فى عدة مقالات حدثنا الزميل يسرى فودة عن «شيخوخة دولة عبدالناصر الإعلامية» ورغم ان العنوان لا يوحى بأن «دولة عبدالناصر الإعلامية» كما يسميها كانت دولة معتلة أو فاسدة فى صباها وشبابها إلا أن هذه المقالات لم تستثن أى مرحلة من حياة هذه «الدولة» عن الاتهام القاسى بكل ما يشين هذا الإعلام ويجرده من أى فضيلة ويراه فاقدا لكل المعايير المهنية. ويبدو أن الزميل يسرى فودة قد استسلم لمواهبه الشعرية وأغراه جرس الكلمات ورنين العبارات فأطلق حكما قاطعا مانعا على هذا الإعلام ووصمه بكل نقيصة وجرده من أية حسنة. ويعلم الزميل يسرى أن مثل هذا الحكم «العام» يتناقض تماما مع القواعد والمعايير المستقرة سواء فى الإعلام أو فى أى شأن آخر، هذه القواعد التى ترفض بحسم تعميم الأحكام. أنا هنا لا أدافع عن «دولة إعلام عبدالناصر» حسب تعبير فودة، ولكننى أتعامل مع ذلك الإعلام بموضوعية تأخذ فى الاعتبار الظروف التاريخية السائدة فى تلك الفترة، وأدرك بوعى كامل الأخطاء الكبرى التى ارتكبها «إعلام عبدالناصر»، بنفس القدر الذى أرى فيه بكل وضوح النجاحات الباهرة التى حققها هذا الإعلام فى تلك الفترة. دفعنى للتعقيب على مقالات فودة ان الجماعة الإعلامية هذه الأيام تكاد تنشطر إلى جماعتين. الجماعة الأولى: تطالب بضرورة فرض القيود الثقيلة على حرية التعبير عامة وعلى حرية الإعلام بشكل خاص بمنطق ان الإعلام بلغ درجة عالية من الانفلات وان بعضه يتسقط أخطاء طفيفة ويضخمها بهدف عرقلة جهود القيادة السياسية التى تسعى لإنقاذ الوطن من أخطار جسيمة تهدده. وهؤلاء يقدمون فترة عبدالناصر ونفوذ الإعلام القوى فى هذه الفترة، وسيطرة القيادة السياسية على توجيه هذا الإعلام، باعتباره النموذج الذى يريدون تطبيقه هذه الأيام. الجماعة الثانية: تهاجم إعلام عبدالناصر بقوة وتراه إعلاما فاسدا وسيئا فى كل ممارساته، واعتقد أن هذا الهجوم غير المنطقى لتعميمه هو رد الفعل على دعوات تقييد الحريات التى تدعو إليه الجماعة الأولى. لهذا رأيت أن الانصاف للإعلام فى عهد عبدالناصر ان أذكر (بتشديد الكاف) الأخ يسرى فودة بإنجازات رائعة حققها الإعلام فى عهد عبدالناصر لعل الذكرى تنفع الأخ يسرى. إعلام عبدالناصر كما يسميه الأخ يسرى فودة فرضت عليه الظروف السياسية فى تلك الفترة ان يتخلى عن قواعد «مهنية» مستقرة وان يمارس خطابا إعلاميا «تعبويا» مخالفا بذلك كل القواعد والمعايير المهنية الإعلامية. وقد حقق هذا الإعلام انجازات بالغة الروعة ظل الظروف السائدة فى تلك الفترة، ومن هذه الإنجازات: 1 تم توظيف هذا الإعلام بكفاءة عالية ليساهم بقوة فى دعم قوى المقاومة الوطنية فى البلاد العربية وفى آسيا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا. 2 تحولت استديوهات الإذاعة المصرية فى تلك الفترة إلى «غرف عمليات» للمقاومة الوطنية فى هذه القارات، وكان القادة السياسيون لقوى المقاومة فى تلك البلاد يوجهون نداءاتهم وتوجيهاتهم لقوى المقاومة فى بلادهم عبر أثير الإذاعات المصرية وبلغات هذه الشعوب، (بلغ عدد الإذاعات الموجهة أكثر من ثلاثين). وحفظت أفريقيا الجميل لمصر، وعندما وقع العدوان الإسرائىلى على مصر عام 1967 قطعت جميع البلاد الأفريقية علاقاتها مع إسرائيل برغم النفوذ الإسرائيلى والغربى فى تلك البلاد، ولم تزل آثار هذا العرفان باقية حتى اليوم. 3 يوم عزل الاستعمار الفرنسى الملك محمد الخامس ملك المغرب ونفاه.. قاد الزعماء الوطنيون المغاربة من استديوهات الإذاعة المصرية حركة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسى حتى اضطر تحت ضغط المقاومة ان يعيد الملك إلى عرشه وان ترحل القوات الفرنسية المحتلة عن المغرب. 4 بعد ان اتم بن بللا ورفاقه الإعداد لبدء ثورة الجزائر، كان هؤلاء الزعماء يجلسون فى أحد استديوهات الإذاعة المصرية ليعلنوا «البيان الأول» للثورة الجزائرية فى ساعة الصفر المتفق عليها والتى كانت تهبط فيها على أحد شواطئ الجزائر أول مجموعة من جيش التحرير الجزائرى، وظلت الإذاعة المصرية هى الذراع الإعلامية لثورة الجزائر حتى النصر. 5 حدث نفس الأمر مع ياسر عرفات «أبوعمار» عندما أعلن بدء عمليات منظمة التحرير الفلسطينية. وعلى الصعيد الداخلى قاد هذا الإعلام خطابا تنويريا بكل ما تعنيه الكلمة، رغم كل القيود على التعبير فى المجال السياسى المباشر، ومن امثلة ذلك: 1 حديث السهرة فى البرنامج العام كان مكرسا لكل رموز التنوير وفى مقدمتهم طه حسين عباس محمود العقاد زكى نجيب محمود والدكتور محمد مندور وآخرون. وكان حديث الصباح ينافس بكوكبة من إعلام الفكر الدينى المستنير وفى مقدمتهم الشيخ محمود شلتوت والدكتور محمد عبداللطيف دراز والشيخ فرج السنهورى والدكتور محمد البهى وآخرون. 2 ساهمت الأعمال الدرامية بقوة فى عملية التنوير فقدمت التمثيليات والمسلسلات عن حياة قاسم أمين هدى شعراوى وغيرهم. 3 عندما اشتدت هجمة بعض الفرق المتشددة دينيا على رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ ولم تستطع دور النشر طباعة وتوزيع هذه الرواية فى مصر، قامت اذاعة صوت العرب بإعداد الرواية فى مسلسل إذاعى تمت إذاعته برغم المعارضة الشرسة للجماعات الدينية. (إذاعة لم تر النور) كان إعلام عبدالناصر حسب وصف فودة يخطط عام 1966 لتصحيح الأخطاء التى وقع فيها فى مجال الإعلام. وبدأ بالفعل الإعداد لإطلاق إذاعة تلتزم بكل المعايير المهنية وفى المقدمة منها التدفق الحر للأخبار وحرية التعبير وحرية التعبير بما فيها من نقد ومعارضة القيادة السياسية. وتمت التجارب، وسجل اللحن المميز للإذاعة التى كان من المقرر أن تسمى «الطليعة العربية» وكان لحنها المميز مطلع أغنية عبدالوهاب «كل اخ عربى اخى»، وقد سجل اللحن المميز بتوزيع الموسيقار الشهير اندريار ايدر، وسجل الفريق الذى تولى تنفيذ هذه التجربة العديد من البرامج. وتم حجز ساعتين على موجة إذاعة الشرق الأوسط ليبدأ البث يوم 23 يوليو عام 1967، وحدثت الهزيمة الثقيلة لمصر فى 5 يونيو من نفس العام، فتوقف المشروع، لكن دلالته تظل صالحة لتستشهد بها على ان نظام عبدالناصر أدرك خطأ تقييد حرية الإعلام. وهنا أتوجه للجماعة الأولى التى ترى أن تقييد عبدالناصر لحرية الإعلام وإخضاع هذا الإعلام للسلطة التنفيذية كان سببا فى تمكين عبدالناصر من تحقيق انجازاته الكبرى ويريدون ان يكرروا التجربة. اتوجه إلى هؤلاء باعتراف عبدالناصر العملى بخطأ هذا التوجه، ورغبته فى إطلاق إعلام يتمتع بالحرية والمهنية وانه بدأ فعلا خطوات أولى لتنفيذ هذا الاتجاه غير أن ظروف هزيمة 1967 ووفاته لم تمكناه من تحقيق هذا الهدف. أما الجماعة الثانية والتى تعبر عنها مقالات الزميل يسرى فودة فإننى أتوجه إليهم بسؤال، هل استطاع إعلام عبدالناصر أن يحقق هذا النفوذ الهائل وان يكسب ثقة الملايين بالخداع وتزييف الحقائق؟!. لو صدقنا هذا الادعاء فمعنى هذا ببساطة أن هذه الملايين من المصريين والعرب بلغ بهم الغباء والسذاحة حدا لا يصدقه عقل. أرجو أن نبتعد عن الأحكام المطلقة وان نتعامل مع أمورنا بقدر معقول من الموضوعية التى ترى الخطأ والصواب فى ظل تجربة إنسانية لنتمكن من البناء على الصواب ونعظمه ونعرف أسباب الخطأ فنتجنب الوقوع فيه. لم يبق إلا أن أتوجه بكل التقدير للزميل يسرى فودة فمساهماته الإعلامية لا يقلل من أهميتها منصف. اقرأ أيضا شيخوخة دولة عبد الناصر «الإعلامية» (1-4) شيخوخة دولة عبد الناصر «الإعلامية» (4-2) شيخوخة دولة عبدالناصر «الإعلامية» (3-4) شيخوخة دولة عبدالناصر «الإعلامية» (4-4) شيخوخة دولة عبد الناصر «الإعلامية» - الآن