ترامب: "الشيوعي" زهران ممداني يريد تدمير نيويورك ولن أسمح بذلك    يحمل آمال العرب، الهلال يواجه فلومينينسي في افتتاح ربع نهائي مونديال الأندية 2025    إعلام فلسطيني: ارتقاء 3 شهداء بينهم طفلة إثر قصف خيام جنوبي قطاع غزة    السفير ماجد عبد الفتاح عن إصلاح مجلس الأمن: أبقى قابلني.. الأمم المتحدة تمر بأسوأ حالاتها منذ 40 عاما    «الجبهة الوطنية» يجتمع بمرشحي الحزب في انتخابات الشيوخ لوضع اللمسات الأخيرة    «نعم القائد وأسطورة».. مدرب شيكابالا السابق يوجه رسالة له بعد اعتزاله رسميا    حبس قائد سيارة نقل ذكي تحرش بأجنبية بالسيدة زينب    زاد عن الحد الأدنى للأجور ب 30 مثلا، زيادة راتب رئيسة البيرو تثير غضب المواطنين    الصحة بشمال سيناء: فرق طبية شاملة لشواطئ العريش حتى نهاية الصيف    سعر الذهب اليوم الجمعة 4-7-2025 بعد هبوط عيار 21 ب300 جنيه خلال 16 يومًا    أصالة لزوجها بعد نجاح ألبومها «ضريبة البعد»: «بحبك يا أحن وأعظم شريك»    أسعار الفراخ اليوم الجمعة 4-7-2025 بعد الهبوط وبورصة الدواجن الرئيسية الآن    نشرة التوك شو| احتمالية لتعرض مصر ل"تسونامي" وموعد طرح 110 ألف وحدة "سكن لكل المصريين"    رئيس اتحاد المهن الطبية: نقف على مسافة واحدة من جميع النقابات    مصدر من الأهلي يوضح ل في الجول حقيقة التفاوض لضم مصطفى محمد    صافرة ظابط شرطة تحسم حلم التأهل لنصف نهائى المونديال بين الهلال وفلومينينسي    "لم يكن يحتفل قبل الحادث ولهذا ذهب شقيقه معه".. معالج جوتا يروي الساعات الأخيرة في حياته    "قلت له مش هقعد".. شيكابالا يكشف حقيقة تدخله لرحيل كريستيان جروس عن الزمالك    يوم طار باقي 9 أيام، إجازات الموظفين في شهر يوليو 2025    الإيجار القديم.. هل يحق للمستأجر الحصول على شقة من الدولة؟    حالة الطقس اليوم الجمعة، شديد الحرارة ورياح على هذه المناطق    ملاكي طائش دهسه.. التصريح بدفن جثة الطفل "عبدالله" بشبين القناطر    ترامب: المحادثة مع بوتين لم تحرز تقدما.. وأريد الآمان لغزة    فردوس عبد الحميد: سعيدة برد فعل الولاد الصغيرين على "حرب الجبالي" وحاولت أصاحبهم علشان يعرفوا شكلي واسمي    ردد الآن| دعاء صلاة الفجر اليوم الجمعة 4 يوليو 2025.. اللهم أجرنا من النار، واصرف عنا كل مكروه، وأرض عنا يا أرحم الراحمين    وزير الأوقاف: اغتيال الدكتور مروان السلطان وأسرته جريمة حرب مكتملة الأركان    أضرار النوم الكثير، أمراض القلب والاكتئاب وضعف المناعة    أخبار مصر اليوم: شروط الحصول على معاش ربات المنزل 2025.. الأرصاد تعلن تلاشي فرص سقوط الأمطار.. تحقيق عاجل في فضيحة اختلاس التعاون    القانون يحدد ضوابط استعمال آلات رفع المياة في البحيرات.. تعرف عليها    بعد وفاة أحمد عامر .. حمو بيكا يشكف حقيقة اعتزاله الغناء    حملة مرورية بالفيوم تضبط المخالفين وتحقق الانضباط.. صور    كرم جبر وعمرو الشناوي يستقيلان من «الوعي».. ورئيس الحزب يعلق    أهالي المنيا يشيعون جثامين الأطفال الثلاثة الذين قُتلوا على يد والدهم    مجدي البدوي: نرفض افتتاح سد النهضة دون اتفاق ملزم يحفظ حقوق مصر المائية    الدكتور حاتم سلامة.. بصيرة تتحدى الظلام ورؤية تصنع الأمل    الفاصوليا البيضاء ب 80 جنيها.. أسعار البقوليات في أسواق الشرقية الجمعة 4 يوليو 2025    اكتشفها خالد يوسف .. من هي ملكة جمال العرب سارة التونسي    «ظهور تلفزيوني»..شيكابالا يبدأ مهمته الجديدة بعد اعتزال كرة القدم    لماذا الإسلام دين السلام؟| عالم بالأوقاف يُجيب    ترامب: أريد أن أرى أهل غزة آمنين بعد أن مروا بالجحيم    رئيس هيئة الاستثمار: المستثمر لن يضطر للتعامل مع 70 جهة.. والمنصة الرقمية تنهي الإجراءات ب 20 يوما    وظائف حقيقية في انتظارك.. أكثر من 2900 فرصة عمل في كبرى الشركات الخاصة ب الشرقية والمحافظات    الشاي ب لبن| أخصائي تغذية يكشف حقيقة أضراره    مهرجان عمّان السينمائى .. خارج النص    "معكم" يعرض مجموعة من الصور النادرة لأم كلثوم ترصد مسيرة كوكب الشرق    ماكرون يهدد طهران بإجراءات انتقامية بسبب اتهام فرنسيين بالتجسس لصالح إسرائيل    شاهد لحظة غرق حفار البترول العملاق فى البحر الأحمر.. فيديو    روبيو يؤكد إبقاء العقوبات الأمريكية على الأسد.. ويبحث مع نظيره السوري ملفات الإرهاب والعلاقات الإقليمية    تصل للحبس والغرامة.. عقوبة تسلق الأثار دون ترخيص (تفاصيل)    "سنة الحياة".. رسالة خالد الغندور لشيكابالا عقب اعتزاله    مراجعة ليلة الامتحان في الرياضيات فرع (الإستاتيكا) للثانوية العامة 2025 (pdf)    كارولين عزمي على البحر ومي عمر جريئة.. لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    خالد الجندي: "عاشوراء" سنة نبوية قديمة ليست مقتصرة على الإسلام    خالد الجندي: شرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يخالف شرعنا    تفاصيل القبض على أصحاب فيديو السباق في مدينة 6 أكتوبر.. فيديو    لميس جابر: الإخوان وضعوني على قوائم الإرهاب وفضلت البقاء في مصر رغم صعوبة فترتهم    مستشفى 15 مايو ينجح فى إنقاذ مريضين في عمليات حرجة تنتهي بلا مضاعفات    أمين الفتوى: التدخين حرام شرعًا لثبوت ضرره بالقطع من الأطباء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من هناك.. هنا دمشق
نشر في الشروق الجديد يوم 19 - 11 - 2015

يمد الشاب النحيل يده بخفة ويصب الماء فى الكأس الكريستال. يرجع بخطوتين إلى الوراء وينتظر الإشارة. يعود فيضع سلة الخبز ويسأل الرجلين إن كانا قد قررا ماذا سيأكلان. «ما أشهر طبق يقدمه مطعمكم؟» يسأل الأول. «هل هذا الطبق نباتي؟» يسأل الثانى. يجيب الشاب بأدب باللغة الألمانية ويكتب اختيارات الضيوف على دفتر صغير، يبتسم ابتسامة خفيفة، يميل برأسه قليلاً إلى اليمين فتقع عيناه على العلبة المربعة الموضوعة على طرف الطاولة، يتوقف الشاب لثوانٍ عن التنفس، يرتبك، ينظر إلى الرجل الأسمر ثم إلى العلبة ثم ينظر إلى الرجل الأشقر ويضع دفتره فى جيب قميصه الأبيض وينسحب بهدوء.
يكمل الرجلان حديثهما بمزيج من اللغتين العربية والإنجليزية، يتذاكران أصدقاءهما المشتركين، مطاعمهما المفضلة فى القاهرة وبيروت ودمشق، فن العمارة فى حلب والإسكندرية، ويعودان بعد ذلك طبعا إلى مواضيع الساعة، الحرب المدمرة فى سوريا والوضع المشحون فى مصر، اشتعال المنطقة وتحول أحلام الأمس إلى كوابيس اليوم.
يعود الشاب بعد دقائق حاملاً طبقين، يخرج منهما البخار، يضعهما أمام الرجلين ويلقى نظرة جديدة على العلبة المربعة. ينظر الرجل الأسمر إليه فيراه مشدوها بالعلبة فيبتسم. يتجرأ الشاب ويسأل بالألمانية «من أين أنتم؟»، فيجيبه الرجل الأسمر بالعربية: «هل أنت من سوريا؟». يرتبك الشاب ثم يبتسم ويقول نعم. «لكنك تتكلم الألمانية بطلاقة» يقول الرجل الأشقر. «درستها بنفسى عبر دروس على شبكة الإنترنت منذ أن وصلت إلى برلين»، يجيب الشاب.
***
يبدأ الرجلان بتذوق الطعام بينما ينتظر الشاب تعليقهما. «من أى جزء من سوريا أنت؟» يسأل الرجل الأسمر. «من دمشق» يرد الشاب وهو يستعيد بعضا من ثقته بنفسه، «أنا هنا منذ ستة شهور، أعمل فى المساء فى هذا المطعم، وأدرس اللغة الألمانية فى الصباح. كنت أدرس فى كلية الهندسة فى دمشق، كنت فى السنة الثالثة».
ينسحب الشاب من أمام الرجلين ليلبى نداء طاولة أخرى.
يعود حين يرى أن الأطباق أصبحت فارغة، وأن الرجلين قد وضعا الشوكات والسكاكين من أيديهما فوق الأطباق. يلم الشاب الأشياء ويلقى نظرة على العلبة، فيلتقط الرجل الأسمر هذه النظرة ويربط الأمور ببعضها، وبحركة سريعة يفتح العلبة، يمزق الغطاء البلاستيكى الذى يلف محتواها ويطلب من الشاب أن يحضر طبقا نظيفا. يعود الشاب بالطبق من المطبخ فيفرغ فيه الرجل نصف محتوى العلبة ويعطيها للشاب السورى فى المطعم فى برلين. العلبة من دمشق، حملها صديق إلى القاهرة، وأخذها زوجى وهو فى زيارة عمل إلى برلين، ليعطيها إلى صديق سويسرى كان قد درس اللغة العربية فى دمشق قبل ثلاثين سنة، وما زال يتحدثها بلهجة محلية يكاد السوريون أن يظنوه واحدا منهم حين يسمعونه يتحدث بها.
يرتبك الشاب، تلمع الدموع فى طرف عينيه وترتجف يداه. «أرجوك أن تشاركنا العلبة، ما فى شى من قيمتك، المهم المشاركة مو القيمة» يقول الرجل الأشقر بلهجة شامية.
يأخذ الشاب الطبق، ويعود بفنجانى قهوة: «هى مشاركتى» يقول الشاب، ويختفى.
فى العلبة حلويات صنعت هناك، فى بلد الموت والفستق، بلد ماء الزهر وماء بردى، بلد المشمش والزيتون والقذائف والبراميل المنفجرة. كل مرة اشعر فيها أن بعض تفاصيل دمشق بدأت تنمحى من ذاكرتى، تتجلى حياتى السابقة أمام عينى على شكل بقلاوة، آكل لقمة فتظهر أمى، أنيقة، جميلة، تحمل صينية القهوة لصديقاتها فى يوم مشمس. أشم رائحة عجينة اللوز فأسمع ضحكات المجموعة هناك، فى البيت، وعبارات يعرفها من عايش تلك الجلسات: «سمعتوا انه أم هشام جوزت بنتها على باريس؟ العريس كتير مرتب، دكتور وطول عمره كان عايش بفرنسا». آخذا رشفة قهوة فى القاهرة فأسمع الجواب «بس أم هشام كانت طلباتها كتيرة، كان العريس رح يهرب لولا انه حابب العروس كتير». أقرمش قطعة حلوى بالصنوبر فأشم رائحة الدخان آتية من مكتب أبى الصغير، أسترق السمع فيأتينى حديثه مع إبن جيله عن العرب والاستعمار وإسرائيل وعبثية قرارات مجلس الأمن.
***
لكن الحديث عن العرب والاستعمار وإسرائيل وزواج بنت أم هشام تنتقل مع انتقال السوريين إلى أماكن سكنهم الجديدة. فالشاب السورى المجتهد فى برلين يحمل معه قطعا آلاف القصص من الحى والحارة والعائلة والبلد، ويحمل معه أيضا أحلاما مؤجلة بدأ يعمل بصبر حتى يحققها. هو يدرس اللغة الألمانية ويعمل كى لا يحتاج للمساعدة، وينوى تقديم أوراقه للدراسة فى الجامعة. «بكرا لما تهدا الأوضاع ونرجع على بلدنا، لازم نكون جاهزين لبنائها من جديد، لازم بلدنا تكون فخورة فينا»، يقول للرجلين على باب المطعم.
الشام لن تسمح لنا أن ننساها. يذوب السكر على لسانى فأقترب من بيتنا هناك، أبلع الحلوى فتعلو أصوات الأحبة، أشارك الصديق فى برلين علبة حلويات سورية فيعطى نصف حصته لشاب سورى قابله فى مطعم، يضيف الشاب القهوة على حسابه الشخصى فيرجع زوجى بقصة جديدة عن التغريبة السورية فى ألمانيا. الشام لن تسمح لنا أن ننساها، لن تسمح أبدا، لن تسمح لنا ولن نسمح نحن لأنفسنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.