «المثال» ليس «المثل الأعلى» ولا «التمثال»، وإنما «المثال» الإنسانى، وبالمعنى الذى يعنيه علم الأحياء عن الخلايا والجينات. والحاصل أن هذا الكتاب الذى قام عليه الصحفى المقتدر الأستاذ عبد الله إمام، هو الكتاب الثانى الذى يصدر عن أبيهم برعايتهم واهتمامهم. وذلك معنى له قيمة.. قيمة تشير إلى أن «الأشياء» ليست وحدها القابلة للتوريث، وإنما هناك إلى جانب «الأشياء» معادن أكبر من «الأشيا». لمحة من حياة تظل -بعد الموت والأحزان والذكريات- خضراء مورقة مزهرة وابتسامة لا تغيب.. و«مثال» يسرى عصارة فى الحياة، وليس «تمثالا» من رخام أو حديد يعريه الزمن، ويكسوه التراب! كتاب "وجيه أباظة.. صفحات من النضال الوطنى" المؤلف عبد الله إمام - دار الجهاد- 1993.
ماذا يريد العم سام؟
يستحق الأستاذ نعوم تشومسكى أن يقرأ فى أى وقت، ومع أى مناسبة، وفى كل موضوع. ذلك أنه بالاختصاص عالم، ثم إنه بالموقف مثقَّف. إن الأستاذ تشومسكى بالاختصاص عالم «لغويات»، ودراساته وأبحاثه تُدرَّس فى كل الجامعات مرجعًا وحجة، وقد توصَّل إلى اختراق لا شك فيه، حين أثبت أن موهبة اللغة موروثة مع سر الخلية، وأن الإنسان يولد مستعدًّا للنطق بلسانه كما هو مستعد للنظر بعينه وللسمع بأذنه، وللإدراك بحاسة ما بين عقله وشعوره. لكن الأستاذ تشومسكى، كما أسلفت، مثقَّف أيضًا، فهو واسع الاطلاع على علوم زمانه، شديد الاهتمام بقضايا عصره، ثم هو -وهذه هى الخاصية الأولى فى المثقف- صاحب موقف بكل ما يعنيه الموقف من حق ومسؤولية. إن تشومسكى -على سبيل المثال- أمريكى الجنسية، لكنه أكبر ناقد للسياسة الأمريكية فى حلمها بالسيطرة على العالم، وفى وهمها بإمكانية امتلاك مقاديره غدًا وبعد غدٍ.. ولقد كان هو الذى تصدَّى لمقولة الولايات المتحدة بادعاء الحق فى القيام على نظام عالمى جديد، وفى ذلك كان كتابه المهم «النظام العالمى الجديد - سابقًا والآن!». وفيه أن هذا العالم المثقف، رأى أن أى نظام عالمى جديد مرهون بمبدأ وليس مرهونًا بسطوة، ثم إنه مسؤولية مشتركة وليس حكرًا لدولة. وأخيرًا فإنه تركيب بعيد المدى، متوافق مع التطور وليس لحظة واحدة من التاريخ تقتنص فى غفلة أو تختلس فى لحظة، يظنها أصحابها موالية أو مواتية. ولعلّنا نتذكَّر أن الأستاذ تشومسكى يهودى بالميلاد، لكنه -وهو اليهودى- كان أعلى الأصوات فى الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها فى انتقاد السياسة الإسرائيلية وفى الانتصار للحق الفلسطينى، ولم يكن موقفه هنا سياسيًّا، وإنما كان علميًّا، وتلك قيمته. ذلك أن دور المثقف هو حريته وشجاعته عندما يمارس حقّه فى الاختيار. والحرية لا تكون حرية إلا فى زمانها وفى أوانها. والشجاعة لا تكون بأثر رجعى أمام القبور لا أمام القصور. وفى العالم العربى -ولسوء الحظ- فإننا عرفنا نماذج عديدة لممارسة الحرية، وإنما بعد الساعة الرابعة والعشرين، وعرفنا ألوانًا من ممارسة الشجاعة، لكن عندما تأكدنا أن السلطان أصبح ملفوفًا بالأكفان. وتلك ليست الحرية، ولا هى الشجاعة، وبالتالى فهذه ليست حرية الاختيار التى تحسب للمثقف ويُحاسب على أساسها. إن نعوم تشومسكى حين اختار أن يقف أمام الصهيونية وأمام إسرائيل، فعل ذلك من موقعه فى أكبر جامعات الولايات المتحدة، وذهب برأيه إلى كل مكان، بما فى ذلك ساحات الكونجرس ومحافل الإيباك (معقل اللوبى الإسرائيلى)، ثم إنه لم يأكل ألفاظه ولم يتلعثم ولم يعتذر عن تقصير أو تأخير. لذلك يحق للرجل أن يتكلَّم، ويستحق الرجل أن يُحترم، وتلك ليست منة عليه من أحد، وإنما هى حقّه. كتاب "ماذا يريد العم سام" المؤلف نعوم تشومسكى- دار الشروق- 1998
فاروق كما عرفته
لم يكن هناك من يعرف أن الأستاذ كريم ثابت كتب مذكرات تركها بعد وفاته سنة 1964 مع التفاتة وداع أخيرة على القرن العشرين، وشمسه تنحدر على الأفق ذاهبة إلى غروب، يستحق سقوط الملكية سنة 1952، نظرة يمكن أن تكون نهائية قبل أن تنطوى الصفحات وتبهت الذكريات، وتنتقل القصة من صخب السياسة إلى صمت السجلات، أوراقًا وصورًا ضوئية، أو شرائط وأسطوانات إلكترونية. وإذا كان قيام إسرائيل هو الحدث الأهم والأخطر فى القرن العشرين، بالنسبة للتاريخ العربى الحديث، فإن سقوط الملكية فى مصر يحتل موقعًا متقدمًا فى قائمة الأحداث العشرة الأولى فى هذا القرن بالنسبة للعرب. إن سقوط الملكية فى مصر يجىء على الأرجح فى الموقع الخامس من قائمة الأحداث العربية الأهم فى القرن العشرين تسبقه بالطبع ثورة 23 يوليو القومية سنة 1952 فى مصر «وهى حدث هائل تدخل فى دائرته محاولة تحديث العالم العربى على قيم العصر وآماله، وحروب الأمة العربية المتصلة على ثلاث حقب، وكذلك نهاية الإمبراطورية البريطانية». وتسبقه -فى ما أظن- ثورة سنة 1919 الوطنية فى مصر «وهى حركة شعبية فى طلب الاستقلال كانت لها آثارها السياسية والتنويرية الواسعة». وتسبقه -ربما- محاولة أو محاولات الثورة العربية فى أواخر الحرب العالمية الأولى وفى أعقابها «وهى حركة تدافعت موجاتها من جدة والرياض وبغداد إلى دمشق وبيروت والقدس، وكانت هذه الحركة نصف سياسية ونصف عسكرية، وكذلك نصف عربية ولسوء الحظ نصف بريطانية، أيضًا!». هكذا، فإن سقوط الملكية فى مصر يجىء على الأرجح فى الموقع الخامس من قائمة الأحداث العربية الأهم فى القرن العشرين. إن قصة أسرة «محمد على» كلها، ومن أوائل القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، قصة تستحق أن تكتب تاريخيًّا وإنسانيًّا بطريقة مختلفة عن كل ما تم حتى الآن، ذلك أن ما جرت كتابته والأسرة على العرش جاء انتقاصًا من الحق، ثم إن ما كُتب بعد نزولها عن العرش جاء انتقاصًا من العدل، وفى السنوات الأخيرة ظهرت مجموعة من الكتابات، لكنها -باستثناء بعض الدراسات الجامعية المصرية الجادة- جاءت انتقاصًا -كذلك- من العقل، فقد كان مطلبها أن تجارى نوعا من التشوق فى الوعى المصرى والعربى يبحث عن الحقيقة، ومع زيادة الطلب تحول البحث عن الحقيقة إلى سوق للمضاربات انفلت عياره وقل مقداره! ولعل الظروف الآن مواتية لكتابة قصة أسرة «محمد على» من أول أمرائها وهو «محمد على» نفسه، وحتى آخر ملوكها وهو «فاروق» «الأول والأخير»، والسبب أن الوثائق الأصلية والشهادات الحية متوافرة وزيادة، وهى تسمح بكتابة تقارب الحقيقة بأدق ما هو ممكن وفى أجواء طبيعية. والشاهد أن أمير البداية «محمد على» لم يكن عليه خلاف، فكل ما يتصل بشأنه كاف ومقبول لحكم تاريخى يُطمأن إليه، وربما أن آخره ما نُشر هذا العام -1998- من شهادة القنصل الفرنسى «برناردينو دروفيتى» الذى توافقت خدمته فى مصر مع بداية طلوع نجم «محمد على»، وقد لعب «دروفيتى» بوصفه «قنصل نابليون» دورًا مهمًّا فى الأحداث المثيرة التى أصبح فيها هذا الجندى الألبانى واليًا على مصر! إن شخصية «ملك النهاية» ما زالت تحتاج إلى شعاع ضوء آخر وفى الغالب أخير قبل أن ينطوى القرن الذى نحن فيه
لكن الأمر بالنسبة ل«ملك النهاية» «فاروق» مختلف، لأسباب منها أن ظروفه جنت عليه حين وضعته على العرش وهو فى الخامسة عشرة من عمره وفى نهاية مرحلة كانت ثورة 1919 قد استهلكت طاقة اندفاعها، واستنفدت ما تبقى من عزم رجالها، وكانت معاهدة سنة 1936 بين مصر وبريطانيا -وقد توافق توقيعها على نحو ما مع انتقال العرش من «فؤاد» إلى «فاروق»- هى الدليل على أن القافلة التى انطلقت بالأمل سنة 1919 تاهت فى السراب سنة 1936! إن شخصية «ملك النهاية» ما زالت تحتاج إلى شعاع ضوء آخر، وفى الغالب أخير، قبل أن ينطوى القرن الذى نحن فيه ثم ينزل الستار على ذلك العصر كله. كذلك تحتاج «نهاية الملكية» ذاتها -فضلاً عن «ملك النهاية» نفسه- إلى شعاع يكشف -أيضًا- كيف ولماذا سقطت أقدم وأعرق أسرة مالكة فى المنطقة؟ وكانت المعضلة -كما هى أحيانًا فى ظروف شبيهة- أن الذين يعرفون لا يكتبون، وأن الذين يكتبون لا يعرفون، لكننا من حسن الحظ فى هذا الكتاب أمام حالة لا تتكرر بسهولة. وعلى وجه التحديد ، فإن الدائرة الأقرب إلى الملك «فاروق» -وبصرف النظر عن أسرته وزوجاته وعشيقاته- كانت تضم ستة رجال ونساء بعضهم فى الضوء وبعضهم فى الظل. فى دائرة الضوء كان هناك الأستاذ «كريم ثابت» مستشاره الصحفى وزوجته السيدة «هيلانة» وقد اشتهرت باسم «توتة». وكان هناك الدكتور «يوسف رشاد» طبيبه الخاص وزوجته السيدة «ناهد رشاد»، وكانت وصيفة شرف للملكة. وفى الحقيقة، فإن هؤلاء الأربعة كانوا نجوم دائرة الضوء فى حياة «فاروق»، وصحبته فى كل مجتمع، ورفاقه حيث ذهب. وأما دائرة الظل، فقد كان فيها رجلان هما السيد «محمد حسن» الشماشرجى المكلف بالخدمة الخاصة للملك، والسيد «أنطونيو بوللى» مدير شؤونه الخاصة، أولهما وهو «محمد حسن» هناك داخل الجناح الملكى، حيث يقوم الملك وينام، والثانى متواجد حيث يحلو للملك أن يلهو ويلعب أى ساعة وأى مكان! وبين هؤلاء جميعًا، وهم يعرفون، كان «كريم ثابت» هو الوحيد الذى يستطيع أن يكتب، ونعرف الآن أنه فعل! ■ ■ ■ إن الأستاذ «كريم ثابت» الذى كان رئىسًا لتحرير جريدة «المقطم» ظهر فجأة فى أوائل سنة 1942 فى الحاشية القريبة من الملك «فاروق»، وكان ظهوره وقتها موضع تساؤل من كثيرين لم يلبث أن جاءهم الرد فى «نطق سام» -كما كان يقال زمانها- أنهى لهم أن الأستاذ «كريم ثابت» أصبح المستشار الصحفى للملك، وفى يونيو سنة 1942 تعزز النطق بمرسوم أكد «تعيين الأستاذ كريم ثابت فى منصب المستشار الصحفى لحضرة صاحب الجلالة»، وهو منصب استحدث فى القصر لأول مرة، وبه فإن وجود رئيس تحرير «المقطم» فى الدائرة الأقرب إلى الملك أصبح قانونيًّا، ومع ذلك ظلت الحيرة تراود كثيرين! وكان سبب الحيرة «كريم ثابت» نفسه، ولماذا هو بالذات؟ إن الرجل كان صحفيًّا معروفًا ولكنه لم يكن أكثر الصحفيين شهرة، ثم إنه كان صحفيًّا متمرسًا لكنه لم يكن أكثر الصحفيين كفاءة، يضاف إلى ذلك أن الرجل لم يكن مصريًّا خالصًا، وإنما كان من أسرة تمصرت بالهجرة من الشام فى أواسط القرن التاسع عشر. وبعد الثورة حامت اتهامات كثيرة فوق رأس «كريم ثابت»، وفى الحقيقة فإن تلك الاتهامات كانت تلاحقه من قبل الثورة، فقد ورد اسمه خلال استجواب الأستاذ «مصطفى مرعى» عن فساد الحكم أمام مجلس الشيوخ، وكان السند هو تقارير لديوان المحاسبة أشارت إلى أن «كريم ثابت» تقاضى خمسة آلاف جنيه عمولة من تبرعات جاءت لمستشفى «المواساة» بالإسكندرية، كذلك إن اسم «كريم ثابت» تردد حول صلته بأغنى رجل فى مصر قبل الثورة وهو «أحمد عبود» (باشا)، وكانت الإشارات أن كريم ثابت تقاضى مبالغ كبيرة من «عبود» (باشا) كى يتوسط لدى الملك لحمايته من مطالبات مستجدة بضرائب متراكمة حركتها ضده وزارة «نجيب الهلالى» (باشا) فى مارس سنة 1952، ونشرت الصحف البريطانية أن «كريم ثابت» هو الذى عقد الصفقة بين «عبود» (باشا) والملك «فاروق» والتى أقدم الملك بمقتضاها على إقالة وزارة «الهلالى» فى مقابل أن يدفع له «عبود» (باشا) مليون جنيه، وفى ذلك الوقت فقد كان هذا المبلغ هائلاً (يساوى أربعين مليون جنيه بسعر النقود الآن). وبعد الثورة ألقى القبض على «كريم ثابت» مرتين، وجرت معه تحقيقات وأفرج عنه بعد أن طبق عليه قانون العزل السياسى. ولم يكن هناك من يعرف أن الأستاذ «كريم ثابت» كتب مذكرات تركها بعد وفاته سنة 1964، وإن كان معروفًا أنه كتب بعد الثورة أربعة أو خمسة مقالات نشرتها له إحدى الصحف اليومية سنة 1954. ثم حدث فى أوائل هذه السنة 1998 أن «ليلى» ابنته الوحيدة والأثيرة -والتى تعيش مع زوجها منذ سنوات فى لندن (وهو من أسرة «سبيرو سكوراس» اليونانية التى كانت تملك عدة دور للسينما قبل الثورة فى مصر)- كانت ترتب أوراقها، وإذا هى تعثر فى أحد الصناديق القديمة على عدة مئات من الصفحات بخط يد والدها، وكانت الأوراق فى مجموعتين، ولفت نظرها أن المجموعة الأولى مهداة لها «حين تكبر ويهمها أن تعرف عن والدها»، وقد حاولت «ليلى» أن تقرأ، وكانت المهمة صعبة عمليًّا بعائق اللغة، واستشارت أصدقاء لها، وأحاطت بما كتبه أبوها، ثم كان أن اتصل أصدقاء لها ب«دار الشروق» التى طلبت أن تطلع على الأوراق قبل أى ارتباط. وهكذا كان. والشاهد أن مذكرات «كريم ثابت» شهادة سياسية بالغة الأهمية، أو هى فى الواقع شهادتان كل منهما ترسم صورة حية ناطقة متحركة كأنها شريط سينمائى: الصورة الأولى: للرجل، الإنسان، الذى قدر له أن يكون آخر ملوك أسرة «محمد على»، وشخصيته المثيرة التى اختلفت الآراء فى تقييمها. والصورة الثانية: للحياة السياسية فى السنوات العشر الأخيرة من العصر الملكى فى مصر قبل سقوطه النهائى أمام ثورة 23 يوليو. وكان «كريم ثابت» فى قلب الصورة الأولى، عاشها بنفسه على امتداد عشر سنوات. وكان أيضًا مشاهدًا قريبًا للصورة الثانية، رآها أمام عينيه طوال عشر سنوات. وهكذا، فإنه يمكن القول إن «كريم ثابت» ترك كتابين، أحدهما عن «ملك النهاية»، والثانى عن «نهاية الملكية». ثم.. ... ثم إن هذا هو الكتاب الأول.. قصة «ملك النهاية». الكتاب "فاروق كما عرفته" - المؤلف "كريم ثابت" - دار النشر - الشروق- 2000
الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية
لا أعرف كيف أقدم هذا الكتاب إلى قارئ اللغة العربية، ذلك أننى أريد أن أوصى بقراءته دون أن أتعرض لمضمونه وهو ما يحدث عادة عند التقديم لكتاب. ولعلى كنت أوثر بالنسبة لهذا الكتاب بالذات ألا تكون له مقدمة من خارجه، ذلك لأن بعض النصوص -ومنها نص هذا الكتاب- تستطيع أن تستغنى عن التقديم، بل ويمكن أن يكون التقديم لها عبئا على النص وليس سندا له. والحاصل أن كل تقديم لكتاب، يحمل معه على نحو مباشر أو غير مباشر، تأويلا للنص يتجه به إلى منحى معين يراه كاتب المقدمة من منظوره. وفى بعض الأحيان فإن المنحى قد يتحول بالتأويل إلى منحنى، وتلك مسألة حساسة فى كتاب من هذا النوع الذى كتبه الأستاذ روجيه جارودى، عن «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، وهى مجموعة أساطير صهيونية عرضها جارودى إجمالا على النحو التالى: - الأرض الموعودة لليهود فى فلسطين- اليهود شعب الله المختار- أرض بلا شعب لشعب بلا أرض؟ المحرقة النازية Holocaust- العقيدة اليهودية والصهيونية السياسية.. والمسافة بين الاثنتين. لكن جارودى فى عرضه لهذه الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية -ولدولة إسرائيل- لم يؤلف كتابا بالمعنى التقليدى، وإنما حرص على أن يجعل من الوقائع نسيجا للحقائق، وتكون مهمة التأليف فى هذه الحالة هى وظيفة «النول» يمد الخيوط طولا وعرضا، ويصنع مساحة من القماش قابلة للنظر وقابلة للفحص وقابلة لاختبار التماسك والمتانة. إن جارودى وهو يتعرض لكل أسطورة من الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية لم يشأ أن يناقش بنفسه أو يناقض، وإنما جاء بالوقائع من مصادرها الأولية ومن وثائقها الأصلية ثم تركها تجرى فى سياقها المنطقى واصلة بنفسها إلى غايتها الطبيعية. ومهما يكن فلقد جاءت أخيرا محاولة الأستاذ جارودى، وقد جعلها معركة أصعب، فهو لم يتعرض إلى أسطورة واحدة، وإنما تعرض للأساطير كلها مرة واحدة. ولم يؤلف كتابا، وإنما نسج لوحة واحدة كاملة من قماش الوقائع. ولعل أهم ما يميز محاولة جارودى أنها جاءت من رجل يعرف ما ينتظره ويتحسب مبكرا له. ومع ذلك فلقد ثبت أنه فى مواجهة القوة الصهيونية ليست هناك حصانة، ولا ضمانة لأحد -لكن جارودى فى ما بدا لى من حديث مطول معه حين كان فى القاهرة أخيرا، يعرف الخطر الذى يواجهه، ولقد رأيته مستعدا له.. ومن الغريب أننى رأيت هذا الرجل الذى تجاوز الخامسة والثمانين ليس فقط مستعدا للخطر وإنما مستمتع به، وذلك من صفات الشجاعة، فعندما تقع مواجهة الخطر مع المعرفة به، فإن الأمر يختلف عن الوقوع فيه بالغفلة عنه، والقفز إلى طريقه دون معرفة.. الحالة الأولى من الشجاعة، والحالة الثانية من الحماقة، وبين الحالتين سفر طويل! كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" المؤلف روجيه جارودى - دار الشروق- 1998.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.