سفير تركيا بالقاهرة يهنئ مصر بذكرى تحرير سيناء    عصام العرجاني باحتفالية مجلس القبائل: شكرا للرئيس السيسى على التنمية في سيناء    اللواء عادل العمدة: لولا الشهداء ما استطعنا استرداد الأرض والكرامة    منسق مبادرة المقاطعة: الحملة تشمل الأسماك واللحوم والدواجن بسبب جشع التجار    أخبار الاقتصاد اليوم: تراجع أسعار الذهب.. وتوقف محافظ الكاش عن العمل في هذا التوقيت.. ارتفاع عجز الميزان التجاري الأمريكي    البنتاجون: الولايات المتحدة بدأت بناء رصيف بحري في غزة لتوفير المساعدات    شوبير يحرس مرمي الأهلي أمام مازيمبى    محافظ الإسكندرية يستقبل الملك أحمد فؤاد الثاني في ستاد الإسكندرية (صور)    عضو «مجلس الأهلي» ينتقد التوقيت الصيفي: «فين المنطق؟»    «اِنْتزَعت بعض أحشائه».. استجواب المتهمين في واقعة العثور على جثمان طفل في شقة بشبرا    «ليه موبايلك مش هيقدم الساعة».. سر رفض هاتفك لضبط التوقيت الصيفي تلقائيا    بيان من النيابة العامة في واقعة العثور على جثة طفل داخل شقة بالقليوبية    بحوث ودراسات الإعلام يشارك بمؤتمر «الثقافة الإعلامية من أجل السلام العالمي»    4 أبراج فلكية يحب مواليدها فصل الصيف.. «بينتظرونه بفارغ الصبر»    محمد الباز: يجب وضع ضوابط محددة لتغطية جنازات وأفراح المشاهير    لهذا السبب.. مصطفى خاطر يتذكر الفنان الراحل محمد البطاوي    خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف مكتوبة 26-4-2024 (نص كامل)    طريقة عمل الكبسة السعودي بالدجاج.. طريقة سهلة واقتصادية    حمادة أنور ل«المصري اليوم»: هذا ما ينقص الزمالك والأهلي في بطولات أفريقيا    رئيس المنتدى الزراعي العربي: التغير المناخي ظاهرة عالمية مرعبة    موقف ثلاثي بايرن ميونخ من مواجهة ريال مدريد في دوري أبطال أوروبا    الجيل: كلمة الرئيس السيسي طمأنت قلوب المصريين بمستقبل سيناء    «القاهرة الإخبارية»: دخول 38 مصابا من غزة إلى معبر رفح لتلقي العلاج    عبد العزيز مخيون عن صلاح السعدني بعد رحيله : «أخلاقه كانت نادرة الوجود»    رغم ضغوط الاتحاد الأوروبي.. اليونان لن ترسل أنظمة دفاع جوي إلى أوكرانيا    بيان مهم للقوات المسلحة المغربية بشأن مركب هجرة غير شرعية    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    يقتل طفلًا كل دقيقتين.. «الصحة» تُحذر من مرض خطير    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    عالم أزهري: حب الوطن من الإيمان.. والشهداء أحياء    بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. تعرف على مواقيت الصلاة غدًا في محافظات الجمهورية    جوائزها 100ألف جنيه.. الأوقاف تطلق مسابقة بحثية علمية بالتعاون مع قضايا الدولة    انخفضت 126 ألف جنيه.. سعر أرخص سيارة تقدمها رينو في مصر    هل الشمام يهيج القولون؟    فيديو.. مسئول بالزراعة: نعمل حاليا على نطاق بحثي لزراعة البن    وزارة التموين تمنح علاوة 300 جنيها لمزارعى البنجر عن شهرى مارس وأبريل    أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية بالاستفزازية    10 ليالي ل«المواجهة والتجوال».. تعرف على موعد ومكان العرض    هشام نصر يجتمع مع فريق اليد بالزمالك قبل صدام نصف نهائي كأس الكؤوس    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    إدريس: منح مصر استضافة كأس العالم للأندية لليد والعظماء السبع أمر يدعو للفخر    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    هل تحتسب صلاة الجماعة لمن أدرك التشهد الأخير؟ اعرف آراء الفقهاء    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    النيابة العامة في الجيزة تحقق في اندلاع حريق داخل مصنع المسابك بالوراق    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    إصابة 3 أشخاص في انقلاب سيارة بأطفيح    الرئيس السيسي: خضنا حربا شرسة ضد الإرهاب وكفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    التجهيزات النهائية لتشغيل 5 محطات جديدة في الخط الثالث للمترو    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    خبير في الشؤون الأمريكية: واشنطن غاضبة من تأييد طلاب الجامعات للقضية الفلسطينية    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    ملخص أخبار الرياضة اليوم.. إيقاف قيد الزمالك وبقاء تشافي مع برشلونة وحلم ليفربول يتبخر    الهلال الأحمر يوضح خطوات استقبال طائرات المساعدات لغزة - فيديو    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كانت كل حياتى .. الصحافة!
نشر في محيط يوم 15 - 05 - 2013

سألنى صاحبى عن الصحافة فى حياتى . وكأن الصحافة لم تكن كل حياتى !
أذكر نفسى طفلاً صغيراً لم يتعد الثانية عشر من عمره . أدخر طوال الاسبوع من مصروفى . ما يمكننى فى نهاية الاسبوع . من شراء مجلة الأطفال . أقرأها أول مرة بلهفة . وأعيد قراءتها مرات ومرات بنفس اللهفة .
مجلات الأطفال هى التى فتحت عينى على عالم خيالى ساحر . كان هو أول دنيا أعرفها . ومازلت رغم الشيخوخة التى طرقت أبوابها . أغمض عينى فأرحل عبر الخيال فى ذلك العالم الساحر . الذى تفتحت عليه براءة الطفولة !
كنت طفلاً هادئاً ضئيل الحكم . خلقنى ربى على شكل ابعدنى عن شقاوة الأطفال . التى لا أستطيع مشاركتهم فيها . واكتفى بالبقاء بعيداً وأنا أنظر اليهم يتسابقون ويجرون ويتصارعون .
ولم يكن لدى سوى هذه المجلات . وبعض كتب وروايات . كانت هى حضن طفولتى . وعاشت معى حتى هذه اللحظة .
وفى دراستى الابتدائية كتبت فى كراسة المدرسة . أول قصة قصيرة . أرسلتها الى مجلة أطفال. وفوجئت بهم ينشرونها . ويطلبون منى الذهاب . لاستلام جائزة القصة . وكانت جنيهاً واحداً . سلمنى إياه. الراحل نعمان عاشور .
وفى الثانوى شاركت فى جماعة الصحافة . وفزت بجائزة مسابقة كبيرة . بين كل المدارس . وتسلمت الجائزة . من أستاذى الكبير الراحل على أمين . على مسرح مدرسة هدى شعراوى بالقصر العينى .
كان أبى يتمنى أن أكون طبيباً . كان يحلم بذلك ويتحدث عن ابنه الدكتور . طوال الوقت .
وفى الثانوى أجبرنى على دخول القسم العلمى . حتى ألتحق بكلية الطب .
لكن كنت أهرب من حصص الكيمياء والطبيعة . واتسلل الى فصول الأدبى . وأستمع الى دروس التاريخ والفلسفة !
ونجحت فى الثانوية . وأهلنى مجموعى للالتحاق بكلية طب الاسنان . ذهبت أوراقى اليها .
وكاد حلم أبى أن يتحقق . لكن فى نفس التوقيت أغلق قسم الصحافة . فى كلية آداب جامعة القاهرة . وأعلن عن افتتاح كلية الإعلام . التى أنشأت فى البداية كمعهد . وكان الالتحاق بها يتطلب غير المجموع. امتحانات شفهية وتحريرية .
وفى السر امتحنت فى كلية الاعلام . ونجحت فلم يكن أمامى سوى مصارحة أبى . أننى لا أحب ولا أرغب فى الاستمرار فى كلية طب الاسنان . وأريد الدراسة فى كلية الاعلام .
عايز تبقى صحفى ؟
سألنى أبى بلهجة سخرية واضحة ..
أطرقت برأسى نحو الأرض فى حزن عاجزاً عن الرد .
لكن أبى أنهى الموقف الصعب ببساطة غريبة .
وقال لى : اعمل اللى انت عايزه !
***
لا يعرف أحد سوى تلك المجموعة القليلة . من الدفعة الأولى فى كلية الاعلام . كيف تعرفنا على الصحافة . على يد أساتذة كبار . فى مقدمتهم استاذى الكبير جلال الحمامصى . الذى علمنا مبادىء واخلاقيات الصحافة . أكثر من علومها وأسرارها .
أحببت جلال الحمامصى واحترمته . كان صحفياً رائعاً . وكان يبدو بأناقته واسلوبه فى الحديث. مثل لورد بريطانى صاحب كبرياء . لكن طوال محاضراته كنت لسبب لا ادريه أشاغب وأعارضه .
وجعلنا جلال الحمامصى نصدر جريدة " صوت الجامعة . وطلب أن نكون وزملائى كل أسرة الجريدة . رئيس التحرير طالب . والمحررون طلبة . لكن عندما طلب منا جميعاً أن نقوم ببيعها على طلاب الجامعات . فعلتها مرة واحدة . ثم أعلنت أننى لن أقوم بدور بائع الصحف . وقبلت بحرمانى من الدرجات التى خصصها الأستاذ الحمامصى لمهمة توزيع وبيع الجريدة !
وفى عامى الثانى بكلية الاعلام . أرسلتنى عمتى الى الأستاذ الكبير حسن فؤاد فى مجلة صباح الخير . وبدلاً من تدريبى فوجئت به يطلب من الأستاذ لويس جريس أن أعمل محرراً تحت التمرين . وبدأت فى صباح الخير وأنا لم أزل طالباً . وكانت معظمها موضوعات انسانية تدور حول حياة الناس البسطاء .
وحتى تلك الأيام كانت الصحافة فى نظرى لوحات متعددة بكل ألوان الطيف . ولم أعرف إلا بعد أنها لونين اثنين . هما الأسود والأبيض . وبينهما كل ألوان واقع الحياة الذى يعيشه الناس .
وعرفت أن خيالى شىء ودراما الحياة الحقيقية شىء آخر !
لم أحلم يوماً أن اقابل عملاق الصحافة مصطفى أمين . لكن قدرى شاء لى بعد التخرج فى كلية الاعلام فى العام 1975 . أن يرسلنى استاذى جلال الحمامصى مع عدد قليل من زملائى . للعمل فى أخبار اليوم .
كان رئيس تحرير أخبار اليوم فى ذلك الوقت هو نفسه مصطفى امين . الذى عاد إلى داره بعد تسع سنوات فى السجن .
وكان مدير التحرير سعيد سنبل . الذى تحمس لى وشجعنى . لكنى قبل أن أكمل عامى الأول فى أخبار اليوم . فوجئت بمصطفى أمين يطلب منى أن أعرض عليه . كل ما أكتبه من أخبار وموضوعات .
بدأت أتعرف على مصطفى . وجدت فيه الأستاذ والأب . على يديه تعلمت أسرار مدرسة أخبار اليوم الصحفية . كان يرعانى ويحنو علىً ويعلمنى . وعندما سألوه يوماً فى التليفزيون عن آخر خليفة له فى مدرسته .
قال : الولد ده !
لا اذكر ماذا علمنى مصطفى أمين . لأنه علمنى أشياء كثيرة . كبيرة وصغيرة . كنت كلما كتبت شيئاً أعجبه . كان يضع يده فى جيبه ليعطينى ورقة بعشرة جنيهات . يضع توقيعه عليها . وأخيراً طلبت منه ألا يوقع على النقود التى يعطيها لى .
سألنى بدهشة : لماذا ؟
رددت بالصراحة :
لأنى لا استطيع أن أنفق نقوداً عليها توقيعك !
وكان يتندر أمام زواره ..
قائلاً : أنا ومحمود صلاح نحصل على 5015 جنيهاً فى الشهر !
ويضحك زواره . الذين بالطبع كانوا يعرفون من مرتبه 5 آلاف جنيه . ومن مرتبه 15 جنيهاً !
***
فى دنيا الصحافة ليس سهلا أن تقول "أنا تلميذ مصطفى أمين" . ذلك أنك ولابد بهذه العبارة سوف تضع نفسك فى منطقة عجيبة من المتناقضات والاثارة.
تماما بحجم تاريخ متناقضات اثارة مدرسة "مصطفى وعلى أمين". والتى لا يجروء أحد على الزعم بأنها لم تؤثر - ومازالت – فى الصحافة العربية وليس المصرية فقط .
وقد يكون من الصعب أن يتحدث التلميذ عن أستاذه فى صراحة . اذ يظل التلميذتلميذا والأستاذ أستاذا. لكن أجمل الدروس وأولها التى تعلمتها على يدى استاذى مصطفى أمين كانت أن الصحافة الحقة فريق عمل . لكل احد فيها دوره المهم حتى ولو كان دورا هامشيا.
عندما التقيت لأول مرة. كان الرئيس الراحل أنور السادات قد أفرج عنه بعد أن ظل فى السجن طوال تسع سنات. قام خلالها بكتابة العديد من الكتب التى كانت أشهرها سلسلة كتبه " سنة أولى وثانية وثالثة سجن" الخ. اهدان مصطفى أمين نسخا من هذه الكتب مع اهداء بخط يده يقول فيه " الى زميلى وصديقى محمود ..." . وقد تعجبت كثيرا من أن يعتبرنى الصحفى العملاق زميلا له.
رغم اننى ككنت وقتها صحفيا تحت التمرين .
***
روح الدعابة وهذه الضحكة المجلجلة العميقة ذلك شىء يتميز به مصطفى أمين . وأن كانت ليست ميزته الوحيدة. لكنك ان لم تكن صحفيا واذا كنت لم تلتق به من قبل. يمكنك أن تكتشف ذلك اذا ذهبت للقائه لسبب أو آخر . الرجل طوال عمره كان يسقبل كل يوم عشرات من نماذج البشر المختلفة. هذا غير اصحاب الحاجات والشكاوى الذين ينتظرون حضوره كل صباح . فى مشهد يحفظه جيدا شارع الصحافة. حين يهبط من سيارته السداء فيجدهم فى انتظاره وكل منهم يحمل ورقة كتب بها مشكلته.
لكن زائر مصطفى أمين لابد أولا أن يصعد الى مكتبه الذى لم يتغير منذ سنوات طويلة فى الطابق التاسع بدار "أخبار اليوم" .ثم تلتقى فى حجرة السكرتارية رجلا توسط القامة يمتلىء حيوية ونشاط. هو الأستاذ "كرم" مدير مكتب مصطفى أمين.
والذى كان فى يوم من الأيام زميلا له فى السجن !.
وحين تخطو الى مكتب عملاق الصحافة المصرية سوف تلاحظ من الوهلة الأولى أن الرجل عملاق البنية فعلا هو يجلس الى مكتبه فى صدر الغرفة أمامه أوراقه البيضاء والكتب على جانبى المكتب الذى تتوسطه "محبرة" قديمة لأن مصطفى أمين مازال وفيا للقلم الحبر الذى تخلى عنه الناس. واذا شاءت الظورف أن تشاهده وهو يكتب زاويته الشهيرة "فكرة"، وقد كانت فيما مضى زاوية توأمه الراحل على أمين. وواصل مصطفى أمين كتابتها بعد فاة على أمين. قد تتعجب عندما تجده يضع القلم على الورقة ثم ينطلق فى الكتابة مرة احدة . لا يتوقف الا عندما يضع النقطة الأخيرة فى نهاية المقال .
وقد تحولت "فكرة" الى كتاب مهم من كتب مصطفى أمين الكثيرة، وهى الزاوية التى كان ينتظرها ملايين المصريين كل صباح ، يتنفسون خلال سطورها الحرية والجرأة التى يكتبها بها مصطفى أمين ، الذى تعرض من خلالها وطوال سنوات لقضايا الشعب المصرى والعربى بكل جسارة. وفى يوم من الأيام تسببت "فكرة" واحدة فى أن يمنع الرئيس الراحل السادات مصطفى أمين من كتابة "فكرة" لأكثر من 40 يوما حين كتب عن "هرولة" البعض للانضمام الى حزب الحكومة أيامها .
واذا كان مصطفى أمين قد علمنى فى بداية عملى الصحفى كيف أقرأ "بالمقلوب" اذا جلست الى مكتب أحد المصادر لعلنى أجد فى أوراقه خبرا مهما لجريدتى ، فانه بالقطع لم يعلمنى - ولم يعلم - أننى أقوم بسرقة مقال "فكرة" الذى يكتبه بخط يده بعد أن يذهب الى المطبعة. واحتفظ بعدد كبير من مقالاته مكتوبة بخط يده .
وكان فيما مضى يمارس دعاباته معى وأنا محرر تحت التمرين فيمسك بورقة خالية. ويقول لى:
أنظر هذه الورقة الخالية لا تساوى شيئا غير ثمنها .. فاذا كتب عليها مصطفى أمين تساوى الكثير وتذهب الى المطابع فورا .. اذا كتب عليها واحد مثل حضرتك .. تذهب الورقة فورا الى سلة المهملات .
ثم ينطلق فى نوبة ضحكه اياها .. "هاها .. هاها" !
***
وقد تعلمت الكثير من مصطفى أمين . لكنى ورثت عنه كراهية الظلم والظالمين ، كنت ذات يوم قد سألته مبهورا بشجاعته وجرأته ، ودفاعه المستميت عن الحق والحرية الديمقراطية .
مصطفى بك .. هل كنت هكذا فيما مضى ؟
أغمض الرجل الكبير عينيه برهة وكأنه يستعرض تاريخ حياته .
وارتجف قلبى من امانته حين وجدته يقل لى بمنتهى البساطة : لا.. الزمن علمنى !
لكنى أزعم أنه كان هناك مدرس آخر لمصطفى أمين غير الزمن ، وهو السجن ، يمكننى أن أزعم أن مصطفى أمين آخر ولد فى ليمان طرة. فقد كان مدخنا رهيبا قبل سجنه. وحين وجد أن التدخين سوف يكون نقطة ضعفه فى السجن وقد يستغلها أحد . فقد توقف عن التدخين فورا .
ومازلت حتى اليوم احتفظ بصورة معبرة لمصطفى أمين فى زنزانته بليمان طره . كان الرئيس السادات فى منتصف السبعينيات قد فكر فى هدم الليمان الشهير وتحويله الى متحف ، وذهب بنفسه ليضرب أول معول هدم فى الليمان ، وذهب معه مصطفى أمين الذى طلب أن يرى الزنزانة التى كان محبوسا فيها .
ووقفت أرقبه وهو يفتح باب الزنزانة ويخطو داخلها فى وجل. ثم أشار الى نافذة ضيقة أشبه "بالكوة" فى سقف الزنزانة .
وقال لى : من هنا .. كنت أقوم بتهريب كتبى ورواياتى عندما كانوا يداهمون الزنزانة فى تفتيش مفاجىء !
وعندما طلب المصور الفنان فاروق ابراهيم من مصطفى أمين أن يلتقط له صورة فوتوغرافية داخل الزنزانة ، وحاول فاروق أن يغلق الباب قليلا على مصطفى أمين حتى تبدو الصورة معبرة، فوجئت بمصطفى أمين يندفع فى خوف نحو الباب ، كأنه يخشى أن يغلق عليه باب الزنزانة مرة أخرى .
هو يصيح فى فاروق : افتح .. افتح !
***
لكن أكثر ما كان يجعلنى أقف مشدوها أمام هذا الرجل هو مقدرته الخارقة على تحمل الصدمات والضربات . وما من شك أن مصطفى أمين عانى كثيرا فى حياته ، حتى منذ فترة طفولته وصباه مع توأمه الراحل على أمين . كان الاثنان مهوسيين بالصحافة. تعرضا للاضطهاد والملاحقة والافتراءات والسجن والنفى . لكن مصطفى أمين كان يخرج دائما من المحن أقوى وأفضل . وكانت هذه التجارب القاسية هى خلاصة المداد الذى يكتب به عن الحرية الحق .
أحيانا وحين كنت اهتز من تأثير بعض الضربات التى وجهت لى، لم أكن أجد ملاذا سوى مصطفى أمين ، وذات مرة كانت الضغوط أكثر مما أتحمل .
فقلت له: لا أريد الصحافة .. سوف أبحث عن عمل آخر لا أتعرض فيه للظلم . اننى انسان بسيط لا قبل لى بالصراعات .
ابتسم عملاق الصحافة وقال لى :
أنت الآن تذكرنى بالفنان الراحل عبد الحليم حافظ ..كثيرا ما كان يأتينى حزينا ويجلس الى نفس المقعد الذى تجلس اليه الآن. ويشكو لى من الظلم والاضطهاد محالات البعض لتشويه صورته ، لا أستطيع أن أعطيك سوى نفس النصيحة التى أعطيتها ذات يوم لعبد الحليم حافظ.. أجمع كل الحجارة التى يقذفونك بها .. واصنع منها هرما تقف فوقه.. ستظل دائما أعلى من قصار القامة الحاقدين .. وأعلم أنهم لا يقذفون بالأحجار سوى الأشجار المثمرة .
كم مرة يا أستاذ عملت بنصيحتك ، لكن النصيحة وحدها لا تكفى . وبعض الجروح لا تشفى حتى بدواء الزمن . ولقد خلق الله الناس بقدرات ميز بها البعض عن الآخر. ولهذا يظل الأستاذ أستاذا . والتلميذ تلميذا !
***
وفى أخبار اليوم الدار والجريدة عرفت وتعلمت على ايدى اساتذة كبار فن الصحافة . أستاذى موسى صبرى . أستاذى إبراهيم يونس . ثم أخى وصديقى الكبير وجيه أبو ذكرى. الذى أحببته وأحبنى. ولى معه حكايات وحكايات .
وتغيرت أشياء كثيرة فى مشوارى فى شارع الصحافة .
عندما عرفت أستاذى ابراهيم سعده . والذى عينه الرئيس أنور السادات رئيساً لتحرير أخبار اليوم . واعترض البعض ممن كانوا يكبرونه سناً . لكن ابراهيم سعده كان صحفياً موهوباً وكاتباً خطيراً .
تحمس لى منذ البداية وعندما أصبح رئيساً للتحرير .
عرضت عليه أن أكتب أول صفحة حوادث كاملة . فى الصحافة المصرية والعربية .
ووافق ابراهيم سعده . وثق فى وشجعنى . وكنت أكتب قصص صفحة الحوادث باسلوب القصة الانسانية . فأعجب بها القراء . وجاء يوم كانت جريدة " أخبار اليوم " يفتحها القارىء من الخلف . من الصفحة الرابعة عشر . صفحة الحوادث .
ولم يعتمد ابراهيم سعده على عملى فى الحوادث فقط . بل كان يكلفنى بالعديد من التحقيقات الصحفية فى مصر وخارج مصر . كنت قد شاركت فى حملة مطاردة تجار المخدرات . وتعرضت للموت واطلاق الرصاص أكثر من مرة . وتلقيت تهديدات بقتلى وخطف أطفالى .
وسافرت لتغطية أحداث آخر سنة فى الحرب الأهلية اللبنانية . وهناك أيضاً تعرضت لخطر الموت . لكنى خرجت من لبنان . بصداقات جميلة مع شخصيات رائعة . أهمها فيروز سفيرة لبنان الى القمر .
ثم كانت تجربة إصدار جريدة " أخبار الحوادث " الانجاز الأهم فى حياتى الصحفية .
كانت دار " اخبار اليوم " قد تحولت مع السنوات الى بيتى الحقيقى . ولم أكن وحدى الذى شعر بهذا الاحساس . ومع الأيام زاد اعتماد ابراهيم سعده على اخلاصى وعملى . حتى رشحنى لرئاسة تحريرها . لكنى شكرته واعتذرت . وعندما سألنى أى اصدار اذن أريد أن أرأس تحريره .
وجدت نفسى أقول دون أن أدرى : آخر ساعه !
***
كنت قد أجريت عملية القلب المفتوح فى لندن . عقب تغطيتى الصحفية لحادث مجزرة الدير البحرى فى الأقصر . وفور أن توليت رئاسة تحرير " آخر ساعه " . طلب منى إبراهيم سعده تنفيذ خطة لتطويرها .
قمت باعادة حجم المجلة إلى الحجم الذى أصدرها عليه مؤسسها أمير الصحافة محمد التابعى. واجتهدت مع زملائى فيها . الكبار والصغار فى السن لتطوير المادة الصحفية .
وعاصر القراء أغلفة مميزة لآخر ساعه الجديدة . منها غلاف البابا شنوده وهو يبكى أمام صورة الشيخ الشعراوى بعد وفاته . وعليها عبارة "سلام يا صاحبى"!
وأيضاً أغلفة سعاد حسنى التى قالت فيها أنها " راجعة مصر " ثم الغلاف الذى ظهر ثانى يوم مصرعها وعليه كلمة "قتلناها"!
عشت فى آخر ساعه أجمل أربع سنوات فى عمرى الصحفى . جلست على المقعد الذى جلس عليه محمد التابعى ومصطفى أمين وعلى أمين . ومحمد حسنين هيكل وأنيس منصور وغيرهم من عمالقة الصحافة فى مصر .
وعدت من آخر ساعه إلى "أخبار الحوادث" رئيساً لتحريرها . ومحرراً فيها .
بعد مشوارى عمره 35 سنة فى شارع الصحافة .
شاب شعرى .
وانكسرقلبى .
وتعبت اقدامى .
لكنى مازلت لا اشعر أننى على قيد الحياة .
إلا إذا .. أمسكت بقلمى !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.