* الفيلم محاولة جادة لإعادة الجمهور العربى للسينما المصرية.. وجائزة مهرجان دبى تغاز منة شلبى المتألقة * العمل يضع ربيع 2011 على المحك.. وهالة خليل تشعرنا أن الحلم ولد ومات دون أن يلمسه أحد إذا حاولت السينما المصرية على طريقة «نوارة» للمخرجة هالة خليل، قطعا ستشفى من أمراضها، التى لازمتها خلال السنوات الأخيرة، وسوف تسترد عافيتها، وجمهورها المتشوق لها فى بلاد العرب. هالة خليل فى فيلمها الجديد الذى عرض على شاشة مهرجان دبى السينمائى الدولى منافسا على جأئزة «المهر الطويل»، تقدم عملاً فنياً مدهشاً، وطازجا عن حال المجتمع المصرى خلال ثورة 25 يناير، وبالتحديد من ربيع 2011، بواقعيته التى تضاهى فى جمالها واقعية السينما الإيطالية فى مرحلتى الخمسينيات والستينيات، فها هى تطرح أمامنا نماذج لبشر حقيقى ينبضون حياة، يتألمون فنشعر معهم بالوجع، يبتسمون، نحس بشريان بهجة يسرى فى عروقنا، وبين الحالتين، هناك لحظات محيرة تضعنا على المحك، لا نعرف إذا نعيش الحياة أم فارقناها. قدمت هالة خليل قضيتها بجرأة، حيث صورت مصير وطن قبل وبعد الثورة، وكيف أن هذا المصير ربما لم يشهد تغييرا، خاصة فى واقع ومحيط الطبقة الفقيرة، التى عانت من قبل ومن بعد، فبطلة قصتنا «نوارة» فتاة من طبقة شعبية دنيا، تعيش مع جدتها التى تكافح لأجل توفير بعض المال لتجهيز كفنها، وتحلم بوجود ماء يكفى غسلها لحظة الرحيل، حيث لم تدخل المياه الحارة حتى اللحظة، «نوارة» تكافح هى الأخرى، حيث تعمل خادمة عند أسرة أسامة بيه «محمود حميدة» وهو أحد رجال الأعمال الكبار فى عصر مبارك وتضم زوجة «شيرين رضا» وولد يعيش فى لندن، وابنة، ويأخذنا السرد الدرامى لتبعات الأيام الأولى لثورة يناير، حيث نسمع عبر الإذاعة وعلى شاشات التليفزيون أخبار كثيرة عن الأموال المهربة للخارج، وكيفية استردادها، ونسمع وعود مسئولين بأنه فى حالة عودتها سيكون نصيب كل مائتى ألف جنيه، وهو الحلم الذى يتسرب إلى وجدان أهل الحارة المعذبين فى الأرض، وكيف يوقظ بداخلهم الأمل، «نوارة» التى عقد قرانها على «على» منذ خمس سنوات، ويحلمان بشقة صغيرة يتزوجان بها، و«على» أيضا يريد توفير مصاريف علاج والده، وأهل الحارة لا حديث لهم سوى عن هذا الحلم، والذى لم ولن يتحقق. نجحت المخرجة أن تنقل لنا الحارة المصرية وأنفاس أهلها المجهدة من الإحباطات برؤية شديدة الواقعية، وتذكرنا بواقعية ابو سيف فى ثوب معاصر، مثلما استطاعت أن تصور عالم الأثرياء متمثلاً فى أسرة رجل الأعمال، فصورة العالميين جاءت معبرة تماما عن لحظات الإدانة الكبرى لنظام مبارك، والفرحة بعزل الرئيس سواء كانت تلك الفرحة بوعى أو بلا وعى، كما أدان الفيلم أيضا عبر سيناريو ذكى لهالة خليل أيضا، حال السلطة بعد الثورة، وكيف أن حال هؤلاء الفقراء لم يتغير، حيث شاهدنا مجموعة من اللقطات المعبرة عن انهيار مجتمع، وجدنا حال المستشفى الذى يرثى له، عندما ذهب على بأبيه لإجراء جراحة عاجلة، فلم يجد سريرا، وشاهدنا كيف أن المرضى ملقون على الأرض وفى دورات المياه ينتظرون دورهم، وكيف أن الحارة ليس بها مياه، وفى مشهد النهاية، حيث يأتى مسئول نيابة الأموال العامة ليقتحم فيللا أسامة بيه الذى ترك البلد مثل باقى رجال الأعمال ومعه كل أمواله، حيث يتم التحفظ على الفيللا، وبينما لم يجد الضابط أى أوراق أو مفردات ثورة تخص رجل الأعمال الهارب، يأمر بالقبض على الخادمة «نوارة»، بعد أن وجد معها عشرين ألف جنيه، كانت قد منحتها إياها صاحبة المنزل لمساعدتها فى زواجها، ولضمان أن «نوارة» لن تترك الفيللا حتى لا يشعر أحد بهروب أصحابها، الذين استشعروا التحول الخطر فى مصر، فقرروا السفر من البلاد وترك «نوارة» وحيدة لرعاية منزلهم الفاخر أثناء غيابهم. المهم يتهم الضابط نوارة بالسرقة، ويأخذها فىى بوكس الشرطة، ونراها فى مشهد مؤثر للغاية تنادى من خلف شباك السيارة على حبيبها «ما تسبنيش يا على»، وكأن من دفع ثمن سياسة الظلم قبل الثورة، هم أيضا من يدفعوها بعدها. المشهد بحق كان رائعا، وقال كل شىء منبها ومحزرا وشاهدا، وملهما وطارحا سؤال كبير حول مصير ثورة قامت تنادى «كرامة.. حرية.. عدالة اجتماعية»، فنوارة التى تنتقل كل يوم فى رحلة الذهاب والعودة بين حارات حيها الفقير، وطرقات وفيللات الكومبوند حاملة بين هذا العالم، وذاك هموم طبقتها البسيطة، لم تكن تعلم أن ربيع 2011 سوف يأتيها بما لم تكن تتوقعة. داخل قاعة العرض صفق الجمهور طويلاً لأسرة « نوارة »، فقد استطاعت هالة خليل أن تؤكد موهبتها الكبيرة فى فى تجربتها الثالثة بفيلم حقيقى وانسانى عن الثورة دون افتعال، ويمكن وصفه أيضا بأنه سياسى، فقد ولد الحلم ومات دون أن يلمسه حتى أحد، كان السرد الدرامى سلسا، ومنحت بطلتها فرصة لتلهمنا بواقعها المؤلم والحالم، فنوارة بالنسبة لها هى مصر، وقد جسدت منة شلبى دورها باقتدار شديد على طريقة النجمات الكبار، وكشفت عن نضج واضح بلا شك، وأمسكت بالشخصية، وأضافت لها من نكهتها الفطرية الخاصة واقعية وتلقائية، وهذا سر براعتها، وربما يقربها هذا الدور من جائزة التمثيل ليس فى دبى فقط، وربما فى مهرجانات أخرى قادمة، خاصة أن الجمهور صفق لها طويلا، بل اعتبرها تستحق أوسكار، أيضا أضاف محمود حميدة بطولته الخاصة بأداء أكثر عمقا لشخصية رجل الأعمال القريب من السلطة، بينما كسبت شاشة السينما المصرية بطلاً بمواصفات خاصة ونكهة مصرية تتفجر بالموهبة، وهو أمير صلاح الدين، الذى صور لنا بعمق معاناة الشاب المقهور والمغلوب على أمره فى هذا الوطن، رغم تمسكه بقيم كبيرة، ورجاء حسين فى دور جدة نوارة التى عكست ملامح قسوة زمن وقهره، بينما كان لألهام موسيقى ليلاً وطفة وكان لبراعة تصوير زكى عارف، ونبض مونتاج منى ربيع، وكذلك تفاصيل لديكور والملابس.