لعل أكثر الأوقات ملائمة لقراءة هذا الكتاب(تحديدا)ولهذا المفكر(تحديدا)هو هذا الوقت العصيب الذى تمر به مصر ...قبل أن أقول لماذا؟ من المهم بداية أن نعرف أن الدكتور محمد حسين هيكل باشا(1888-1956م) _وسنتناول جزء من سيرته_ غير الصحفي اللامع الأستاذ محمد حسنين هيكل(1923م__) أمد الله في عمره .. المعاصرون لهذه الفترة يذكرون أن الأستاذ هيكل كان يتعجل الشهرة السريعة وكانت شهرة هيكل باشا تطوف الأفاق سواء بعلمه وإنتاجه أو بمكانته السياسية أو بنبل أصله ونشأته ..وبعد ان بدأ الأستاذ هيكل فى مدرسة أخبار اليوم وكانت مشهورة بأن كتابها يكتبون أسمائهم ثنائية ..محمد التابعى مصطفى أمين على أمين أصر الأستاذ هيكل ان يكتب إسمه ثلاثي حتى يتقارب مع اسم العلم الكبير ويحصد جزء من شهرته مبكرا ...فاستدعاه الدكتور هيكل وطلب منه أن يكون إسمه ثنائي مثل زملاؤه فى أخبار اليوم _على ما حكي الأستاذ هيكل فى عدد ديسمبر 2012 م من مجلة الهلال_ لكن الأستاذ هيكل اعتذر عن ذلك فتقبل الرجل الكبير الموقف بعظمة نفس واحترام كبيرين..(لون زاهر نضير لا يتمازج مع غيره)ورغم أن الأستاذ هيكل أكثر من يقدر الأصول والأعراف المرعية (الدور السادس فى الأهرام)إلا أن المسألة طالما وصلت لذاته وكيانه ومستقبله فليس هناك إلا(أنا)..وكما يقول أبو العلاء :فخافي شرتى ودعي رجائي **فإني مثل عاد الناس عادى..والأستاذ هيكل ليس وحده فى ذلك وقد رأينا فى السياسة والحياة أكثر من (عاد الناس عادى).. الدكتور هيكل عاش 68 عاما بدأت 1888م وانتهت 1956م حصل خلالهاعلى الدكتوراه فى الاقتصاد السياسى من السوربون 1912وتأثر كثيرا بالشيخ محمد عبده ..أيضا كان عضوا بلجنة الثلاثين المعنية بكتابة دستور 1923م وأيضا وزيرا للمعارف ست سنوات 1938م -1944 على فترات متقطعة ...أيضا كان (نائب رئيس حزب) الأحرار الدستوريين ورئيس تحرير جريدته الشهيرة (السياسة )ثم رأس الحزب حتى ألغى الرئيس (الفائق الروعة)جمال عبد الناصر حسين الأحزاب.. من المهم أيضا ان نعرف ان هذا المفكر الكبير رأس (مجلس الشيوخ) خمس سنوات متتالية من 1945م-1950م..حتى جاءت حكومة الوفد .ودخل فى السياسة الثعلب الكبير فؤاد باشا سراج الدين وتلاعب ما أمكنه التلاعب ...حتى جاء(الضابط الشاب) وأطاح بهم جميعا ...فطاحوا . هذا عن الرجل ..ماذا عن الكتاب ؟ الذى هو أهم ما فى الموضوع ..الكتاب صدر سنة 1996م من الهيئة العامة للكتاب .وقتها كان معظم شباب التيار الاسلامى العريض يقرأون ويدرسون (فكرا) للأساتذة فتحى يكن ومحمد الراشد ومنير غضبان...وقتها كان كل أعضاء مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين تقريبا يقضون مدة حكم بالسجن خمس سنوات من 95-2000م ... بعد محاكمتهم عسكريا ..وكانت الخلافات على (ماهية فكرة الإصلاح الاسلامى )قبل السجن وداخل السجن وبعد الخروج من السجن على أشدها بين د .محمود عزت ومعه كثيرون وبين د. عبد المنعم أبو الفتوح ولم يكن معه غير عدد قليل من الأصدقاء من مدرسة (عاد الناس عادى) ..وهذا ملمح أقصده وأعنيه لأنك لوكنت سألت أحدا من هذا (الجيل الفريد) عن عطاء الدكتور هيكل مثلا.. فى مجال الدراسات الإسلامية والتنظير الاسلامى ما كنت تخرج بما يرضيك..وعلى فقرهم الفكرى هذا كانوا يتصدرون ناصية الإصلاح الاسلامى(بشموخ مثير للغاية!!!وبدا لهم أنهم يصنعون التاريخ الذى تصوروه حينئذ صناعة سهلة) ..وكانوا على الأكثر سيذكرون لك الأستاذ هيكل الصحفي اللامع الذى كان يستقبلهم كثيرا في مزرعته ومكتبه لأنه كان وقتها متعاقد مع دار (هاربر كولينز)الانجليزية على كتاب عن الأصولية الإسلامية ..لكنه لم يفعل ..واعتذر... لماذا ؟هو يقول أن الظاهرة فى انحسار .. لكنى اعرف أن هذا هو السبب المعلن فقط (وككل مواقف البشر العاديين هناك دائما سببين لأي موقف يتخذوه..المعلن والحقيقى!!؟؟) أما الحقيقى فهو ضعف المادة الفكرية فى هذا المجال المعرفى لدى الأستاذ هيكل ..ولولا العلامة د. المسيرى والأستاذ/ فهمى هويدى ما استطاع إخراج كتابه الشهير عن ( الثورة الإيرانية)..فهما (ستراه سترا كاملا) فى هذا الجانب..توماس هاردى الروائى الانجليزي الجميل يقول أن(لذة الحياة فى الجهل بكثير من الأشياء!!!)وأنا فى الحقيقة أختلف معه ...الأستاذ هيكل قال لإحدى المذيعات أن د .عبد الحليم محمود كان (سلفيا)!!وأنه السبب فى ظواهر الإلتزام الإسلامى فى السبعينيات وقت مشيخته للأزهر الشريف..وحين تعرف أن احد المثقفين الكبار لا يعرف الفرق بين (المتصوف)و(السلفى ) ويتصدر للحديث عن الموضوع.. فأنت أمام مشهد عجيب حقا.(الأستاذ هيكل كان احد المهندسخانة الكبرى لأحداث 3/7)..ووعد المنفذين أن (إنهاء القصة لن يتجاوز شهرا) نحن اليوم فى الشهر السادس...احد أصدقائه نصحه أن لا يغيب هكذا ..والأحسن أن يطل علينا من بيروت !!(ليت شعرى كيف تحمى الحقائق). وعودة للحديث عن مشكلة القراءة والتبصر لدى الإصلاحيين ..فرغم أن الكتاب 150 صفحة فقط ..وأسلوب الدكتور هيكل بالأساس أسلوب سهل ...هو أول من كتب (الرواية) فى لغتنا العربية (زينب 1914م) إلا أن هناك معضلة مركبة فى مسألة( البناء المعرفى) لدى هذا الجيل الفريد أدت إلى (تصارعهم ) على (التنظيم) !فهو مصدر القوة الوحيد!! ..وبالتالى فلا مجال للنفوذ الفاعل إلا من خلال (التراتب التنظيمى)..وهو ما أشار إليه (ميشيل فوكوه) فى كتابه الشهيرعن الثورةالايرانية (الروحانية السياسية)..التى ترجمها أحد (الاسطاح)..إلى( الإسلام السياسي) وأغرقنا به من(يهزون أقلامهم) حيث قال فوكوه أن(بداخلها_الجماعات_ الكثير من البيروقراطية والزعامة والمراتب ومصادر السلطة)..وهو(التصارع ) الذى بلغ ذروته فى انتخابات الرئاسة السابقة ..وهو(التصارع) الذي انتهى بالوطن والشعب والثورة والدعوة إلى ما انتهت إليه ..(إنسي يأسك إن كنت يائسا ودموعك إن كنت باكيا وكآبتك الخرساء إن كنت كئيبا)وعفوا لهذا الاستطراد الضرورى. الكتاب صدر قبلا سنة 1961 م فى عز دولة الرئيس (فائق الروعة) بعد وفاة الدكتور هيكل بخمس سنوات ..فقام ابنه الأستاذ احمد المحامى بتعديل اسمه إلى ( الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة فى الشرق الأوسط ) الذى قال فى أدب جم ( لم تكن الظروف السياسية فى مصر تسمح بنشر كتاب بعنوان(الحكومة الإسلامية).. العنوان الذى يصدر به الكتاب اليوم..)قال ذلك فى مقدمة الكتاب . الكتاب ثلاثة أجزاء وثمانية فصول ..الجزء الأول يتناول تاريخ الأمة الإسلامية ومصادر قوتها ..والثاني يتحدث عن الاشتراكية والديمقراطية فى الإسلام والثالث يتناول الإسلام والحريات الأربع (حريه العقيدة وحرية الرأى والتحرر من العوز والتحرر من الخوف). فى الفصل الأول يتحدث عن تاريخ الحضارة الإسلامية وفى الفصل الثانى يتحدث عن نظام الحكم فى الإسلام فيقول فى أحد سطوره( لم يضع النبى صلى الله عليه وسلم نظاما مفصلا للحكومة الإسلامية لكنه وضع القواعد الأساسية لتنظيم سياسى لا مفر من استقرارها.)وكل ذلك أشهر من أن يعرف ويعاد ذكره .ويؤكد أيضا أن هناك ما يسمى بالاشتراكية الإسلامية حقيقة ..بعدها سيصدر د. السباعى مراقب الإخوان فى سوريا كتابه الشهير (اشتراكية الإسلام) وعن الديمقراطية يقول إنها فى الإسلام تتظلل بمعنى (العدل الإنساني ) الذى تتجلى فيه ذاتية الفرد وكيان الجماعة المادى والأدبى ..بما يحفظ الضعيف من سطوة القوى .وجعل ذلك كله من فرائض الإيمان الذى كفل له القوة والبقاء...وهذا هو محور القصة كلها فى معنى(الإصلاح الإسلامي).انطلاقا من المفاهيم القرآنية التى تتسع للحياة كلها. له كلام تفصيلى رائع عن (سلطان الروح) فى سعى الإنسان إلى السمو والمثل الإنساني الأعلى ويقول( أن الإسلام والديمقراطية يلتقيان فى الأمور الجوهرية جميعا وان نظام الحكم فى الإسلام يجب أن يكون فى صورة أو أخرى من صور الحكم فى الديمقراطيات الحديثة وأن كل نظام لا يقوم على أساس من حرية الفرد وتضامن الجماعة وحق الشعب فى حكم نفسه عن طريق المناقشة الحرة والانتهاء إلى رأى الأغلبية كل نظام لا يقوم على أساس من هذه المبادئ التى تدعو الديمقراطية إليها لا يتفق والقاعد الأساسية التى قررها الإسلام ودعا إليها ولا يتفق وواجب المسلم فى التمسك بقواعد دينه والدفاع عنه). ويتحدث عن الإخاء والمساواة والقضاء والتشريع والحرية(أعز مبادئ الإسلام) هكذا قال ..وإن اختلف معه البعض فى أن يكون (العدل)وهو صاحب هذا التوصيف الجميل...الجزء الثالث والأخير يتناول ما وصفه المفكر الكبير ب (الحريات الأربع)..(العقيدة والرأي والعوز والخوف)..ستقرأ عن التحرر من العوز _لاحظ التعبير_ كلاما يفوق الوصف فى روعته وقوته بمسحه ضافية من التفكير والتأمل العميق.لن يضاهيه فى ذلك إلا توصيفه لمعنى التحرر من الخوف .. ولولا ضيق المكان لأفضت فى تلخيص وذكر ما كتبه الرجل بكل عمق و بكل معرفة وعرفان . إدراك الدكتور هيكل خريج السوربون لعظمة الإسلام وشموليته... وجرأته العلمية والسياسية فى أن يكتب ما يوصف(بالحكومة الإسلامية) بدأ فى العام 1935م وبلغة قمته فى عام 1945م حيث كتب فى منزل الوحي وحياة محمد وحياة ابوبكر ...والراصدون للسياق التاريخى وهو مهم للفهم والاستنتاج _ يرون ان هذه الفترة تميزت بالإقبال الكبير لعمالقة الفكر على الدراسات الإسلامية ..العقاد واحمد أمين ومنصور فهمى وهيكل وزكى مبارك .. الى حد ان موجات العلمنة الصاخبة تناولتهم بألسنة السوء فما كان من عملاق العمالقة(العقاد) إلا أن يتقدم لهذه الجولة فيكتب فى مجلة الرسالة عام 1944 (أن الدعاة إلى المبادئ الهدامة يكرهون الكتابة فى بعض الأمور ثم لا يجسرون على الجهر بعلة الكراهة ...فيحاولون الوصول إلى أغراضهم عن طريق غير طريق العقول ..إنهم يضمرون الكراهية الإسلام باطنا وحيث لا يجرؤون على إعلانها ظاهرا ...) يسلم قلمك وعقلك أيها العملاق تعال عش معنا هذه الأيام و ستسمع وترى ممن يقفون (يهزون أقلامهم ) وعفوا للاستعارة الشقية من جيل الفيس بوك... ما نراه الآن ونسمعه ممن(يهزون أقلامهم) يتجاوز قصة الخلاف السياسي مع (فصيل) عاش بينهم قرابة قرن يأكلون ويشربون ويتزاوجون ويتزاملون ويتصادقون معا....العقل الإنساني أشرف وأكبر من أن يٌخدع بذلك ...لقد أغنانا الأستاذ العملاق عن الرد غناء تاما (فيحاولون الوصول إلى أغراضهم عن طريق غير طريق العقول ..إنهم يضمرون الكراهية للإسلام باطنا وحيث لا يجرؤون على إعلانها ظاهرا .) قبل قليل كنت أنقل عن الدكتور هيكل الحريات الأربع التى على رأسها حرية الاعتقاد وهذا مكفول بكل المعاني ..الحرية الثانية هى حرية الرأى ..وهنا أقف وأقول ( إنى اتهم )..كما قال إميل زولا ..لماذا لا تريحونا ب (الجهر) بعلة الكراهة ...؟؟ أهمية هذا الكتاب كما ذكرت أولا تأتى فى الظرف التاريخى الذى تمر به مصر وهى فى حالة الرجوع الكامل الى ما قبل 25 يناير بشراسة وحدة ديكتاتورية (شعبوية)أكثر ..وهذا التوصيف الغريب حقيقى للتفريق بينه وبين الديمقراطية (الشعبية) التى تنفذ وتكون (بالإجراءات العملية) وفق نظم معروفة فى تنظيم وضبط العلاقة بين السلطة والمجتمع ليس كما عهد (ما قبل الديمقراطيات) فى أثينا واسبرطة ..(جماهير الأماسى الصيفية)... ولكن وفق ما توصلت إليه الديمقراطيات الراسخة فى العالم أجمع ..أخذين فى الاعتبار السياق التاريخي الضابط للنمو والنضج والاكتمال.وإلا فلنجلس على شاطئ بحر الحياة نصغي فى صمت الى همس أمواجه المزبدة..